التوقيت ليلا وتحديدا منتصف الليل والقصة في مشفى وضمن جناح خاص في المشفى في احد احياء العاصمة المكسيكية فكان الهدوء يخيم على ذلك الممر الابيض ؟
كان الهدوء يخيم على ذلك الممر المعبق برائحة الأدوية والمعقمات , الجميع استسلموا للنوم باكرا , إلا الممرضة الشابة ماريا , كانت تقاوم باستماتة ذلك الزائر الثقيل الذي تعلق بأهدابها محاولا إغلاقها بالقوة .. لكنها أبت أن تسلم قيادها إليه بالرغم من أنها لم تنم جيدا بالنهار . فالطبيب المناوب أكد عليها عدة مرات أن تعطي حقنة لأحد المرضى عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل , أخبرها بأن حياة ذلك المريض تتوقف على الحقنة , لذا حرصت ماريا على البقاء مستيقظة .. لكن للنوم سلوك عجيب , لا أدري إن كنتم قد جربتموه , فهو يتمنع ويتمرد عليكم كلما أردتموه وطلبتموه , فيما تراه ينجذب ويلتصق كالغراء بجفونكم إذا ما قاومتموه وصددتموه!
وهكذا فأن ماريا , كلما قاومت النوم أكثر , كلما تشرب بعيونها أكثر , حتى رفعت الراية البيضاء أخيرا على غير أرادة منها فأسدلت ستار الجفون واستسلمت لغمضة العيون ..
وعندما استيقظت ماريا بعد حين كان أول ما وقع عليه بصرها هو الساعة الجدارية الجاثمة على الجدار في الطرف الآخر من الممر , كانت عقاربها تشير إلى زهاء الثالثة فجرا , فانتفضت مفزوعة , لقد فاتها موعد إعطاء الحقنة ولعل المريض فارق الحياة , فركضت نحو حجرته وقلبها يخفق بقوة , لكن لشدة دهشتها وجدته متمددا على سريره وهو في كامل وعيه , فبادرته قائلة :
- أعتذر كثيرا .. لقد تأخرت قليلا على موعد إعطاءك الحقنة .
فرد المريض مبتسما : لا بأس عزيزتي .. زميلتك قامت بالواجب .
فبهتت ماريا للحظة ثم قالت باستغراب : أي زميلة ؟! .. لا توجد ممرضة أخرى سواي في الجناح الليلة .
فقال الرجل مؤكدا : بلى .. زميلتك الشقراء .. لقد أعطتني الحقنة وغادرت.
- أؤكد لك سيدي بأن ليس هناك سواي ؟ ..
فقال الرجل متعجبا : من كانت إذن تلك الممرضة التي أعطتني الحقنة ؟!
- لا أدري! .. هل تصفها لي رجاءا .
- بصراحة لم أر وجهها جيدا , رأيت شعرها , كانت شقراء , متأكد من ذلك , وكانت ترتدي ثوب الممرضات , لكن ثوبها بدا قديم الطراز بعض الشيء .
لم تجد ماريا ما تقوله سوى أن تمتمت مع نفسها قائلة : عجيب! ..
وبعد أن تأكدت من أن المريض فعلا تلقى حقنته غادرت وعادت لتجلس إلى مكتبها وهي مذهولة مما حصل , فلا أحد سواها يعلم بموعد إعطاء الحقنة كما أنه من المستبعد أن تدخل ممرضة أخرى إلى الجناح دون أن تشعر هي بذلك ..
وحل الصباح أخيرا فانتهت مناوبة ماريا وأتت زميلتها روزا لتحل محلها , و كانت روزا ممرضة قديمة خدمت في العديد من المستشفيات خلال حياتها المهنية الطويلة . وبالطبع قصت ماريا ما حدث معها في الليلة الفائتة , وعلى غير المتوقع لم تستغرب روزا أبدا مما سمعته , بل ردت قائلة بهدوء :
- لابد وأنها "لا بلانشادا" ..
- ومن تكون ؟ ..
- الممرضة الشبح .. ألم تسمعي عنها ؟ .
- ممرضة شبح ؟! .. هل تمزحين معي أو لعلك ترغبين بإرعابي ؟ ..
- لا امزح ولا أرى ما يستدعي الرعب .. لا بلانشدا هي ألطف شبح يمكن أن تصادفيه في حياتك .
