نلحظ الأسلوب القرآني في دعوة تحريك الفكر وإعماله
وهو ينتهج أسلوبا متنوعاً شيقاً،
فتارة يضرب الأمثال، وتارة يسمعك مؤثرات صوتية يستثير بها خيالك، وتارة
يوجه أسئلة استنكارية يثير بها عقلك ووجدانك.
مجال ضرب الأمثال كأسلوب في دعوة إعمال الفكر:
1_ يريد الله أن يبين للناس أن الصدقة التي تبذل رياء والتي يتبعها
المن والأذى لا تثمر شيئاً ولا تبقى،
فينقل إليهم هذا المعنى المجرد في صورة حسية متخيلة على النحو التالي:
(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله
رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر
فمثله كمثل صفوانٍ عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا).
ويدعهم يتأملون هيئة الحجر الصلب المستوى، غطته طبقة خفيفة من التراب
فظنت فيه الخصوبة. فإذا وابل من المطر يصيبه،
فبدلاً من أن يهيئه للخصب والنماء _كما هي شيمة الأرض الطينية إذا به
كما هو المنظور _ يتركه صلداً،
وتذهب تلك الطبقة الخفيفة التي كانت تستره وتخيل فيه الخير والخصوبة،
كذلك الصدقة التي تبذل رياء.. لا تثمر أجراً ولا تقبل.
2_ وفي موضع آخر يريد الله أن يجسم الآلهة أو الأولياء من دون الله
عامة، ووهن الملجأ الذي يلجأ إليه عبادهم حين يحتمون بهم،
فيرسم لهذا كله صورة مزدوجة.
(مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن
أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).
3_ (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء
ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)
ويجعلك ترسم بخيالك صورة لتفتح أبواب السماء وصورة أخرى لولوج الحبل
الغليظ في سم الخياط.
ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم (الجمل) خاصة في هذا المقام، ويدع
للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين ما شاء له التأثر،
ليستقر في النهاية معنى القبول ومعنى الاستحالة في أعمال النفس، وقد
وردا إليها من طريق العين والحس تخيلاً،
وعبر إليها من منافذ شتى، في هنية وتؤدة، لا من منفذ الذهن وحدة.
4_ أو عندما يرسم هذه الصورة (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ
اشتدت به الريح في يومٍ عاصفٍ لا يقدرون مما كسبوا على شيء).
فتزيد الصورة حركة وحياة بحركة الريح في يوم عاصف، وتذرو الرماد، وتذهب
به بدداً "إلى حيث لا يتجمع أبداً".
مجال الصوتيات كأسلوب في دعوة إعمال الفكر:
1_ نوع من تصوير الألفاظ بجرسها يبدو في سورة الناس:
(قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخناس. الذي
يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس).
اقرأها متوالية تجد صوتك يحدث "وسوسة" كاملة تناسب جو "وسوسة" (الوسواس
الخناس الذي يوسوس في صدور الناس).
2_ وكذلك قوله:
(فكبكبوا فيها هم والغاوون. وجنود إبليس أجمعون). فكلمة (كبكبوا) يحدث
جرسها صوت الحركة التي تتم بها.
3_ ومن الأوصاف التي اشتقها القرآن ليوم القيامة "الصاخّة، والطامَّة"
و الصاخة لفظة تكاد تخرق طبلة الأذن
في ثقلها وعنف جرسها وشقه للهواء،حتى يصل إلى الأذن صاخّا ملحّاً،
والطامة لفظة ذات دوى وطنين تخيل إليك
أنه تطن وتعم كالطوفان يغرق كل شيء ويطويه.
4_ وتسمع كلمة "يصطرخون" في الآية:
(والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من
عذابها كذلك نجزي كل كفور. وهم يصطرخون فيها ربنا
أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل).
فيخيل إليك جرسها الغليظ غلظ الصراخ المختلط المتجاوب من كل مكان،
المنبعث من حناجر مكتظة بالأصوات الخشنة.
كما تلقى إليك ظل الإهمال في هذا الاصطراخ الذي لا يجد من يهتم به أو
يليه،
وتلمح من وراء ذلك كله صورة ذلك العذاب الغليظ الذي هم فيه يصطرخون.
5_ و (يشّقق) لفظ يحدث في الآذان مؤثراً صوتياً لحركة الماء بين الصخور
وذلك في قوله تعالى:
(وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء).
ولفظ (يصعّد) وكأنك تحس باختناق لهذا الصعود، فتحس بانقطاع نفسك، وذلك
في قوله تعالى: (يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء).
وصدق السابقون عندما قالوا:
والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود، ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن
التي تصرفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى،
ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يعيش
بها ومعها. وأكثر الناس كذلك، لأن الإيمان الحق هو وحده
الذي يصل ظاهر الحياة بأسراء الوجود، وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك
لأسرار الوجود. والمؤمنون هذا الإيمان قلة
في مجموع الناس، ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية.
مجال الأسئلة الاستنكارية كأسلوب في إعمال الفكر:
1_ (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير
الله يأتيكم به انظر كيف نُصّرف الآيات ثم هم يَصدِفون).
2_ (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم
الظالمون).
3_ (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه
وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه).
مما سبق يتضح أن القرآن يدعو إلى منهج، وقد تجلى ذلك في استثارته لعقل
الإنسان طالباً منه تنمية حواسه وفق منهج،
ونبذ كل ما من شأنه أن يؤدي إلى ركود ذهني أو شل لحركة الفكر.