مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، وَتُسَمَّى الْوَاقِيَةَ وَالْمُنْجِيَةَ
وَهِيَ ثَلاَثُونَ ءَايَةً
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" سُورَةٌ فِي الْقُرْءَانِ ثَلاَثُونَ ءَايَةً شَفَعَتْ لِصَاحِبِهَا حَتَّى غُفِرَ لَهُ ï´؟تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُï´¾ ".
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لاَ يَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَسَمِعَ مِنَ الْقَبْرِ قِرَاءَةَ ï´؟تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُï´¾ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هِيَ الْمَانِعَةُ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ.
ï´؟تَبظ°رَكَï´¾ أَيْ تَبَارَكَ اللَّهُ أَيْ دَامَ فَضْلُهُ وَبِرُّهُ، وَتَعَالَى وَتَعَاظَمَ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، ï´؟الَّذِي بِيَدِهِï´¾ أَيْ بِتَصَرُّفِهِ، فَالْيَدُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الإِحَاطَةِ وَالْقَهْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " يَعْنِي السُّلْطَانَ، يُعِزُّ وَيُذِلُّ "، ï´؟الْمُلْكُï´¾ أَيْ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، جَمِيعُ الْخَلاَئِقِ مَقْهُورُونَ بِقُدْرَتِهِ، يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَكُلُّ شَىْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، ï´؟وَهُوَï´¾ أَيِ اللَّهُ ï´؟عَلَى كُلِّ شَىْءٍï´¾ مُمْكِنٍ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ ï´؟قَدِيرٌï´¾ فَلاَ يَمْنَعُهُ مِنْ فِعْلِهِ مَانِعٌ، وَلاَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَجْزٌ، وَلاَ دَافِعَ لِمَا قَضَى وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَى.
ï´؟الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَï´¾ أَيِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، فَأَمَاتَ مَنْ شَاءَ، وَأَحْيَا مَنْ شَاءَ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَجَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ وَدَارَ فَنَاءٍ، وَجَعَلَ الآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ وَبَقَاءٍ، ï´؟لِيَبْلُوَكُمْï´¾ أَيْ لِيَمْتَحِنَكُمْ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَيُظْهِرَ مِنْكُمْ مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْكُمْ فَيُجَازِيَكُمْ عَلَى عَمَلِكُمْ، ï´؟أَيُّكُمْï´¾ أَيُّهَا النَّاسُ ï´؟أَحْسَنُ عَمَلاًï´¾ أَيْ أَطْوَعُ وَإِلَى طَلَبِ رِضَاهُ أَسْرَعُ، أَوْ أَيُّكُمْ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، فَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَعْطَاكُمُ الْحَيَاةَ الَّتِي تَقْدِرُونَ بِهَا عَلَى الْعَمَلِ وَسَلَّطَ عَلَيْكُمُ الْمَوْتَ الَّذِي هُوَ دَاعِيكُمْ إِلَى اخْتِيَارِ الْعَمَلِ الْحَسَنِ عَلَى الْقَبِيحِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ وَرَاءَهُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ، ï´؟وَهُوَ الْعَزِيزُï´¾ الْغَالِبُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ انْتِقَامُهُ مِمَّنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ ï´؟الْغَفُورُï´¾ لِمَنْ تَابَ مِنْ ذُنُوبِهِ.
ï´؟الَّذِي خَلَقَï´¾ أَيْ أَوْجَدَ وَأَبْرَزَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ï´؟سَبْعَ سَمظ°وَاتٍ طِبَاقًاï´¾ أَيْ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الإِسْرَاءِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، ï´؟مَّا تَرَىï´¾ يَا ابْنَ ءَادَمَ ï´؟فِي خَلْقِ الرَّحْمظ°نِï´¾ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، ï´؟مِنْ تَفَاوُتٍï´¾، قَالَ الْبُخَارِيُّ: ((التَّفَاوُتُ: الاِخْتِلاَفُ، وَالتَّفَاوُتُ وَالتَّفَوُّتُ وَاحِدٌ))، وَحَقِيقَةُ التَّفَاوُتِ عَدَمُ التَّنَاسُبِ كَأَنَّ بَعْضَ الشَّىْءِ يَفُوتُ بَعْضًا وَلاَ يُلاَئِمُهُ، وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى يَا ابْنَ ءَادَمَ فِي شَىْءٍ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنِ اعْوِجَاجٍ وَلاَ تَنَاقُضٍ وَلاَ عَيْبٍ وَلاَ خَطَإٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لاَ يَخْتَلِفُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ مِنْ حَيْثُ الشَّكْلُ وَالصِّفَةُ، فَالاِخْتِلاَفُ هُنَا الْمُرَادُ بِهِ مَا يُنَاقِضُ الْحِكْمَةَ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالِقِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَكِيمٌ لاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْعَبَثُ وَالسَّفَهُ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ï´؟مِنْ تَفَوُّتٍï´¾ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِأَلِفٍ.
ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِأَنْ يَنْظُرُوا فِي خَلْقِهِ لِيَعْتَبِرُوا بِهِ فَيَتَفَكَّرُوا فِي قُدْرَتِهِ فَقَالَ: ï´؟فَارْجِعِ الْبَصَرَï´¾ أَيْ كَرِّرِ النَّظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَتَأَمَّلْهَا، ï´؟هَلْ تَرَىï´¾ فِيهَا يَا ابْنَ ءَادَمَ ï´؟مِنْ فُطُورٍï´¾ أَيْ مِنْ شُقُوقٍ وَصُدُوعٍ أَوْ عَيْبٍ أَوْ خَلَلٍ، وَالْفُطُورُ: الشُّقُوقُ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَهِشَامٌ فِي الْمَشهُورِ عَنْهُ: ï´؟هَلْ تَرَىï´¾ بِإِدْغَامِ اللاَّمِ فِي التَّاءِ.
ï´؟ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِï´¾ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالنَّظَرِ مَرَّتَيْنِ، لأَِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ فِي الشَّىْءِ مَرَّةً قَدْ لاَ يَرَى عَيْبَهُ مَا لَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَإِنْ نَظَرَ فِي السَّمَاءِ مَرَّتَيْنِ لاَ يَرَى فِيهَا عَيْبًا وَلاَ خَلَلاً، وَجَوَابُ الأَمْرِ ï´؟يَنْقَلِبْï´¾ أَيْ يَرْجِعْ ï´؟إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًاï´¾ أَيْ صَاغِرًا ذَلِيلاً مُتَبَاعِدًا عَنْ أَنْ يَرَى عَيْبًا أَوْ خَلَلاً، وَأَبْدَلَ أَبُو جَعْفَرٍ ï´؟خَاسِئًاï´¾ بِيَاءٍ مَفْتُوحَةٍ، ï´؟وَهُوَ حَسِيرٌï´¾ أَيْ كَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ قَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الإِعْيَاءِ لَمْ يَرَ خَلَلاً وَلاَ تَفَاوُتًا.
ï´؟وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَاï´¾ وَهِيَ السَّمَاءُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الأَرْضِ وَالَّتِي نُشَاهِدُهَا وَيَرَاهَا النَّاسُ، ï´؟بِمَصَابِيحَï´¾ أَيْ بِنُجُومٍ لَهَا نُورٌ ï´؟وَجَعَلْنَاهَاï´¾ أَيْ جَعَلْنَا مِنْهَا ï´؟رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِï´¾ أَيْ يُرْجَمُ الشَّيَاطِينُ الْمُسْتَرِقُونَ لِلسَّمْعِ بِشُهُبٍ تَنْفَصِلُ عَنْ هَذِهِ النُّجُومِ ï´؟وَأَعْتَدْنَا لَهُمْï´¾ أَيْ هَيَّأْنَا لِلشَّيَاطِينِ فِي الآخِرَةِ ï´؟عَذَابَ السَّعِيرِï´¾ أَيِ النَّارِ الْمُوقَدَةِ بَعْدَ الإِحْرَاقِ بِالشُّهُبِ فِي الدُّنْيَا.
ï´؟وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْï´¾ وَأَعْتَدْنَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ ï´؟عَذَابُ جَهَنَّمَï´¾ وَهِيَ نَارٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهَا أُوقِدَ عَلَيْهَا أَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ وَأَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ وَأَلْفُ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، ï´؟وَبِئْسَï´¾ وَهِيَ كَلِمَةُ ذَمٍّ ï´؟الْمَصِيرُï´¾ أَيِ الْمَرْجِعُ أَيْ بِئْسَ الْمَآلُ وَالْمُنْقَلَبُ الَّذِي يَنْتَظِرُهُمْ وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ، أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْهَا.