- لكني لم أسمع عنها مطلقا .. ما حكايتها ؟ ..
فصمتت الممرضة العجوز لبرهة كأنها تستدعي ذكريات بعيدة , ثم قالت بأسى : حكايتها حزينة , لقد سمعتها في بداية عهدي بالتمريض من بعض زميلاتي المتقدمات بالسن ... يقال بأن أسمها الحقيقي هو اولاليا , وقد عاشت في ثلاثينات القرن المنصرم . كانت شابة جميلة بشعر ذهبي أشقر وعيون تحاكي السماء بزرقتها , وكانت متميزة دوما بملابسها النظيفة والناصعة البياض , وعرفت بطيبة قلبها واهتمامها البالغ بالمرضى وجديتها والتزامها الكبير بعملها كممرضة إلى درجة أنها أحيانا كانت تؤدي مهام زميلاتها الأخريات.
اولاليا كانت ممرضة شابة جميلة .
الكثير من زملائها اولاليا من الرجال , الممرضين , والأطباء أيضا , حاولوا خطب ودها , لكن دون جدوى , فاهتمامها الوحيد كان منصبا على عملها وعائلتها الصغيرة المكونة من والدتها وشقيقها. لكن ذات يوم أنتقل طبيب جديد للمستشفى , كان شابا وسيما فارع القامة وعذب اللسان , تسابقت الممرضات والطبيبات لكسب وده والفوز بقلبه , الوحيدة التي لم تبدي اهتماما به هي اولاليا , كالعادة كانت تركيزها منصبا على عملها والعناية بالمرضى . ولعل هذا الأمر , أي تجاهلها له هو ما جعله ينجذب إليها ويحاول التقرب منها بكل وسيلة , فأصبح يطلبها على وجه الخصوص لكي تكون إلى جانبه أثناء إجراءه للعمليات الجراحية أو مروره بعنابر المرضى .. وبالتدريج .. تمكن من فتح ثغرة صغيرة تسلل منها إلى قلب أولاليا فنشأت علاقة حب جميلة بينها.
الطبيب الوسيم اوقعها في حبائله
ويقال أن الأشخاص الذين لم يعرفوا أو يجربوا العشق في حياتهم سابقا , يكون عشقهم الأول عظيما ومتفجرا كالبركان , لكنه يكون أيضا غرا وساذجا وأعمى , وهذا الوصف ينطبق تماما على سلوك أولاليا حينما وقعت في شراك الحب وتقلبت في حبائله , فعشقها للطبيب الشاب غمرها بسعادة لا توصف حتى أنها لم تعد ترى من هذا العالم المليء بالقبائح سوى جانبه الزاهي المتوهج الألوان , ولم تعد ترى في الآخرين , خصوصا حبيبها , سوى الأمور الإيجابية المبهرة , وهو ما جعلها تتغافل عن الهمس والغمز واللمز من قبل بعض زميلاتهما من أن حبيبها الطبيب الوسيم هو في الحقيقة شاب لعوب لا يتوانى عن مغازلة فتيات أخريات من وراء ظهرها . لكن آنى لأولاليا الغارقة في بحور الهيام أن تصدق هذا الكلام .. ولعلها حسبته نابع عن حسد وغيرة .
و مضت عدة شهور قبل أن يخبرها حبيبها بأنه يود خطبتها والزواج منها , فطارت فرحا بهذا الخبر , لكنه قال بأنه مدعو إلى مؤتمر طبي في مدينة أخرى وأنه سيغيب لمدة أسبوعين , وحالما يعود سيعلنان خطبتهما .
وغادر الطبيب الحبيب إلى مؤتمره فيما بقيت اولاليا تنتظر على أحر من الجمر .. ومرت الأيام تترى .. يوم .. أسبوع .. أسبوعان .. شهر .. شهران .. ولم يعد حبيبها الموعود ..
ماذا جرى يا ترى ؟ .. تساءلت اولاليا مع نفسها كل يوم وهي تمسح الدموع عن عيناها الجميلتان .. ثم حلت الكارثة وجاء الخبر المزلزل الصادم حين علمت من بعض زميلاتها بأن حبيبها وقع في غرام امرأة أخرى في تلك المدينة التي ذهب إليها ليحضر المؤتمر وأنهما تزوجا .. ليس هذا فحسب , بل الأدهى من ذلك أنها علمت بأن حبيبها كان قد قدم استقالته من المستشفى سرا في نفس اليوم الذي سافر فيه لحضور المؤتمر , أي أنه خطط لكل شيء مسبقا , وأن اولاليا لم تكن بالنسبة له سوى مغامرة ونزوة عابرة .
