إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْت
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبى بعده انزل القرآن الكريم فيه خبر من قبلكم ونبأ من بعدكم فيه ذكركم وذكر آباؤكم أعلاه
مثمر أسفله مغدق من تمسك به رفعه الله وبعد نعود احبتى ونتواصل عند ما تقفنا عليه وهو
قوله سبحانه تعالى بسورة البقرة{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وهنا قال أمنا الجليل الامام القرطبى فى تفسير تلك الآيه
أنه لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم. والكفر ضد الإيمان وهو المراد في الآية. وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان ، ومنه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف :
"ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء" قيل : بم يا رسول الله ؟ قال : "بكفرهن" ، قيل أيكفرن بالله ؟ قال : "يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط" أخرجه البخاري وغيره.
وأصل الكفر في كلام العرب : الستر والتغطية ، ومنه قول الشاعر :
في ليلة كفر النجومَ غمامُها
أي سترها. ومنه سمي الليل كافرا ، لأنه يغطي كل شيء بسواده ، قال الشاعر :
فتذكرا ثَقلا رثيدا بعدما ... ألقت ذُكاء يمينها في كافر
ذكاء "بضم الذال والمد" : اسم للشمس ، ومنه قول الآخر :
فوردت قبل انبلاج الفجر ... وابن ذكاء كامن في كَفر
أي في ليل. والكافر أيضا : البحر والنهر العظيم. والكافر : الزارع ، والجمع كفار ، قال الله تعالى : {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد : 20]. يعني الزراع لأنهم يغطون الحب. ورماد
مكفور : سفت الريح عليه التراب. والكافر من الأرض : ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمر به أحد ، ومن حل بتلك المواضع فهم أهل الكفور. ويقال الكفور : القرى.
قوله تعالى : {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} معناه معتدل عندهم الإنذار وتركه ، أي سواء عليهم هذا. وجيء بالاستفهام من أجل التسوية ، ومثله قوله تعالى :
{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء : 136].
وقال الشاعر :
وليل يقول الناس من ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها
قوله تعالى : {أَأَنْذَرْتَهُمْ} الإنذار الإبلاغ والإعلام ، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز ، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعارا ولم يكن إنذارا ، قال الشاعر :
أنذرت عَمرا وهو في مهَل ... قبل الصباح فقد عصى عمرو
وتناذر بنو فلان هذا الأمر إذا خوفه بعضهم بعضا
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحدا. وقال ابن عباس والكلبي : نزلت في رؤساء اليهود ، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما. وقال الربيع بن أنس : نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب ، والأول أصح ، فإن من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر ، وذلك داخل في ضمن الآية.
قوله تعالى
{لا يُؤْمِنُونَ}
موضعه رفعٌ خبر "إنّ" أي إن الذين كفروا لا يؤمنون. وقيل : خبر "إن" "سواء" وما بعده يقوم مقام الصلة ، قاله ابن كيسان. وقال محمد بن يزيد : "سواء" رفع بالابتداء ،
{أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} الخبر ، والجملة خبر "إن". قال النحاس : أي إنهم تبالهوا فلم تغن فيهم النذارة شيئا. واختلف القراء في قراءة "أأنذرتهم" فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو
والأعمش وعبدالله بن أبي إسحاق :
{أَأَنْذَرْتَهُمْ}
بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، واختارها الخليل وسيبويه ، وهي لغة قريش وسعد بن بكر ، وعليها قول الشاعر :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آنت أمْ أمّ سالم
هجاء "آنت" ألف واحدة. وقال آخر :
تطاللت فاستشرفته فعرفته ... فقلت له آنت زيد الأرانب
وروي عن ابن مُحَيصِن أنه قرأ : "أنذرتهم أم لم تنذرهم" بهمزة لا ألف بعدها ، فحذف لالتقاء الهمزتين ، أو لأن أم تدل على الاستفهام ، كما قال الشاعر :
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضيرك لو تنتظر
أراد : أتروح ، فاكتفى بأم من الألف. وروي عن ابن أبي إسحاق أنه قرأ : "أأنذرتهم" فحقق الهمزتين وأدخل بينهما ألفا لئلا يجمع بينهما. قال أبو حاتم : ويجوز أن تدخل بينهما ألفا وتخفف الثانية ، وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيرا. وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين : "أأنذرتهم" وهو اختيار أبي عبيد ، وذلك بعيد عند الخليل. وقال سيبويه : يشبه في الثقل ضَنِنوا. قال الأخفش : ويجوز تخفيف الأولى من الهمزتين وذلك رديء ، لأنهم إنما يخففون بعد الاستثقال ، وبعد حصول الواحدة. قال أبو حاتم : ويجوز تخفيف الهمزتين جميعا. فهذه سبعة أوجه من القراءات ، ووجه ثامن يجوز في غير القرآن ، لأنه مخالف للسواد. قال الأخفش سعيد : تبدل من الهمزة هاء تقول : هأنذرتهم ، كما يقال هياك وإياك ، وقال الأخفش في قوله تعالى :
{هَا أَنْتُمْ} [آل عمران : 66] إنما هو أاأنتم.