ï´؟إِذَا أُلْقُوا فِيهَاï´¾ يَعْنِي إِذَا أُلْقِيَ الْكُفَّارُ فِي جَهَنَّمَ وَطُرِحُوا فِيهَا كَمَا يُطْرَحُ الْحَطَبُ فِي النَّارِ الْعَظِيمَةِ ï´؟سَمِعُوا لَهَاï´¾ يَعْنِي لِجَهَنَّمَ ï´؟شَهِيقًاï´¾ وَالشَّهِيقُ: الصَّوْتُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْجَوْفِ بِشِدَّةٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَمِعُوا صَوْتًا مُنْكَرًا كَصَوْتِ الْحِمَارِ، تُصَوِّتُ مِثْلَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ تَوَقُّدِهَا وَغَلَيَانِهَا ï´؟وَهِيَ تَفُورُï´¾ أَيْ تَغْلِي بِهِمْ كَغَلْيِّ الْمِرْجَلِ. [ والْمِرجَلُ قِدْرٌ مِنْ نُحَاسٍ].
ï´؟تَكَادُï´¾ جَهَنَّمُ ï´؟تَمَيَّزُï´¾ يَعْنِي تَتَقَطَّعُ وَتَتَفَرَّقُ، وَقَرَأَ الْبِزِّيُّ "تَمَيَّزُ" بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَصْلاً، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ ï´؟مِنَ الْغَيْظِï´¾ عَلَى الْكُفَّارِ، فَجُعِلَتْ كَالْمُغْتَاظَةِ عَلَيْهِم اسْتِعَارَةً لِشِدَّةِ غَلَيَانِهَا بِهِمْ ï´؟كُلَّمآ أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌï´¾ أَيْ فَرِيقٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ ï´؟سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآï´¾ وَهُمْ مَالِكٌ وَأَعْوَانُهُ، وَسُؤَالُهُمْ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَهُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا إِلَى عَذَابِهِمْ: ï´؟أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌï´¾، أَيْ رَسُولٌ فِي الدُّنْيَا يُنْذِرُكُمْ هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ.
ï´؟قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌï´¾ أَنْذَرَنَا وَخَوَّفَنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ï´؟وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَï´¾ [سُورَةَ الزُّمَرِ]، فَاعْتَرَفَ الْكُفَّارُ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسَلاً يُنْذِرُونَهُمْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَاعْتَرَفُوا أَيْضًا بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ: ï´؟فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَاï´¾ أَيْ قَالُوا لِلرَّسُولِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ ï´؟مَا نَزَّلَ اللَّهُï´¾ عَلَيْكَ ï´؟مِنْ شَىْءٍï´¾ مِمَّا تَقُولُ مِنْ وَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ï´؟إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍï´¾ وَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي تَفْسِيرِهِ "الْبَحْرُ الْمُحِيطُ" مَا نَصُّهُ : "الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: ï´؟إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍï´¾ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا نُذُرًا إِلَيْهِمْ، أَنْكَرُوا أَوَّلاً أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ شَيْئًا وَاسْتَجْهَلُوا ثَانِيًا مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ وَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْخَزَنَةِ لِلْكُفَّارِ إِخْبَارًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَرَادُوا بِالضَّلاَلِ الْهَلاَكَ الَّذِي هُمْ فِيهِ، أَوْ سَمَّوْا عِقَابَ الضَّلاَلِ ضَلاَلاً لَمَّا كَانَ نَاشِئًا عَنِ الضَّلاَ
لِ" ا.هـ.
ï´؟وَقَالُواï´¾ أَيْ وَقَالَ الْكُفَّارُ أَيْضًا وَهُمْ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ï´؟لَوْ كُنَّاï´¾ فِي الدُّنْيَا ï´؟نَسْمَعُï´¾ مِنَ النُّذُرِ أَيِ الرُّسُلِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ سَمَاعَ طَالِبٍ لِلْحَقِّ ï´؟أَوْ نَعْقِلُï´¾ عَقْلَ مُتَأَمِّلٍ وَمُفَكِّرٍ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، ï´؟مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِï´¾ يَعْنِي مَا كُنَّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَمْ نَسْتَوْجِبِ الْخُلُودَ فِيهَا.