وهكذا بلحظة واحدة هوى برج الأوهام الشاهق الذي شيدته اولاليا في خيالها وتحول إلى ركام وحطام , وتبخرت ألوان العالم الزاهية من عينيها ولم يتبق في الوجود سوى لون واحد رمادي كئيب . لم تعد الحياة كالسابق أبدا , لم يعد لها طعم أو معنى . أصبحت أولاليا غارقة في أحزانها , وسارحة لمعظم الوقت . وبعد أن كانت أفضل ممرضات المستشفى وأكثرهن حرصا والتزاما صارت تتلقى العقوبة تلو الأخرى بسبب إهمالها ونسيانها لواجباتها , ويقال أن إهمالها كان كبيرا لدرجة أنها تسببت إحدى المرات بموت مريض بعد أن أعطته حقنة خاطئة فتم فصلها من عملها , وتزامن ذلك مع موت والدتها وانتقال شقيقها للعيش في العاصمة والاستقرار هناك , فأصبحت وحيدة ومنهكة نفسيا وجسديا , ولم يطل الوقت حتى تسلل مرض خطير إلى جسدها النحيل فانتهى بها الأمر راقدة على أحد أسرة المستشفى الذي كانت هي تداوي المرضى فيها , ويالها من مفارقة حزينة . وما لبثت أن لفظت أنفاسها بعد فترة قصيرة .
اصبحت مريضة في نفس المستشفى حيث كانت تعمل وعلى ما يبدو فأن أولاليا لم تبرح هذا العالم بعد موتها , فبعد بضعة أشهر , بدأت تسري حكايات في أرجاء المستشفى عن شبح ممرضة ذات شعر أشقر تتجول ما بين الردهات والحجرات والأقسام وتظهر أحيانا في حجرة العمليات أو صالة الطوارئ .. وأكثر ما يميزها هو نظافة ملابسها المكوية بعناية والناصعة البياض , ولهذا أطلقوا عليها أسم السيدة اللامعة (La Planchada) .
الغريب أن أغلب من شاهدوا شبحها قالوا بأنهم لم يستطيعوا أن يلمحوا منها سوى شعرها الأشقر وأن وجهها لم يكن واضحا , كما لم يستطيعوا سماع خطواتها وهي تسير لأنها بدت كما لو أنها تطوف أو تمشي على الهواء . والأغرب من ذلك هو أن هذه الممرضة الشبح لم تكتفي بالظهور فقط , بل كانت تعتني بالمرضى أحيانا , خصوصا عندما يتعرضون للإهمال من قبل بقية الممرضات , فتقدم الدواء لمن فات موعد دوائهم , وتعطي حقنة لمن هم بأمس الحاجة إليها , وتعقم الجروح وتلفها بعناية , وتضع الكمادات على جباه أولئك المصابين بالحمى .. وكم من ممرضة مثل ماريا نسيت أو تكاسلت عن تقديم العلاج لمريض ما ثم فوجئت لاحقا بأن هذا المريض تلقى علاجه بشكل صحيح من قبل ممرضة شقراء لا أحد يعرفها . هذا الأمر لم يحدث فقط في المستشفى الذي كانت أولاليا تعمل فيه خلال حياتها , بل أمتد إلى العديد من المستشفيات في طول البلاد وعرضها , وهكذا أصبحت "لا بلانشادا" واحدة من أشهر الأشباح في المكسيك . ومازالت الحكايات عن مشاهدتها مستمرة حتى يومنا هذا .