الآية 7 {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
فيها عشر مسائل :
الأولى-
قوله تعالى :
{خَتَمَ اللَّهُ} بَيَّن سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الإيمان بقوله : "ختم الله". والختم مصدر ختمت الشيء ختما فهو مختوم ومختم ، شدد للمبالغة ، ومعناه
التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه : ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك ، حتى لا يوصل إلى ما فيه ، ولا يوضع فيه غير ما فيه.
وقال أهل المعاني : وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف : بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحَمِية والإنكار. فقال في الإنكار :
{قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل : 22].
وقال في الحمية : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح : 26]
وقال في الانصراف :
{ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة : 127]. وقال في القساوة : {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر : 22]. وقال : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة : 74].
وقال في الموت : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام : 122].
وقال : {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام : 36].
وقال في الرين : {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين : 14].
وقال في المرض : {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد : 29]
وقال في الضيق : {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام : 125].
وقال في الطبع : {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة : 87].
وقال : {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء : 155].
وقال في الختم : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة : 7].
وسيأتي بيانها كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
الثانية-
الختم يكون محسوسا كما بينا ، ومعنى كما في هذه الآية. فالختم على القلوب : عدم الوعي عن الحق - سبحانه - مفهوم مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع : عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا إلى وحدانيته. وعلى الأبصار : عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته ، هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم.
الثالثة-
في هذه الآية أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال ، والكفر والإيمان ، فاعتبروا أيها السامعون ، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم ، فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا ،
وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة ، فمتى يهتدون ، أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر : 23]
وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضله وخذله ، إذ لم يمنعه حقا وجب له فتزول صفة العدل ، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم.
فإن قالوا : إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسميه والحكم والإخبار بأنهم لا يؤمنون ، لا الفعل. قلنا : هذا فاسد ، لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعا مختوما ، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم ، ألا ترى أنه إذا قيل : فلان طبع الكتاب وختمه ، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعا ومختوما ، لا التسمية والحكم. هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة ، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم ، كما قال تعالى :
{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء : 155].
وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع ، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون ، لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم ، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون ، ويحكمون عليهم بذلك. فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم ، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به ، دليله قوله تعالى : {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر : 12]. وقال : "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} [الأنعام : 25].
أي يفقهوه ، وما كان مثله.
الرابعة-
قوله تعالى :
{عَلَى قُلُوبِهِمْ}
فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح. والقلب للإنسان وغيره. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه ، فالقلب موضع الفكر. وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته.
وقلبت الإناء :
رددته على وجهه. ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان ، لسرعة الخواطر إليه ، ولترددها عليه ، كما قيل :
ما سمي القلب إلا من تقلبه ...
فاحذر على القلب من قلب وتحويل
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه ، تفريقا بينه وبين أصله. روى ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة" . ولهذا المعنى كان عليه الصلاة والسلام يقول : "اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك" . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به
قال الله تعالى :
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24].