ï´؟فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْï´¾ أَيْ بِكُفْرِهِمْ فِي تَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وَهَذَا الاِعْتِرَافُ لاَ يَنْفَعُهُمْ وَلاَ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ï´؟فَسُحْقًاï´¾ أَيْ فَبُعْدًا، ï´؟لأَصْحَابِ السَّعِيرِï´¾ وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلاَّ النَّهْرَوَانِيَّ، وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِوَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: ï´؟إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمï´¾ أَيْ يَخَافُونَهُ ï´؟بِالْغَيْبِï´¾ أَيِ الَّذِي أُخْبَرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَأَحْوَالِهِ، أَوْ يَخَافُونَهُ وَهُمْ فِي غَيْبَتِهِمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فِي خَلَوَاتِهِمْ فَآمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ سِرًّا كَمَا أَطَاعُوهُ عَلاَنِيَّةً ï´؟لَهُم مَّغْفِرَةٌï´¾ أَيْ عَفْوٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ ï´؟وَأَجْرٌ كَبِيرٌï´¾ وَهُوَ الْجَنَّةُ.
ï´؟وَأَسِرُّواï´¾ أَيْ أَخْفُوا أَيُّهَا النَّاسُ ï´؟قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِï´¾ أَيْ أَعْلِنُوهُ وَأَظْهِرُوهُ، وَاللَّفْظُ لَفْظُ الأَمْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخَبَرُ يَعْنِي إِنْ أَخْفَيْتُمْ كَلاَمَكُمْ أَوْ جَهَرْتُمْ بِهِ فَـï´؟إِنَّهُï´¾ تَعَالَى ï´؟عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِï´¾ يَعْنِي بِمَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَكَيْفَ بِمَا نَطَقْتُمْ بِهِ، وَالآيَةُ فِيهَا بَيَانُ اسْتِوَاءِ الأَمْرَيْنِ أَيِ الإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: "قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ بِمَا قَالُوا، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ إِلـظ°هُ مُحَمَّدٍ" اهـ.
ï´؟أَلاَ يَعْلَمُï´¾ الْخَالِقُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ï´؟مَنْ خَلَقَï´¾ وَهُوَ الَّذِي أَحَاطَ بِخَفِيَّاتِ الأُمُورِ وَجَلِيَّاتِهَا، وَعَلِمَ مَا ظَهَرَ مِنْ خَلْقِهِ وَمَا بَطَنَ، أَوْ أَلاَ يَعْلَمُ الْخَالِقُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الإِنْكَارُ أَيْ كَيْفَ لاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ الأَشْيَاءَ وَأَوْجَدَهَا مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ ï´؟وَهُوَ اللَّطِيفُï´¾ الْمُحْسِنُ إِلَى عِبَادِهِ فِي خَفَاءٍ وَسَتْرٍ وَمِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُونَ، ï´؟الْخَبِيرُï´¾ أَيِ الْمُطَّلِعُ عَلَى حَقِيقَةِ الأَشْيَاءِ فَلاَ تَخْفَى عَلَى اللَّهِ خَافِيَةٌ.
ï´؟هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاًï´¾ أَيِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الأَرْضَ سَهْلَةً تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا وَيُمْكِنُ الْمَشْيُ فِيهَا وَالْحَفْرُ لِلآبَارِ وَشَقُّ الْعُيُونِ وَالأَنْهَارِ فِيهَا وَبِنَاءُ الأَبْنِيَةِ وَزَرْعُ الْحُبُوبِ وَغَرْسُ الأَشْجَارِ فِيهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ صَخْرَةً صُلْبَةً لَمَا تَيَسَّرَ شَىْءٌ مِنْهَا، ï´؟فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَاï´¾ أَيْ طُرُقَاتِهَا، وَقِيلَ جِبَالِهَا، وَقِيلَ جَوَانِبِهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: "مَنَاكِبُهَا: جَوَانِبُهَا"، وَالْمَعْنَى: هُوَ الَّذِي سَهَّلَ لَكُمُ السُّلُوكَ فِي جِبَالِهَا وَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّذْلِيلِ، ï´؟وَكُلُوا مِنْ رِّزْقِهِï´¾ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ ï´؟وَإِلَيْهِ النُّشُورُï´¾ أَيِ الْمَرْجِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. ثُمَّ خَوَّفَ كُفَّارَ مَكَّةَ فَقَالَ:
ï´؟ءَأَمِنْتُمْï´¾ أَيْ أَتَأْمَنُونَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: ï´؟وَإِلَيْهِ النُّشُورُ وَأَمَنْتُمْï´¾، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو: ï´؟النُّشُورُ ءَامِنْتُمْï´¾ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ï´؟ءَأَمِنْتُمْï´¾ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ.