اصبح شبحها من اشهر الاشباح في المكسيك ؟
البعض في المكسيك يقولون أن قصة اولولايا أقدم بكثير من ثلاثينات القرن الماضي , وأنها في الحقيقة تعود إلى ما قبل أحداث الحرب الأمريكية - المكسيكية عام 1846 , ففي تلك الحرب الطاحنة لم تفقد المكسيك فقط أكثر من نصف أراضيها لصالح الولايات المتحدة , بل فقدت أيضا الكثير من رجالها , إضافة إلى عشرات آلاف الجرحى , وهو ما تسبب بزخم كبير جدا على الممرضات آنذاك بحيث لم تكن تتاح لهن فرصة الراحة ولم يستطعن أن يقدمن العلاج للجميع , ولشدة دهشتهن كن يشاهدن أحيانا بعض الجرحى الذين تأخر علاجهم وكان متوقعا موتهم وقد تحسنت حالتهم وتم تطبيب جراحهم بعناية فائقة , وحين كن يسألن من فعل ذلك ؟ كان الجواب دوما بأنها الممرضة الشقراء التي لا يعرفها أحد!.
أما عن سبب تحول أولاليا لشبح بعد موتها واستمرارها في معالجة للمرضى , فيرى البعض أنه نوع من التكفير عن ذنبها بحق المرضى الذين ماتوا جراء إهمالها وتقاعسها عن واجبها أواخر حياتها.
ختاما ..
خلال السنوات الطويلة التي قضيتها في كتابة هذه المقالات لموقع كابوس , تناولت مرارا قصصا عن أشباح لنساء يقال بأنهن هائمات في هذا العالم بلا هدى , والمفارقة الحزينة , هي أن قصص أولئك النسوة الأشباح تكاد تتشابه في تفاصيلها , فدائما يكون هناك رجل وراء المصيبة التي ألمت بالمرأة في حياتها وحولتها لشبح بعد مماتها! .. وهذه النقطة تدهشني كثيرا , ذلك إننا لا نسمع أبدا عن أشباح لنساء في عالمنا العربي على عكس القصص الكثيرة المتواترة عنهن في جميع بقاء الأرض الأخرى , ولعل هذا راجع إلى كون رجال العرب هم الأرقى والأظرف في معاملة النساء , لذا فأن المرأة العربية سعيدة جدا بحياتها ولا تموت بغصة أبدا .. أود تصديق ذلك بشدة , لكني أعلم جيدا أنه محض هراء .. أو لعل السبب الحقيقي هو أن المرأة العربية ممنوع عليها مغادرة قبرها لوحدها بعد مماتها مثلما هو محرم عليها مغادرة بيتها لوحدها في حياتها! .. أو لعل قصص الأشباح برمتها محض هراء
الله أعلم
بقلم : اياد العطار
ك ا ب و س
كان الهدوء يخيم على ذلك الممر المعبق برائحة الأدوية والمعقمات , الجميع استسلموا للنوم باكرا , إلا الممرضة الشابة ماريا , كانت تقاوم باستماتة ذلك الزائر الثقيل الذي تعلق بأهدابها محاولا إغلاقها بالقوة .. لكنها أبت أن تسلم قيادها إليه بالرغم من أنها لم تنم جيدا بالنهار . فالطبيب المناوب أكد عليها عدة مرات أن تعطي حقنة لأحد المرضى عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل , أخبرها بأن حياة ذلك المريض تتوقف على الحقنة , لذا حرصت ماريا على البقاء مستيقظة .. لكن للنوم سلوك عجيب , لا أدري إن كنتم قد جربتموه , فهو يتمنع ويتمرد عليكم كلما أردتموه وطلبتموه , فيما تراه ينجذب ويلتصق كالغراء بجفونكم إذا ما قاومتموه وصددتموه!
وهكذا فأن ماريا , كلما قاومت النوم أكثر , كلما تشرب بعيونها أكثر , حتى رفعت الراية البيضاء أخيرا على غير أرادة منها فأسدلت ستار الجفون واستسلمت لغمضة العيون ..
وعندما استيقظت ماريا بعد حين كان أول ما وقع عليه بصرها هو الساعة الجدارية الجاثمة على الجدار في الطرف الآخر من الممر , كانت عقاربها تشير إلى زهاء الثالثة فجرا , فانتفضت مفزوعة , لقد فاتها موعد إعطاء الحقنة ولعل المريض فارق الحياة , فركضت نحو حجرته وقلبها يخفق بقوة , لكن لشدة دهشتها وجدته متمددا على سريره وهو في كامل وعيه , فبادرته قائلة :
- أعتذر كثيرا .. لقد تأخرت قليلا على موعد إعطاءك الحقنة .
فرد المريض مبتسما : لا بأس عزيزتي .. زميلتك قامت بالواجب .
