وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
لا تأتى أعمال البشر من فراغ ولا تحدث بالمصادفة ، كذلك ما يصدر عنهم من أقوال فليست هي الأخرى تأتى من مصادر جوفاء
ولكنها علي التحقيق نتاج سلسلة من الإرادات وحلقات متتابعة من المقاصد تحركها دوافع نفسانية وتدفعها بواعث باطنية
ومهما كانت الأقوال والأعمال تدور في فلك الطاعة والإذعان للأمر والنهى الإلهيين أو كانت غارقة في بحار المعاصي ومتاهات المخالفات والزلات
فإنها جميعاً لا تصدر إلا عن النفس الإنسانية التي سواها رب العالمين كما شاء لها التسوية .
وتنعقد مشيئته جلت حكمته علي أن تتجلي مظاهر عدله في تسوية النفس البشرية
وما أودعه في تضعيفها من القدرة علي ممارسة أعمال الفجور وإصدار الفاحش من القول
وكذلك قدرة النفس علي ممارسة أعمال التقوى وهدايتها إلي الطيب من القول .
أقسم الله عز وجل بالنفس الإنسانية لما لها من شرف في هذا الوجود فقال :
" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا "
أي قسما بالنفس ومن سواها وركب فيها قواها الباطنة والظاهرة
وحدد لكل منها وظيفة تؤديها ، وألف لها الجسم الذي تستخدمه من أعضاء قابلة لاستعمال تلك القوى .
وكان من مظاهر العدل في تسوية النفس أن تتساوى كفتا الميزان فكانت كل كفة تحمل نفس القدرة
فتلك حملت القدرة علي الفجور والأخرى حملت القدرة علي التقوى بنفس المقدار
وأقسم الله سبحانه وتعالي بتلك النفس وما سواها وهو لا يقسم إلا بما هو أهل للقسم فقال
" وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا "
وكأن النفس وتسويتها علي تلك الصورة تعتبر من عظائم الأمور التي أقسم الله بها تأكيداً للقدرة الإلهية وعظمة الربوبية .
" قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا "
أي قد ربح وفاز من زكى نفسه ونماها حتى بلغت غاية ما هي مستعدة له من الكمال العقلي والعملي
حتى تثمر بذلك الثمر الطيب لها ولمن حولها .
" وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا "
أي وخسر نفسه وأوقعها في التهلكة من نقصها حقها بفعل المعاصي ومجانبة البر والقربات
فإن من سلك سبيل الشر ، وطاوع داعي الشهوة فقد فعل ما تفعل البهائم
وبذلك يكون قد أخفى عمل القوة العاقلة التي اختص بها الإنسان واندرج في عداد الحيوان .
أودع الله في النفس القابلية لتلقى الوسوسات الشيطانية كما أودع فيها في نفس الوقت
وبذات القدر قدرتها علي تقبل إلهامات الهداية الربانية والاطمئنان بها
ولم يكن الإنسان ليستطيع أن يحقق غاية الله المنشودة من خلقه واستعماره في الأرض
إلا إذا كانت نفسه قد جبلت علي مقارفة الفجور بالمعاصي والآثام والزلات والخطايا والجنايات
كما جبلت علي التحلي بالطاعة والتقوى والسكون تحت مراد ربها بالعبودية والتخلق بمكارم الأخلاق
"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ"، وفي هذا المعنى يأتي الحديث الشريف يقول
( إنه إن لم نخطئ ونستغفر لذهب الله بنا ويأتي بآخرين يذنبون ويستغفرون فيغفر الله لهم )
والخطأ فجور والتوبة تقوى .
وبعد أن أقسم الله سبحانه بالنفس التي سواها وألهمها فجورها وتقواها قال
" قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا "
وهو تأكيد بعد القسم بأن الفلاح يكون علي سبيل القطع حظاً من طهر النفس في عوامل الفجور
وأحاطها بأسبابه وحبسها في سجن معانيه ومقتضيات تعاطيه