وسيأتي.
الخامسة-
الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب
وإن رئيسها وملكها
بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر والباطن
قال صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه".
وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة : "أن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه".
قال : وهو الرين الذي ذكره الله في القرآن في قوله :
{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين : 14].
وقال مجاهد : القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع ، ثم يطبع.
قلت : وفي قول مجاهد هذا
وقوله عليه السلام :
"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" دليل على أن الختم يكون حقيقيا ، والله أعلم. وقد قيل : إن القلب يشبه الصنوبرة ، وهو يعضد قول مجاهد ، والله أعلم.
وقد روى مسلم عن حذيفة قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر : حدثنا أن "الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة" .
ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال :
"ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل كجمر دحرجته على رجلك فنَفطَ فتراه منتبرا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن
في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا" .
ففي قوله : "الوكت" وهو الأثر اليسير. ويقال للبُسر إذا وقعت فيه نكتة من الإرطاب :
قد وكَّت ، فهو موكت. وقوله : "المَجْل" ، وهو أن يكون بين الجلد واللحم ماء ، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "كجمر دحرجته" أي دورته على رجلك فنفط. "فتراه منتبرا"
أي مرتفعا - ما يدل على أن ذلك كله محسوس في القلب يفعل فيه ، وكذلك الختم والطبع ، والله أعلم. وفي حديث حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أُشْرِبها نُكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسودُ مُربادٌّ كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه..." وذكر الحديث "مجخيا" : يعني مائلا.
السادسة-
القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر ، قال الله تعالى :
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان : 32]
وقال : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح : 1]
يعني في الموضعين قلبك. وقد يعبر به عن العقل
قال الله تعالى :
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق : 37]
أي عقل ، لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين. والفؤاد محل القلب ، والصدر محل الفؤاد ، والله أعلم.
السابعة-
قوله تعالى :
{وَعَلَى سَمْعِهِمْ}
استدل بها من فضل السمع على البصر لتقدمه عليه
وقال تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام : 46].
وقال : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة : 9].
قال : والسمع يدرك به من الجهات الست ، وفي النور والظلمة
ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة ، وبواسطة من ضياء وشعاع. وقال أكثر المتكلمين
بتفضيل البصر على السمع ، لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات والكلام ، والبصر يدرك به الأجسام والألوان والهيئات كلها. قالوا : فلما كانت تعلقاته أكثر كان أفضل ، وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست.
الثامنة-
إن قال قائل :
لم جمع الأبصار ووحد السمع ؟
قيل له : إنما وحده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير ، يقال : سمعت الشيء أسمعه سمعا وسماعا ، فالسمع مصدر سمعت ، والسمع أيضا اسم للجارحة المسموع بها سميت بالمصدر. وقيل : إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة ، كما قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب
إنما يريد جلودها فوحد ، لأنه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد. وقال آخر في مثله :
لا تنكر القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد في حلوقكم ، ومثله قول الآخر :
كأنه وجه تركيين قد غضبا ... مستهدف لطعان غير تذبيب
وإنما يريد وجهين ، فقال وجه تركيين ، لأنه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد ، ومثله كثير جدا. وقرئ :
"وعلى أسماعهم" ويحتمل أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم
لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقد يكون السمع بمعنى الاستماع ، يقال : سَمْعُك حديثي - أي استماعك إلى حديثي - يعجبني ، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب :
وقد توجس رِكزا مقفر نَدُسٌ ...
بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي ما في استماعه كذب ، أي هو صادق الاستماع. والندس : الحاذق. والنبأة : الصوت الخفي ، وكذلك الركز. والسِّمع "بكسر السين وإسكان الميم" : ذكر الإنسان بالجميل ، يقال : ذهب سمعه في الناس أي ذكره. والسمع أيضا : ولد الذئب من الضبع. والوقف هنا : "وعلى سمعهم
". و"غشاوة" رفع على الابتداء وما قبله خبر. والضمائر في "قلوبهم" وما عطف عليه لمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن من كفار قريش ، وقيل من المنافقين ، وقيل من اليهود ، وقيل من الجميع ، وهو أصوب ، لأنه يعم. فالختم على القلوب والأسماع. والغشاوة على الأبصار. والغشاء : الغطاء.