فبهتت ماريا للحظة ثم قالت باستغراب : أي زميلة ؟! .. لا توجد ممرضة أخرى سواي في الجناح الليلة .
فقال الرجل مؤكدا : بلى .. زميلتك الشقراء .. لقد أعطتني الحقنة وغادرت.
- أؤكد لك سيدي بأن ليس هناك سواي ؟ ..
فقال الرجل متعجبا : من كانت إذن تلك الممرضة التي أعطتني الحقنة ؟!
- لا أدري! .. هل تصفها لي رجاءا .
- بصراحة لم أر وجهها جيدا , رأيت شعرها , كانت شقراء , متأكد من ذلك , وكانت ترتدي ثوب الممرضات , لكن ثوبها بدا قديم الطراز بعض الشيء .
لم تجد ماريا ما تقوله سوى أن تمتمت مع نفسها قائلة : عجيب! ..
وبعد أن تأكدت من أن المريض فعلا تلقى حقنته غادرت وعادت لتجلس إلى مكتبها وهي مذهولة مما حصل , فلا أحد سواها يعلم بموعد إعطاء الحقنة كما أنه من المستبعد أن تدخل ممرضة أخرى إلى الجناح دون أن تشعر هي بذلك ..
وحل الصباح أخيرا فانتهت مناوبة ماريا وأتت زميلتها روزا لتحل محلها , و كانت روزا ممرضة قديمة خدمت في العديد من المستشفيات خلال حياتها المهنية الطويلة . وبالطبع قصت ماريا ما حدث معها في الليلة الفائتة , وعلى غير المتوقع لم تستغرب روزا أبدا مما سمعته , بل ردت قائلة بهدوء :
- لابد وأنها "لا بلانشادا" ..
- ومن تكون ؟ ..
- الممرضة الشبح .. ألم تسمعي عنها ؟ .
- ممرضة شبح ؟! .. هل تمزحين معي أو لعلك ترغبين بإرعابي ؟ ..
- لا امزح ولا أرى ما يستدعي الرعب .. لا بلانشدا هي ألطف شبح يمكن أن تصادفيه في حياتك .
- لكني لم أسمع عنها مطلقا .. ما حكايتها ؟ ..
فصمتت الممرضة العجوز لبرهة كأنها تستدعي ذكريات بعيدة , ثم قالت بأسى : حكايتها حزينة , لقد سمعتها في بداية عهدي بالتمريض من بعض زميلاتي المتقدمات بالسن ... يقال بأن أسمها الحقيقي هو اولاليا , وقد عاشت في ثلاثينات القرن المنصرم . كانت شابة جميلة بشعر ذهبي أشقر وعيون تحاكي السماء بزرقتها , وكانت متميزة دوما بملابسها النظيفة والناصعة البياض , وعرفت بطيبة قلبها واهتمامها البالغ بالمرضى وجديتها والتزامها الكبير بعملها كممرضة إلى درجة أنها أحيانا كانت تؤدي مهام زميلاتها الأخريات.
اولاليا كانت ممرضة شابة جميلة .
الكثير من زملائها اولاليا من الرجال , الممرضين , والأطباء أيضا , حاولوا خطب ودها , لكن دون جدوى , فاهتمامها الوحيد كان منصبا على عملها وعائلتها الصغيرة المكونة من والدتها وشقيقها. لكن ذات يوم أنتقل طبيب جديد للمستشفى , كان شابا وسيما فارع القامة وعذب اللسان , تسابقت الممرضات والطبيبات لكسب وده والفوز بقلبه , الوحيدة التي لم تبدي اهتماما به هي اولاليا , كالعادة كانت تركيزها منصبا على عملها والعناية بالمرضى . ولعل هذا الأمر , أي تجاهلها له هو ما جعله ينجذب إليها ويحاول التقرب منها بكل وسيلة , فأصبح يطلبها على وجه الخصوص لكي تكون إلى جانبه أثناء إجراءه للعمليات الجراحية أو مروره بعنابر المرضى .. وبالتدريج .. تمكن من فتح ثغرة صغيرة تسلل منها إلى قلب أولاليا فنشأت علاقة حب جميلة بينها.