ï´؟مَّنْ فِي السَّمَآءِï´¾ أَيِ الْمَلَكَ الْمُوَكَّلَ بِالْعَذَابِ وَهُوَ جِبْرِيلُ ï´؟أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَï´¾ وَهُوَ ذَهَابُهَا سُفْلاً كَمَا خُسِفَتْ بِقَارُونَ، وَكَمَا خَسَفَ جِبْرِيلُ بِمُدُنِ قَوْمِ لُوطٍ، ï´؟فَإِذَا هِيَ تَمُورُï´¾ تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَرِّكُ الأَرْضَ بِقُدْرَتِهِ عَنْدَ الْخَسْفِ بِهِمْ حَتَّى يَقْلِبَهُمْ إِلَى أَسْفَلَ وَتَعْلُوَ الأَرْضُ عَلَيْهِمْ وَتَمُورَ فَوْقَهُمْ أَيْ تَذْهَبَ وَتَجِيءَ.
فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ: ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ عِنْدَ بَيَانِ مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يُوصَفُ بِالْمَكَانِ وَلاَ يَتَحَيَّزُ فِي جِهَةٍ، لأِنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ وَاللَّهُ لَيْسَ جِسْمًا كَبِيرًا وَلاَ جِسْمًا صَغِيرًا فَلاَ يَسْكُنُ السَّمَاءَ وَلاَ يَسْكُنُ الْعَرْشَ وَلاَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَرَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِلاَ جِهَةٍ وَلاَ مَكَانٍ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي أَمَالِيِّهِ فِي تَفْسِيرِ حَدِيثِ: "ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ": "وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ: "أَهْلُ السَّمَاءِ" عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ "مَنْ فِي السَّمَاءِ": الْمَلاَئِكَةُ" اهـ.
ï´؟أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًاï´¾ أَيْ ريِحًا ذَاتَ حِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ كَمَا أَرْسَلَهَا عَلَى قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْفِيلِ، ï´؟فَسَتَعْلَمُونَï´¾ أَيُّهَا الْكَفَرَةُ ï´؟كَيْفَ نَذِيرِï´¾ أَيْ كَيْفَ عَاقِبَةُ نَذِيرِي لَكُمْ إِذْ كَذَّبْتُمْ بِهِ وَرَدَدْتُمُوهُ عَلَى رَسُولِي، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ فَسَتَعْلَمُونَ أَنَّ إِنْذَارِي بِالْعَذَابِ حَقٌّ حِينَ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْعِلْمُ.
ï´؟وَلَقَدْ كَذَّبَï´¾ أَيِ الْمُشْرِكُونَ ï´؟الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْï´¾ أَيْ مِنْ قَبْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَهُمُ الأُمَمُ الْخَالِيَةُ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، ï´؟فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِï´¾ أَيْ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ أَلَيْسَ وَجَدُوا الْعَذَابَ حَقًّا ؟ بَلَى.
وَلَمَّا حَذَّرَهُمْ مَا يُمْكِنُ إِحْلاَلُهُ بِهِمْ مِنَ الْخَسْفِ وَإِرْسَالِ الْحَاصِبِ نَبَّهَهُمْ عَلَى الاِعْتِبَارِ بِالطَّيْرِ وَمَا أَحْكَمَ مِنْ خَلْقِهَا، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ï´؟أَوَلَمْ يَرَوْاï´¾ الْمُشْرِكُونَ ï´؟إِلَى الطَّيْرِï´¾ جَمْعُ طَائِرٍ تَطِيرُ ï´؟فَوْقَهُمْï´¾ فِي الْهَوَاءِ ï´؟صَآفَّاتٍï´¾ أَيْ بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتِهِنَّ فِي الْجَوِّ عِنْدَ طَيَرَانِهَا ï´؟ويَقْبِضْنَï´¾ أَيْ يَضْمُمْنَ الأَجْنِحَةَ إِلَى جَوَانِبِهِنَّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: "يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: صَافَّاتٍ بَسْطُ أَجْنِحَتِهِنَّ" ï´؟مَا يُمْسِكُهُنَّï´¾ عَنِ الْوُقُوعِ مَعَ ثِقَلِهَا وَضَخَامَةِ أَجْسَامِهَا ï´؟إِلاَّ الرَّحْمظ°نُï´¾ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْمَعْنَى: لَمْ يَكُنْ بَقَاؤُهَا فِي جَوِّ الْهَوَاءِ إِلاَّ بِقُدْرَةِ اللَّهِ وَحِفْظِهِ، ï´؟إِنَّهُï´¾ تَعَالَى ï´؟بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌï´¾ أَيْ عَالِمٌ بِالأَشْيَاءِ وَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
ï´؟أَمَّنْï´¾ أَيْ أَمْ مَنْ ï´؟هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌï´¾ أَيْ أَعْوَانٌ ï´؟لَّكُمْï´¾ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ï´؟يَنصُرُكُمْï´¾ يَمْنَعُ وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ بِكُمْ، وَالْمَعْنَى لاَ نَاصِرَ لَكُمْ، وَقَرَأَ الْبِصْرِيُّ: ï´؟يَنْصُرْكُمْï´¾ بِسُكُونِ الرَّاءِ، ï´؟مِّنْ دُونِ ظ±لرَّحْمظ°نِï´¾ أَيْ سِوَى ظ±لرَّحْمظ°نِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ï´؟أَمَّنْ هَذَا الَّذِيï´¾ هُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَيْ لاَ جُنْدَ لَكُمْ يَدْفَعُ عَنْكُمْ عَذَابَ اللَّهِ.