التاسعة- ومنه غاشية السرج ، وغشيت الشيء أغشيه. قال النابغة :
هلا سألت بنى ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأشمط البَرَمَا
وقال آخر :
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
قال ابن كيسان :
فإن جمعت غشاوة قلت : غشاء بحذف الهاء. وحكى الفراء : غشاوى مثل أداوى. وقرئ : "غشاوة" بالنصب على معنى وجعل ، فيكون من باب قوله :
علفتها تبنا وماء باردا
وقول الآخر :
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
المعنى وأسقيتها ماء ، وحاملا رمحا ، لأن الرمح لا يتقلد. قال الفارسي : ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار ، فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. قال : ولم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو. وقال بعض المفسرين : الغشاوة على الأسماع والأبصار ، والوقف على "قلوبهم". وقال آخرون : الختم في الجميع ، والغشاوة هي الختم ، فالوقف على هذا على "غشاوة". وقرأ الحسن "غشاوة" بضم الغين ، وقرأ أبو حَيْوة بفتحها ، وروي عن
أبي عمرو :
غشوة ، رده إلى أصل المصدر. قال ابن كيسان : ويجوز غَشوة وغِشوة وأجودها غِشاوة ، كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملا على الشيء ، نحو عمامة وكنانة وقلادة وعصابة وغير ذلك.
العاشرة-
قوله تعالى :
{وَلَهُمْ} أي للكافرين المكذبين {عَذَابٌ عَظِيمٌ} نعته. والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد ، إلى غير ذلك مما يؤلم الإنسان. وفي التنزيل :
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور : 2] وهو مشتق من الحبس والمنع ، يقال في اللغة : أعْذِبه عن كذا أي أحبسه وأمنعه ، ومنه سمي عذوبة الماء ، لأنها قد أعذبت. واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه ، ومنه قول علي رضي الله عنه : أعذبوا نساءكم عن الخروج ، أي احبسوهن. وعنه رضي الله عنه وقد شيع سرية فقال : أعذبوا عن ذكر النساء [أنفسكم] فإن ذلك يكسركم عن الغزو ، وكل من منعته شيئا فقد أعذبته ، وفي المثل : "لألجمنك لجاما معذِبا" أي مانعا عن ركوب الناس. ويقال : أعذب أي امتنع. وأعذب غيره ، فهو لازم ومتعد ، فسمي العذاب عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ويهال عليه أضدادها.
هذا ولله الحمد وصلى الله على رسول
مثمر أسفله مغدق من تمسك به رفعه الله وبعد نعود احبتى ونتواصل عند ما تقفنا عليه وهو
قوله سبحانه تعالى بسورة البقرة{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وهنا قال أمنا الجليل الامام القرطبى فى تفسير تلك الآيه
أنه لما ذكر المؤمنين وأحوالهم ذكر الكافرين ومآلهم. والكفر ضد الإيمان وهو المراد في الآية. وقد يكون بمعنى جحود النعمة والإحسان ، ومنه قوله عليه السلام في النساء في حديث الكسوف :
"ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء" قيل : بم يا رسول الله ؟ قال : "بكفرهن" ، قيل أيكفرن بالله ؟ قال : "يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط" أخرجه البخاري وغيره.