الطبيب الوسيم اوقعها في حبائله
ويقال أن الأشخاص الذين لم يعرفوا أو يجربوا العشق في حياتهم سابقا , يكون عشقهم الأول عظيما ومتفجرا كالبركان , لكنه يكون أيضا غرا وساذجا وأعمى , وهذا الوصف ينطبق تماما على سلوك أولاليا حينما وقعت في شراك الحب وتقلبت في حبائله , فعشقها للطبيب الشاب غمرها بسعادة لا توصف حتى أنها لم تعد ترى من هذا العالم المليء بالقبائح سوى جانبه الزاهي المتوهج الألوان , ولم تعد ترى في الآخرين , خصوصا حبيبها , سوى الأمور الإيجابية المبهرة , وهو ما جعلها تتغافل عن الهمس والغمز واللمز من قبل بعض زميلاتهما من أن حبيبها الطبيب الوسيم هو في الحقيقة شاب لعوب لا يتوانى عن مغازلة فتيات أخريات من وراء ظهرها . لكن آنى لأولاليا الغارقة في بحور الهيام أن تصدق هذا الكلام .. ولعلها حسبته نابع عن حسد وغيرة .
و مضت عدة شهور قبل أن يخبرها حبيبها بأنه يود خطبتها والزواج منها , فطارت فرحا بهذا الخبر , لكنه قال بأنه مدعو إلى مؤتمر طبي في مدينة أخرى وأنه سيغيب لمدة أسبوعين , وحالما يعود سيعلنان خطبتهما .
وغادر الطبيب الحبيب إلى مؤتمره فيما بقيت اولاليا تنتظر على أحر من الجمر .. ومرت الأيام تترى .. يوم .. أسبوع .. أسبوعان .. شهر .. شهران .. ولم يعد حبيبها الموعود ..
ماذا جرى يا ترى ؟ .. تساءلت اولاليا مع نفسها كل يوم وهي تمسح الدموع عن عيناها الجميلتان .. ثم حلت الكارثة وجاء الخبر المزلزل الصادم حين علمت من بعض زميلاتها بأن حبيبها وقع في غرام امرأة أخرى في تلك المدينة التي ذهب إليها ليحضر المؤتمر وأنهما تزوجا .. ليس هذا فحسب , بل الأدهى من ذلك أنها علمت بأن حبيبها كان قد قدم استقالته من المستشفى سرا في نفس اليوم الذي سافر فيه لحضور المؤتمر , أي أنه خطط لكل شيء مسبقا , وأن اولاليا لم تكن بالنسبة له سوى مغامرة ونزوة عابرة .
وهكذا بلحظة واحدة هوى برج الأوهام الشاهق الذي شيدته اولاليا في خيالها وتحول إلى ركام وحطام , وتبخرت ألوان العالم الزاهية من عينيها ولم يتبق في الوجود سوى لون واحد رمادي كئيب . لم تعد الحياة كالسابق أبدا , لم يعد لها طعم أو معنى . أصبحت أولاليا غارقة في أحزانها , وسارحة لمعظم الوقت . وبعد أن كانت أفضل ممرضات المستشفى وأكثرهن حرصا والتزاما صارت تتلقى العقوبة تلو الأخرى بسبب إهمالها ونسيانها لواجباتها , ويقال أن إهمالها كان كبيرا لدرجة أنها تسببت إحدى المرات بموت مريض بعد أن أعطته حقنة خاطئة فتم فصلها من عملها , وتزامن ذلك مع موت والدتها وانتقال شقيقها للعيش في العاصمة والاستقرار هناك , فأصبحت وحيدة ومنهكة نفسيا وجسديا , ولم يطل الوقت حتى تسلل مرض خطير إلى جسدها النحيل فانتهى بها الأمر راقدة على أحد أسرة المستشفى الذي كانت هي تداوي المرضى فيها , ويالها من مفارقة حزينة . وما لبثت أن لفظت أنفاسها بعد فترة قصيرة .
اصبحت مريضة في نفس المستشفى حيث كانت تعمل وعلى ما يبدو فأن أولاليا لم تبرح هذا العالم بعد موتها , فبعد بضعة أشهر , بدأت تسري حكايات في أرجاء المستشفى عن شبح ممرضة ذات شعر أشقر تتجول ما بين الردهات والحجرات والأقسام وتظهر أحيانا في حجرة العمليات أو صالة الطوارئ .. وأكثر ما يميزها هو نظافة ملابسها المكوية بعناية والناصعة البياض , ولهذا أطلقوا عليها أسم السيدة اللامعة (La Planchada) .