ï´؟إِنِ الْكَافِرُونَï´¾ أَيْ مَا الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ ï´؟إِلاَّ فِي غُرُورٍï´¾ مِنَ الشَّيَاطِينَ تَغُرُّهُمْ بِأَنْ لاَ عَذَابَ وَلاَ حِسَابَ، أَوِ الْمَعْنَى: مَا الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ إِلاَّ فِي غُرُورٍ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وَأَنَّهَا تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ.
ï´؟أَمَّنْï´¾ أَيْ أَمْ مَنْ ï´؟هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْï´¾ أَيْ يُطْعِمُكُمْ وَيَسْقِيكُمْ وَيَأْتِي بِأَقْوَاتِكُمْ وَيُنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْمَطَرَ، ï´؟إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُï´¾ أَيْ قَطَعَ عَنْكُمْ رِزْقَهُ، وَالْمَعْنَى: لاَ أَحَدَ يَرْزُقُكُمْ إِنْ حَبَسَ اللَّهُ عَنْكُمْ أَسْبَابَ الرِّزْقِ كَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِهِمَا، ï´؟بَلْ لَّجُّواï´¾ أَيْ تَمَادَوْا وَأَصَرُّوا مَعَ وُضُوحِ الْحَقِّ ï´؟فِي عُتُوٍّï´¾ أَيْ تَكَبُّرٍ وَعِنَادٍ ï´؟وَنُفُورٍï´¾ أَيْ تَبَاعُدٍ عَنِ الْحَقِّ وَإِعْرَاضٍ عَنْهُ.
ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ فَقَالَ: ï´؟أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِï´¾ أَيْ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ لاَ يَنْظُرْ أَمَامَهُ وَلاَ يَمِينَهُ وَلاَ شِمَالَهُ فَهُوَ لاَ يَأْمَنُ مِنَ الْعِثَارِ وَالاِنْكِبَابِ عَلَى وَجْهِهِ وَلاَ يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، وَهَذَا هُوَ الْكَافِرُ أَكَبَّ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا، فَحَشَرَهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَهَذَا ï´؟أَهْدَىï´¾ أَيْ أَشَدُّ وَأَرْشَدُ اسْتِقَامَةً عَلَى الطَّرِيقِ وَأَهْدَى لَهُ ï´؟أَمَّنْï´¾ أَيْ أَمْ مَنْ ï´؟يَمْشِي سَوِيًّاï´¾ مُعْتَدِلاً نَاظِرًا مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ يُبْصِرُ الطَّرِيقَ، ï´؟عَلَى صِرَاطٍï´¾ أَيْ طَرِيقٍ ï´؟مُّسْتَقِيمٍï´¾ أَيْ مُسْتَوٍ لاَ اعْوِجَاجَ فِيهِ. وَقَدْ شَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنَ فِي تَمَسُّكِهِ بِالدِّينِ الْحَقِّ وَمَشْيِهِ عَلَى مِنْهَاجِهِ بِمَنْ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الْمُعْتَدِلِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَا يَتَعَثَّرُ بِهِ، وَشَبَّهَ الْكَافِرَ فِي رُكُوبِهِ وَمَشْيِهِ عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ بِمَنْ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الَّذِي فِيهِ حُفَرٌ وَارْتِفَاعٌ وَانْخِفَاضٌ فَيَتَعَثَّرُ وَيَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ كُلَّمَا تَخَلَّصَ مِنْ عَثْرَةٍ وَقَعَ فِي أُخْرَى، وَقَرَأَ قُنْبُلٌ: ï´؟صِرَاطٍï´¾ بِالسِّينِ.
