لص غير مرئي
مرسلة النهايات .. مثل لوحات مائية غسل تفاصيلها المطر ، كانت الصور التي تستلمها عينه الكليلة لكل
ما حوله ، آلاف اللوحات السريالية المتشابكة ، تضيئها ألوان الطبيعة القاسية لمدينته القافزة من سلة القرى بأعجوبة .
الرجال ( المدشدشون) بشعورهم المدرجة الألوان بين الأسود والثلجي ، وكل الطبقات اللونية المتداخلة بينهما، غير أولئك الذين حسموا المسالة بلفه بكوفيات حمراء أو سوداء ، كانت سحناتهم العربية قد رطبها تموز ، الإمام الزمني للقيظ ، بعرقٍ قهوائي أسمر ، شبيه بتلك التي يرتشفونها في مضايفهم القصبية أو خيامهم المصنوعة من شعر الماعز الصحراوي.
بعينيه ، كانت أكياس الطحين البيضاء المكدسة تتداخل مع ( الدشاديش البيضاء) في ضبابية ، ليتكون عالما سحريا متموجا لا احد يستطيع أن يراه ، إلا هو .
عندما داعبت انفه رائحة سلال التمر ، اكتشف بان اللوحة المدمجة بين سلال الخوص و عثوق الرطب هي مجرد دكان لبيع التمر.
ومن روائح التبغ التي تنطلق من أفواه ومناخير مدمنة ، حزر أن ما أمامه هو مقهى مزدحم بقرقرة الاركيلات.
تتداخل الوجوه والكوفيات مع قبعات الباعة الملونة، وأقداح الشاي التي يراها تنسكب مقبلة شفاههم السمراء.
لقد كانت عينه تعطيه ألف منظر وكل منظر يحتاج إلى عدد لا نهائي من التحليل التشكيلي ، خامات من الفن لا يمكن لأحد أن يشاهدها سواه، تجعل من عالمه سلسلة متلاحقة من الاضاءات التشكيلية ،لكنها تبخل عليه بالمنظر الحقيقي والواضح لما يجري أمامه ، حتى أن مجاري المياه الثقيلة الآسنة، كان يراها كجرح اسود يغور في خاصرة ارض قتيلة.
أجساد الرجال المارين من أمامه،كانت تغرز صليلا يؤذي عينيه حين يسير بين دكاكين هذا السوق المتمرد على العادات والتقاليد المتبعة في كل أسواق العالم الحديث والقديم.
الأرض تتراقص أمامه متأرجحة بين عينيه اللتين أسكرهما قصر بصر تليد ، نمى و ترعرع بين البؤبؤ والشبكية ليعشش في العدسة الداخلية لعينه ، ويجعله يرى العالم بشكل لوحات سريالية متلاحقة.
ذات يوم ، حلت فيه عواصف الغبار ضيفا ترابيا ثقيلا على صدر مدينته المصاب بذات رئة مزمن ، فقد نظارته الطبية ، بينما كان يفجر نقاشا من نقاشاته المدوية ، نزع نظارته ليمسحها ويضعها في جيب ثوبه ، بعد دقائق مد يده لجيبه ، فلم يقبض إلا الهواء.
كان جيبه الوقور هرما لدرجة فشل فيها عن حفظ الأمانة الثقيلة، هو يعلق على ذلك بأنها قد سرقت من قبل لص غير مرئي، ذهب بنظارته أدراج التراب. لكن هذا الحدث أتاح له أن يرى الكون حوله بصورة منفردة.
كان وجه صديقه الناري الملامح ، قد اقترب منه محاولا تسليته عن هذه الخسارة ( البصرية) لفقدان عينه الاصطناعية التي كانت تسمح له برؤية ما حوله بدقة، لكن المرارة التي طفرت من عينيه دمعة، ذكرته بسلسلة خسائره المعرفية ، بدءا من مكتبته التي أقام مأتما عائليا حين باعها في يوم اسود ، انتقل سواده إلى ملابس زوجته التي احمرت عيناها من الدمع ، لم يعد يشعر بان الدنيا تنصفه كما كانت من قبل، تقهقر مستوى همه إلى ما دون حدود مملكة المعدة ، و نكصت أحلامه إلى مستوى الرغيف الأبيض أو حتى الأسمر، لقد صار سلطانا يستعبد الناس و حبيبا رومانسيا من الدرجة الأولى ، لكنه حب من طرف واحد.