وأصل الكفر في كلام العرب : الستر والتغطية ، ومنه قول الشاعر :
في ليلة كفر النجومَ غمامُها
أي سترها. ومنه سمي الليل كافرا ، لأنه يغطي كل شيء بسواده ، قال الشاعر :
فتذكرا ثَقلا رثيدا بعدما ... ألقت ذُكاء يمينها في كافر
ذكاء "بضم الذال والمد" : اسم للشمس ، ومنه قول الآخر :
فوردت قبل انبلاج الفجر ... وابن ذكاء كامن في كَفر
أي في ليل. والكافر أيضا : البحر والنهر العظيم. والكافر : الزارع ، والجمع كفار ، قال الله تعالى : {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد : 20]. يعني الزراع لأنهم يغطون الحب. ورماد
مكفور : سفت الريح عليه التراب. والكافر من الأرض : ما بعد عن الناس لا يكاد ينزله ولا يمر به أحد ، ومن حل بتلك المواضع فهم أهل الكفور. ويقال الكفور : القرى.
قوله تعالى : {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} معناه معتدل عندهم الإنذار وتركه ، أي سواء عليهم هذا. وجيء بالاستفهام من أجل التسوية ، ومثله قوله تعالى :
{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء : 136].
وقال الشاعر :
وليل يقول الناس من ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها
قوله تعالى : {أَأَنْذَرْتَهُمْ} الإنذار الإبلاغ والإعلام ، ولا يكاد يكون إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز ، فإن لم يتسع زمانه للاحتراز كان إشعارا ولم يكن إنذارا ، قال الشاعر :
أنذرت عَمرا وهو في مهَل ... قبل الصباح فقد عصى عمرو
وتناذر بنو فلان هذا الأمر إذا خوفه بعضهم بعضا
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن حقت عليه كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحدا. وقال ابن عباس والكلبي : نزلت في رؤساء اليهود ، منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما. وقال الربيع بن أنس : نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب ، والأول أصح ، فإن من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب عنه بموته على الكفر ، وذلك داخل في ضمن الآية.
قوله تعالى
{لا يُؤْمِنُونَ}
موضعه رفعٌ خبر "إنّ" أي إن الذين كفروا لا يؤمنون. وقيل : خبر "إن" "سواء" وما بعده يقوم مقام الصلة ، قاله ابن كيسان. وقال محمد بن يزيد : "سواء" رفع بالابتداء ،
{أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} الخبر ، والجملة خبر "إن". قال النحاس : أي إنهم تبالهوا فلم تغن فيهم النذارة شيئا. واختلف القراء في قراءة "أأنذرتهم" فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو
والأعمش وعبدالله بن أبي إسحاق :
{أَأَنْذَرْتَهُمْ}
بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ، واختارها الخليل وسيبويه ، وهي لغة قريش وسعد بن بكر ، وعليها قول الشاعر :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آنت أمْ أمّ سالم
هجاء "آنت" ألف واحدة. وقال آخر :
تطاللت فاستشرفته فعرفته ... فقلت له آنت زيد الأرانب
وروي عن ابن مُحَيصِن أنه قرأ : "أنذرتهم أم لم تنذرهم" بهمزة لا ألف بعدها ، فحذف لالتقاء الهمزتين ، أو لأن أم تدل على الاستفهام ، كما قال الشاعر :
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضيرك لو تنتظر
أراد : أتروح ، فاكتفى بأم من الألف. وروي عن ابن أبي إسحاق أنه قرأ : "أأنذرتهم" فحقق الهمزتين وأدخل بينهما ألفا لئلا يجمع بينهما. قال أبو حاتم : ويجوز أن تدخل بينهما ألفا وتخفف الثانية ، وأبو عمرو ونافع يفعلان ذلك كثيرا. وقرأ حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين : "أأنذرتهم" وهو اختيار أبي عبيد ، وذلك بعيد عند الخليل. وقال سيبويه : يشبه في الثقل ضَنِنوا. قال الأخفش : ويجوز تخفيف الأولى من الهمزتين وذلك رديء ، لأنهم إنما يخففون بعد الاستثقال ، وبعد حصول الواحدة. قال أبو حاتم : ويجوز تخفيف الهمزتين جميعا. فهذه سبعة أوجه من القراءات ، ووجه ثامن يجوز في غير القرآن ، لأنه مخالف للسواد. قال الأخفش سعيد : تبدل من الهمزة هاء تقول : هأنذرتهم ، كما يقال هياك وإياك ، وقال الأخفش في قوله تعالى :
{هَا أَنْتُمْ} [آل عمران : 66] إنما هو أاأنتم.