ï´؟قُلْï´¾ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ: ï´؟هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْï´¾ أَيِ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ï´؟وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَï´¾ تَسْمَعُونَ بِهِ ï´؟وَالأَبْصَارَï´¾ تُبْصِرُونَ بِهَا ï´؟وَالأَفْئِدَةَï´¾ أَيِ الْقُلُوبَ تَعْقِلُونَ بِهَا ï´؟قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَï´¾ أَيْ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْكُمْ، وَشُكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ هُوَ أَنْ يَصْرِفَ تِلْكَ النِّعْمَةَ إِلَى وَجْهِ رِضَاهُ وَأَنْتُمْ لَمَّا صَرَفْتُمُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْعَقْلَ لاَ إِلَى طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَانْتُمْ مَا شَكَرْتُمْ نِعْمَتَهُ الْبَتَّةَ.
ï´؟قُلْï´¾ يَا مُحَمَّدُ، اللَّهُ ï´؟هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْï´¾ أَيْ بَثَّكُمْ وَفَرَّقَكُمْ ï´؟فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَï´¾ أَيْ تُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتُجْمَعُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى خَلْقِكُمْ مِنَ الْعَدَمِ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ.
ï´؟وَيَقُولُونَï´¾ أَيِ الْمُشْرِكُونَ الْمُنْكِرُونَ لِلْبَعْثِ ï´؟مَتَى هَذَا الْوَعْدُï´¾ أَيْ مَتَى يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمَتَى هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي تَعِدُونَنَا بِهِ ï´؟إِن كُنتُمْ صَادِقِينَï´¾ فِي وَعْدِكُمْ إِيَّانَا مَا تَعِدُونَنَا، وَهَذَا اسْتِهْزَاءٌ مِنْهُمْ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
ï´؟قُلْï´¾ أَيْ يَا مُحَمَّدُ، ï´؟إِنَّمَا الْعِلْمُï´¾ بِوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ ï´؟عِنْدَ اللَّهِï´¾ لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ غَيْرُهُ، ï´؟وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌï´¾ لَكُمْ أُنْذِرُكُمْ عَذَابَ اللَّهِ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ ï´؟مُّبِينٌï´¾ أَيْ أُبَيِّنُ لَكُمُ الشَّرَائِعَ.
ï´؟فَلَمَّا رَأَوْهُï´¾ أَيْ فَلَمَّا رَأَى هَؤُلاَءِ الْمُشْرِكُونَ الْعَذَابَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الآخِرَةِ ï´؟زُلْفَةًï´¾ أَيْ قَرِيبًا مِنْهُمْ ï´؟سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواï´¾ ظَهَرَ فِيهَا السُّوءُ وَالْكَآبَةُ وَغَشِيَهَا السَّوَادُ كَمَنْ يُسَاقُ إِلَى الْقَتْلِ، ï´؟وَقِيلَï´¾ أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الزَّبَانِيَةُ وَمَنْ يُوَبِّخُهُمْ: ï´؟هَذَاï´¾ الْعَذَابَ ï´؟الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَï´¾ أَيْ تَفْتَعِلُونَ مِنَ الدُّعَاءِ أَيْ تَتَمَنَّوْنَ وَتَسْأَلُونَ تَعْجِيلَهُ وَتَقُولُونَ: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا، أَوْ هُوَ مِنَ الدَّعْوَى أَيْ كُنْتُمْ بِسَبَبِهِ تَدَّعُونَ أَنَّكُمْ لاَ تَبْعَثُونَ إِذَا مُتُّمْ.
فَائِدَةٌ: قَرَأَ يَعْقُوبُ: ï´؟بِهِ تَدْعُونَï´¾ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَسُكُونِهَا، وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا، وَالأَوَّلُ عَلَى مَعْنَى تَطْلُبُونَ وَتَسْتَعْجِلُونَ، وَالثَّانِي مِنَ الدَّعْوَى أَيْ تَدَّعُونَ الأَبَاطِيلَ وَالأَكَاذِيبَ وَأَنَّكُمْ إِذَا مُتُّمْ لاَ تُبْعَثُونَ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: "تَدَّعُونَ وَتَدْعُونَ وَاحِدٌ مِثْلُ تَذَّكَّرُونَ وَتَذْكُرُونَ".