أضاع نظارته و بزغ موسم العمى النصفي له، لقد بدا الاستسلام يدب إلى قلعة صبره أمام مغريات الدروس الخصوصية وبيع الأسئلة للموسرين من الطلبة كما فعل زملاء له كثيرون أطاحت أسنة الفقر ببقايا مبادئهم.
أو استسلموا لماكينة الحزب الحاكم كي يصبحوا مطبلين لكل ما تقوله القيادة، لكن..
ردد مع نفسه : هل يمكن لي أن استسلم وأبيع نفسي إلى شيطان الأنانية ، اقتطع كسرات الخبز من أسنان أطفال أخر لأضعها في بطون عائلتي ، هل رخصت المثل التي كافحت من اجلها أيام شبابي و دخلت المعتقلات ومات كثيرون غيري لأجلها حتى أبيعها مقابل إطارا بعدستين سميكتين تصفيان لي شاشة عيني كي أرى العالم بصورته الحقيقة وليس فيلم مستمر من لوحات سريالية غامضة؟
كانت الحسرة تحرق رئتيه وهو يفح بحرقة تنين، وصوت نديمه يدخل إلى أذنيه متحشرجا: لا أريد سماع استسلاما منك فأنت أخر من بقي لدينا من أساطين المعرفة.. يا أستاذنا.
- أستاذكم!! برمت من هذه الاسطوانات المكررة، ماذا أفادتني أستاذيتكم هذه ؟ هه .. لا املك حتى عينا أرى بها كجميع الناس دربي.
- لكنك...
- لكني ماذا ؟ أرى العالم ألوانا متداخلة، شلالات ملونة، رجالا ملتصقين يبعضهم كأنهم كتلة من الذرات الضوئية ،غابة بشرية عجيبة احتاج فيها إلى ألف ساعة كي افرز معانيها، وأنا الغريب الوحيد فيها.
ستفرج يا صاحبي.. صدقني إن الانهزام سلاح الخاسرين فقط، وأنا أظن إن لفقدانك السجائر وعلى المقهى المطل على نهر فضي ، تظللهم شجرة صفصاف عتية، جلسا يناقشان الرؤية السريالية للعالم كما ترد لعيني الأستاذ ، وهو يعض سيجارته بقبلة مدمن ظمآن الصغار.
- المفلترة والنظارة تأثيرا معنويا سلبيا عليك، خذ ودخن آخر ما بقي لدي سجارتين مستوردتين .
مرسلة النهايات .. مثل لوحات مائية غسل تفاصيلها المطر ، كانت الصور التي تستلمها عينه الكليلة لكل
ما حوله ، آلاف اللوحات السريالية المتشابكة ، تضيئها ألوان الطبيعة القاسية لمدينته القافزة من سلة القرى بأعجوبة .
الرجال ( المدشدشون) بشعورهم المدرجة الألوان بين الأسود والثلجي ، وكل الطبقات اللونية المتداخلة بينهما، غير أولئك الذين حسموا المسالة بلفه بكوفيات حمراء أو سوداء ، كانت سحناتهم العربية قد رطبها تموز ، الإمام الزمني للقيظ ، بعرقٍ قهوائي أسمر ، شبيه بتلك التي يرتشفونها في مضايفهم القصبية أو خيامهم المصنوعة من شعر الماعز الصحراوي.
بعينيه ، كانت أكياس الطحين البيضاء المكدسة تتداخل مع ( الدشاديش البيضاء) في ضبابية ، ليتكون عالما سحريا متموجا لا احد يستطيع أن يراه ، إلا هو .
عندما داعبت انفه رائحة سلال التمر ، اكتشف بان اللوحة المدمجة بين سلال الخوص و عثوق الرطب هي مجرد دكان لبيع التمر.
ومن روائح التبغ التي تنطلق من أفواه ومناخير مدمنة ، حزر أن ما أمامه هو مقهى مزدحم بقرقرة الاركيلات.
تتداخل الوجوه والكوفيات مع قبعات الباعة الملونة، وأقداح الشاي التي يراها تنسكب مقبلة شفاههم السمراء.
لقد كانت عينه تعطيه ألف منظر وكل منظر يحتاج إلى عدد لا نهائي من التحليل التشكيلي ، خامات من الفن لا يمكن لأحد أن يشاهدها سواه، تجعل من عالمه سلسلة متلاحقة من الاضاءات التشكيلية ،لكنها تبخل عليه بالمنظر الحقيقي والواضح لما يجري أمامه ، حتى أن مجاري المياه الثقيلة الآسنة، كان يراها كجرح اسود يغور في خاصرة ارض قتيلة.