الغريب أن أغلب من شاهدوا شبحها قالوا بأنهم لم يستطيعوا أن يلمحوا منها سوى شعرها الأشقر وأن وجهها لم يكن واضحا , كما لم يستطيعوا سماع خطواتها وهي تسير لأنها بدت كما لو أنها تطوف أو تمشي على الهواء . والأغرب من ذلك هو أن هذه الممرضة الشبح لم تكتفي بالظهور فقط , بل كانت تعتني بالمرضى أحيانا , خصوصا عندما يتعرضون للإهمال من قبل بقية الممرضات , فتقدم الدواء لمن فات موعد دوائهم , وتعطي حقنة لمن هم بأمس الحاجة إليها , وتعقم الجروح وتلفها بعناية , وتضع الكمادات على جباه أولئك المصابين بالحمى .. وكم من ممرضة مثل ماريا نسيت أو تكاسلت عن تقديم العلاج لمريض ما ثم فوجئت لاحقا بأن هذا المريض تلقى علاجه بشكل صحيح من قبل ممرضة شقراء لا أحد يعرفها . هذا الأمر لم يحدث فقط في المستشفى الذي كانت أولاليا تعمل فيه خلال حياتها , بل أمتد إلى العديد من المستشفيات في طول البلاد وعرضها , وهكذا أصبحت "لا بلانشادا" واحدة من أشهر الأشباح في المكسيك . ومازالت الحكايات عن مشاهدتها مستمرة حتى يومنا هذا .
اصبح شبحها من اشهر الاشباح في المكسيك ؟
البعض في المكسيك يقولون أن قصة اولولايا أقدم بكثير من ثلاثينات القرن الماضي , وأنها في الحقيقة تعود إلى ما قبل أحداث الحرب الأمريكية - المكسيكية عام 1846 , ففي تلك الحرب الطاحنة لم تفقد المكسيك فقط أكثر من نصف أراضيها لصالح الولايات المتحدة , بل فقدت أيضا الكثير من رجالها , إضافة إلى عشرات آلاف الجرحى , وهو ما تسبب بزخم كبير جدا على الممرضات آنذاك بحيث لم تكن تتاح لهن فرصة الراحة ولم يستطعن أن يقدمن العلاج للجميع , ولشدة دهشتهن كن يشاهدن أحيانا بعض الجرحى الذين تأخر علاجهم وكان متوقعا موتهم وقد تحسنت حالتهم وتم تطبيب جراحهم بعناية فائقة , وحين كن يسألن من فعل ذلك ؟ كان الجواب دوما بأنها الممرضة الشقراء التي لا يعرفها أحد!.
أما عن سبب تحول أولاليا لشبح بعد موتها واستمرارها في معالجة للمرضى , فيرى البعض أنه نوع من التكفير عن ذنبها بحق المرضى الذين ماتوا جراء إهمالها وتقاعسها عن واجبها أواخر حياتها.
ختاما ..
خلال السنوات الطويلة التي قضيتها في كتابة هذه المقالات لموقع كابوس , تناولت مرارا قصصا عن أشباح لنساء يقال بأنهن هائمات في هذا العالم بلا هدى , والمفارقة الحزينة , هي أن قصص أولئك النسوة الأشباح تكاد تتشابه في تفاصيلها , فدائما يكون هناك رجل وراء المصيبة التي ألمت بالمرأة في حياتها وحولتها لشبح بعد مماتها! .. وهذه النقطة تدهشني كثيرا , ذلك إننا لا نسمع أبدا عن أشباح لنساء في عالمنا العربي على عكس القصص الكثيرة المتواترة عنهن في جميع بقاء الأرض الأخرى , ولعل هذا راجع إلى كون رجال العرب هم الأرقى والأظرف في معاملة النساء , لذا فأن المرأة العربية سعيدة جدا بحياتها ولا تموت بغصة أبدا .. أود تصديق ذلك بشدة , لكني أعلم جيدا أنه محض هراء .. أو لعل السبب الحقيقي هو أن المرأة العربية ممنوع عليها مغادرة قبرها لوحدها بعد مماتها مثلما هو محرم عليها مغادرة بيتها لوحدها في حياتها! .. أو لعل قصص الأشباح برمتها محض هراء
الله أعلم
بقلم : اياد العطار
ك ا ب و س