الآية 7 {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
فيها عشر مسائل :
الأولى-
قوله تعالى :
{خَتَمَ اللَّهُ} بَيَّن سبحانه في هذه الآية المانع لهم من الإيمان بقوله : "ختم الله". والختم مصدر ختمت الشيء ختما فهو مختوم ومختم ، شدد للمبالغة ، ومعناه
التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه : ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك ، حتى لا يوصل إلى ما فيه ، ولا يوضع فيه غير ما فيه.
وقال أهل المعاني : وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف : بالختم والطبع والضيق والمرض والرَّين والموت والقساوة والانصراف والحَمِية والإنكار. فقال في الإنكار :
{قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل : 22].
وقال في الحمية : {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح : 26]
وقال في الانصراف :
{ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة : 127]. وقال في القساوة : {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر : 22]. وقال : {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة : 74].
وقال في الموت : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام : 122].
وقال : {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام : 36].
وقال في الرين : {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين : 14].
وقال في المرض : {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد : 29]
وقال في الضيق : {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام : 125].
وقال في الطبع : {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة : 87].
وقال : {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء : 155].
وقال في الختم : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة : 7].
وسيأتي بيانها كلها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
الثانية-
الختم يكون محسوسا كما بينا ، ومعنى كما في هذه الآية. فالختم على القلوب : عدم الوعي عن الحق - سبحانه - مفهوم مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع : عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا إلى وحدانيته. وعلى الأبصار : عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته ، هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم.
الثالثة-
في هذه الآية أدل دليل وأوضح سبيل على أن الله سبحانه خالق الهدى والضلال ، والكفر والإيمان ، فاعتبروا أيها السامعون ، وتعجبوا أيها المفكرون من عقول القدرية القائلين بخلق إيمانهم وهداهم ، فإن الختم هو الطبع فمن أين لهم الإيمان ولو جهدوا ،
وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة ، فمتى يهتدون ، أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر : 23]
وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضله وخذله ، إذ لم يمنعه حقا وجب له فتزول صفة العدل ، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم.
فإن قالوا : إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسميه والحكم والإخبار بأنهم لا يؤمنون ، لا الفعل. قلنا : هذا فاسد ، لأن حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعا مختوما ، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم ، ألا ترى أنه إذا قيل : فلان طبع الكتاب وختمه ، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعا ومختوما ، لا التسمية والحكم. هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة ، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم ، كما قال تعالى :
{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء : 155].
وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع ، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون ، لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم ، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون ، ويحكمون عليهم بذلك. فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم ، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الإيمان به ، دليله قوله تعالى : {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر : 12]. وقال : "وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} [الأنعام : 25].
أي يفقهوه ، وما كان مثله.
الرابعة-
قوله تعالى :
{عَلَى قُلُوبِهِمْ}
فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح. والقلب للإنسان وغيره. وخالص كل شيء وأشرفه قلبه ، فالقلب موضع الفكر. وهو في الأصل مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته.
وقلبت الإناء :
رددته على وجهه. ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان ، لسرعة الخواطر إليه ، ولترددها عليه ، كما قيل :
ما سمي القلب إلا من تقلبه ...
فاحذر على القلب من قلب وتحويل
ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو الشريف التزمت فيه تفخيم قافه ، تفريقا بينه وبين أصله. روى ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "مثل القلب مثل ريشة تقلبها الرياح بفلاة" . ولهذا المعنى كان عليه الصلاة والسلام يقول : "اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك" . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله مع عظيم قدره وجلال منصبه فنحن أولى بذلك اقتداء به
قال الله تعالى :
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال : 24].
وسيأتي.