أجساد الرجال المارين من أمامه،كانت تغرز صليلا يؤذي عينيه حين يسير بين دكاكين هذا السوق المتمرد على العادات والتقاليد المتبعة في كل أسواق العالم الحديث والقديم.
الأرض تتراقص أمامه متأرجحة بين عينيه اللتين أسكرهما قصر بصر تليد ، نمى و ترعرع بين البؤبؤ والشبكية ليعشش في العدسة الداخلية لعينه ، ويجعله يرى العالم بشكل لوحات سريالية متلاحقة.
ذات يوم ، حلت فيه عواصف الغبار ضيفا ترابيا ثقيلا على صدر مدينته المصاب بذات رئة مزمن ، فقد نظارته الطبية ، بينما كان يفجر نقاشا من نقاشاته المدوية ، نزع نظارته ليمسحها ويضعها في جيب ثوبه ، بعد دقائق مد يده لجيبه ، فلم يقبض إلا الهواء.
كان جيبه الوقور هرما لدرجة فشل فيها عن حفظ الأمانة الثقيلة، هو يعلق على ذلك بأنها قد سرقت من قبل لص غير مرئي، ذهب بنظارته أدراج التراب. لكن هذا الحدث أتاح له أن يرى الكون حوله بصورة منفردة.
كان وجه صديقه الناري الملامح ، قد اقترب منه محاولا تسليته عن هذه الخسارة ( البصرية) لفقدان عينه الاصطناعية التي كانت تسمح له برؤية ما حوله بدقة، لكن المرارة التي طفرت من عينيه دمعة، ذكرته بسلسلة خسائره المعرفية ، بدءا من مكتبته التي أقام مأتما عائليا حين باعها في يوم اسود ، انتقل سواده إلى ملابس زوجته التي احمرت عيناها من الدمع ، لم يعد يشعر بان الدنيا تنصفه كما كانت من قبل، تقهقر مستوى همه إلى ما دون حدود مملكة المعدة ، و نكصت أحلامه إلى مستوى الرغيف الأبيض أو حتى الأسمر، لقد صار سلطانا يستعبد الناس و حبيبا رومانسيا من الدرجة الأولى ، لكنه حب من طرف واحد.
أضاع نظارته و بزغ موسم العمى النصفي له، لقد بدا الاستسلام يدب إلى قلعة صبره أمام مغريات الدروس الخصوصية وبيع الأسئلة للموسرين من الطلبة كما فعل زملاء له كثيرون أطاحت أسنة الفقر ببقايا مبادئهم.
أو استسلموا لماكينة الحزب الحاكم كي يصبحوا مطبلين لكل ما تقوله القيادة، لكن..
ردد مع نفسه : هل يمكن لي أن استسلم وأبيع نفسي إلى شيطان الأنانية ، اقتطع كسرات الخبز من أسنان أطفال أخر لأضعها في بطون عائلتي ، هل رخصت المثل التي كافحت من اجلها أيام شبابي و دخلت المعتقلات ومات كثيرون غيري لأجلها حتى أبيعها مقابل إطارا بعدستين سميكتين تصفيان لي شاشة عيني كي أرى العالم بصورته الحقيقة وليس فيلم مستمر من لوحات سريالية غامضة؟
كانت الحسرة تحرق رئتيه وهو يفح بحرقة تنين، وصوت نديمه يدخل إلى أذنيه متحشرجا: لا أريد سماع استسلاما منك فأنت أخر من بقي لدينا من أساطين المعرفة.. يا أستاذنا.
- أستاذكم!! برمت من هذه الاسطوانات المكررة، ماذا أفادتني أستاذيتكم هذه ؟ هه .. لا املك حتى عينا أرى بها كجميع الناس دربي.
- لكنك...
- لكني ماذا ؟ أرى العالم ألوانا متداخلة، شلالات ملونة، رجالا ملتصقين يبعضهم كأنهم كتلة من الذرات الضوئية ،غابة بشرية عجيبة احتاج فيها إلى ألف ساعة كي افرز معانيها، وأنا الغريب الوحيد فيها.
ستفرج يا صاحبي.. صدقني إن الانهزام سلاح الخاسرين فقط، وأنا أظن إن لفقدانك السجائر وعلى المقهى المطل على نهر فضي ، تظللهم شجرة صفصاف عتية، جلسا يناقشان الرؤية السريالية للعالم كما ترد لعيني الأستاذ ، وهو يعض سيجارته بقبلة مدمن ظمآن الصغار.
- المفلترة والنظارة تأثيرا معنويا سلبيا عليك، خذ ودخن آخر ما بقي لدي سجارتين مستوردتين .