ï´؟قُلْï´¾ أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَكَ: ï´؟أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُï´¾ أَيْ أَمَاتَنِي كَمَا تُرِيدُونَ، قَرَأَ حَمْزَةُ: ï´؟أَهْلَكَنِيï´¾ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ فَتُحْذَفُ لَفْظًا فِي الْوَصْلِ وَتُرَقَّقُ لاَمُ الْجَلاَلَةِ لِكَسْرِ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا فَتُفَخَّمُ لاَمُ الْجَلاَلَةِ لِلْفَتْحِ.
ï´؟وَمَنْ مَّعِيَï´¾ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ:
ï´؟مَعِيَï´¾ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ï´؟مَعِيï´¾ بِالإِسْكَانِ، ï´؟أَوْ رَحِمَنَاï´¾ فَأَبْقَانَا وَأَخَّرَ فِي ءَاجَالِنَا فَلَمْ يُعَذِّبْنَا بِعَذَابِهِ، ï´؟فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍï´¾ أَيْ مَنْ يَحْمِيكُمْ وَيَمْنَعُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ الْمُوجِعَ الْمُؤْلِمَ الَّذِي سَبَبُهُ كُفْرُكُمْ، وَالْمَعْنَى: لاَ، لَيْسَ يُنْجِي الْكُفَّارَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَوْتُنَا وَحَيَاتُنَا فَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ تَسْتَعْجِلُوا قِيَامَ السَّاعَةِ وَنُزُولَ الْعَذَابِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ نَافِعِكُمْ بَلْ ذَلِكَ بَلاَءٌ عَلَيْكُمْ عَظِيمٌ.
ï´؟قُلْï´¾ يَا مُحَمَّدُ ï´؟هُوَ الرَّحْمظ°نُ ï´¾ أَيِ الَّذِي نَعْبُدُهُ وَنُوَحِّدُهُ وَأَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ، ï´؟ءَامَنَّا بهِï´¾ أَيْ صَدَّقْنَا بِهِ وَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، ï´؟وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَاï´¾ أَيْ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدْنَا فِي أُمُورِنَا وَأَنَّ الضَّارَّ وَالنَّافِعَ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ.
ï´؟فَسَتَعْلَمُونَï´¾ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ إِذَا نَزَلَ بِكُمُ الْعَذَابُ وَعَايَنْتُمُوهُ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ.
ï´؟مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍï´¾ أَيْ مَنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْحَقِّ وَعَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ نَحْنُ أَمْ أَنتُمْ ï´؟مُّبِينٍï´¾ أَيْ بَيِّنٍ.
ï´؟قُلْï´¾ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ الْمُشْرِكِينَ: ï´؟أَرَأَيْتُمْï´¾ أَيُّهَا الْقَوْمُ أَيْ أَخْبِرُونِي يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ï´؟إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًاï´¾ أَيْ غَائِرًا ذَاهِبًا فِي الأَرْضِ إِلَى أَسْفَلَ لاَ تَنَالُهُ الأَيْدِي وَلاَ الدِّلاَءُ، وَهُوَ جَمْعُ دَلْوٍ ï´؟فَمَنْï´¾ أَيِ الَّذِي ï´؟يَأْتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍï´¾ أَيْ بِمَاءٍ ظَاهِرٍ تَرَاهُ الْعُيُونُ، أَوْ جَارٍ يَصِلُ إِلَيْهِ مَنْ أَرَادَهُ، أَيْ لاَ يَأْتِيكُمْ بِهِ إِلاَّ اللَّهُ فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ أَنْ يَبْعَثَكُمْ.
وَيُرْوَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ تُلِيَتْ عِنْدَ مُلْحِدٍ فَقَالَ: يَأْتِي بِهِ الْفُؤُوسُ وَالْمَعَاوِلُ، فَذَهَبَ مَاءُ عَيْنِهِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَعَمِيَ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى ءَايَاتِهِ،
وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا إيِمَانَنَا وَيُحْسِنَ خِتَامَنَا
وَيُدْخِلَنَا الْجَنَّةَ مَعَ الأَبْرَارِ، ءَامِين.