الخامسة-
الجوارح وإن كانت تابعة للقلب فقد يتأثر القلب
وإن رئيسها وملكها
بأعمالها للارتباط الذي بين الظاهر والباطن
قال صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليصدق فتنكت في قلبه نكتة بيضاء وإن الرجل ليكذب الكذبة فيسود قلبه".
وروى الترمذي وصححه عن أبي هريرة : "أن الرجل ليصيب الذنب فيسود قلبه فإن هو تاب صقل قلبه".
قال : وهو الرين الذي ذكره الله في القرآن في قوله :
{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين : 14].
وقال مجاهد : القلب كالكف يقبض منه بكل ذنب إصبع ، ثم يطبع.
قلت : وفي قول مجاهد هذا
وقوله عليه السلام :
"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" دليل على أن الختم يكون حقيقيا ، والله أعلم. وقد قيل : إن القلب يشبه الصنوبرة ، وهو يعضد قول مجاهد ، والله أعلم.
وقد روى مسلم عن حذيفة قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر : حدثنا أن "الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة" .
ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال :
"ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل كجمر دحرجته على رجلك فنَفطَ فتراه منتبرا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن
في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا" .
ففي قوله : "الوكت" وهو الأثر اليسير. ويقال للبُسر إذا وقعت فيه نكتة من الإرطاب :
قد وكَّت ، فهو موكت. وقوله : "المَجْل" ، وهو أن يكون بين الجلد واللحم ماء ، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "كجمر دحرجته" أي دورته على رجلك فنفط. "فتراه منتبرا"
أي مرتفعا - ما يدل على أن ذلك كله محسوس في القلب يفعل فيه ، وكذلك الختم والطبع ، والله أعلم. وفي حديث حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أُشْرِبها نُكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى يصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسودُ مُربادٌّ كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه..." وذكر الحديث "مجخيا" : يعني مائلا.
السادسة-
القلب قد يعبر عنه بالفؤاد والصدر ، قال الله تعالى :
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان : 32]
وقال : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح : 1]
يعني في الموضعين قلبك. وقد يعبر به عن العقل
قال الله تعالى :
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق : 37]
أي عقل ، لأن القلب محل العقل في قول الأكثرين. والفؤاد محل القلب ، والصدر محل الفؤاد ، والله أعلم.
السابعة-
قوله تعالى :
{وَعَلَى سَمْعِهِمْ}
استدل بها من فضل السمع على البصر لتقدمه عليه
وقال تعالى : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام : 46].
وقال : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة : 9].
قال : والسمع يدرك به من الجهات الست ، وفي النور والظلمة
ولا يدرك بالبصر إلا من الجهة المقابلة ، وبواسطة من ضياء وشعاع. وقال أكثر المتكلمين
بتفضيل البصر على السمع ، لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات والكلام ، والبصر يدرك به الأجسام والألوان والهيئات كلها. قالوا : فلما كانت تعلقاته أكثر كان أفضل ، وأجازوا الإدراك بالبصر من الجهات الست.
الثامنة-
إن قال قائل :
لم جمع الأبصار ووحد السمع ؟
قيل له : إنما وحده لأنه مصدر يقع للقليل والكثير ، يقال : سمعت الشيء أسمعه سمعا وسماعا ، فالسمع مصدر سمعت ، والسمع أيضا اسم للجارحة المسموع بها سميت بالمصدر. وقيل : إنه لما أضاف السمع إلى الجماعة دل على أنه يراد به أسماع الجماعة ، كما قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب
إنما يريد جلودها فوحد ، لأنه قد علم أنه لا يكون للجماعة جلد واحد. وقال آخر في مثله :
لا تنكر القتل وقد سبينا ... في حلقكم عظم وقد شجينا
يريد في حلوقكم ، ومثله قول الآخر :
كأنه وجه تركيين قد غضبا ... مستهدف لطعان غير تذبيب
وإنما يريد وجهين ، فقال وجه تركيين ، لأنه قد علم أنه لا يكون للاثنين وجه واحد ، ومثله كثير جدا. وقرئ :
"وعلى أسماعهم" ويحتمل أن يكون المعنى وعلى مواضع سمعهم
لأن السمع لا يختم وإنما يختم موضع السمع ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقد يكون السمع بمعنى الاستماع ، يقال : سَمْعُك حديثي - أي استماعك إلى حديثي - يعجبني ، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا تسمع إلى صوت صائد وكلاب :
وقد توجس رِكزا مقفر نَدُسٌ ...
بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
أي ما في استماعه كذب ، أي هو صادق الاستماع. والندس : الحاذق. والنبأة : الصوت الخفي ، وكذلك الركز. والسِّمع "بكسر السين وإسكان الميم" : ذكر الإنسان بالجميل ، يقال : ذهب سمعه في الناس أي ذكره. والسمع أيضا : ولد الذئب من الضبع. والوقف هنا : "وعلى سمعهم
". و"غشاوة" رفع على الابتداء وما قبله خبر. والضمائر في "قلوبهم" وما عطف عليه لمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن من كفار قريش ، وقيل من المنافقين ، وقيل من اليهود ، وقيل من الجميع ، وهو أصوب ، لأنه يعم. فالختم على القلوب والأسماع. والغشاوة على الأبصار. والغشاء : الغطاء.
التاسعة- ومنه غاشية السرج ، وغشيت الشيء أغشيه. قال النابغة :
هلا سألت بنى ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأشمط البَرَمَا
وقال آخر :
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
قال ابن كيسان :
فإن جمعت غشاوة قلت : غشاء بحذف الهاء. وحكى الفراء : غشاوى مثل أداوى. وقرئ : "غشاوة" بالنصب على معنى وجعل ، فيكون من باب قوله :
علفتها تبنا وماء باردا
وقول الآخر :
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
المعنى وأسقيتها ماء ، وحاملا رمحا ، لأن الرمح لا يتقلد. قال الفارسي : ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة واختيار ، فقراءة الرفع أحسن ، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة. قال : ولم أسمع من الغشاوة فعلا متصرفا بالواو. وقال بعض المفسرين : الغشاوة على الأسماع والأبصار ، والوقف على "قلوبهم". وقال آخرون : الختم في الجميع ، والغشاوة هي الختم ، فالوقف على هذا على "غشاوة". وقرأ الحسن "غشاوة" بضم الغين ، وقرأ أبو حَيْوة بفتحها ، وروي عن
أبي عمرو :
غشوة ، رده إلى أصل المصدر. قال ابن كيسان : ويجوز غَشوة وغِشوة وأجودها غِشاوة ، كذلك تستعمل العرب في كل ما كان مشتملا على الشيء ، نحو عمامة وكنانة وقلادة وعصابة وغير ذلك.
العاشرة-
قوله تعالى :
{وَلَهُمْ} أي للكافرين المكذبين {عَذَابٌ عَظِيمٌ} نعته. والعذاب مثل الضرب بالسوط والحرق بالنار والقطع بالحديد ، إلى غير ذلك مما يؤلم الإنسان. وفي التنزيل :
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور : 2] وهو مشتق من الحبس والمنع ، يقال في اللغة : أعْذِبه عن كذا أي أحبسه وأمنعه ، ومنه سمي عذوبة الماء ، لأنها قد أعذبت. واستعذب بالحبس في الوعاء ليصفو ويفارقه ما خالطه ، ومنه قول علي رضي الله عنه : أعذبوا نساءكم عن الخروج ، أي احبسوهن. وعنه رضي الله عنه وقد شيع سرية فقال : أعذبوا عن ذكر النساء [أنفسكم] فإن ذلك يكسركم عن الغزو ، وكل من منعته شيئا فقد أعذبته ، وفي المثل : "لألجمنك لجاما معذِبا" أي مانعا عن ركوب الناس. ويقال : أعذب أي امتنع. وأعذب غيره ، فهو لازم ومتعد ، فسمي العذاب عذابا لأن صاحبه يحبس ويمنع عنه جميع ما يلائم الجسد من الخير ويهال عليه أضدادها.
هذا ولله الحمد وصلى الله على رسول