بالرغم من أن "كروية الأرض" تعدُّ الآن من الحقائق العلمية البديهية التي لا يشكُّ فيها أحد من الناس على اختلاف الأعمار والثقافات.. حتى صار الصغار يدرسونها بالبراهين في مراحل تعليمهم المبكرة.. إلا أن هذه الحقيقة واجهت في عصور قديمة صعوبات بالغة حتى تستقر علميًّا في أذهان البشر.. وقد يأخذك العجب عندما تعلم أن هيئات دينية كبرى حكمت العقل الأوروبي قرونًا طويلة ضاقت بهذه الحقيقة العلمية ضيقًا حملها على تكفير من يؤمن بها من العلماء.. وربما بلغ الأمر حدَّ التعذيب أو الإعدام بأبشع الأساليب!!.. حتى جاء الإسلام بما يحمله من دعوة لتوسيع النظر في الكون، وتحرير العقل من الأوهام والخرافات، وإطلاق سراح البحث العلمي معتمدًا على التجريب والبرهان، ثم الوصول للحقائق بعد نقاش موضوعي حُرٍّ وهادئ؛ فأحيا ما كاد ينمحي من حقائق العلوم جميعًا (وكرويَّة الأرض إحداها)... وإليك التفاصيل..
كان الإغريق يعتقدون أن الأرض قرص دائري مسطح تحيط به مياه المحيطات من كل جانب، فها هو "هكتاتيوس" (سنة500 ق.م.) والذي يعتبر أبا الجغرافيا الإغريقية يرسم خرائطه على أساس القرص المستدير.. وبالرغم من أن "أفلاطون" (سنة348 ق.م.) أتى بأول نظرية عن كروية الأرض إلا إنه لم يلق التأييد الكافي ممن جاء بعده.. بل إن الدولة الرومانية رفضت هذه الفكرة، وكتب "كوزماس" (cosmas) "أبو الجغرافيا الرومانية" في (سنة 547 م): "إن العالم يشبه العجلة، وإن مياه المحيط حوله من كل الجهات.." وبلغ الأمر ذروته حين تبنَّت الكنيسة وآباؤها الأوائل (وعلى رأسهم "لكتانشيوس") هذه النظرية بشدة، وقالوا بأن الأرض مسطحة، وأن الجانب الآخر غير مأهول؛ وإلا سقط الناس في الفضاء!.. ومما يُذكر في هذا السياق أن راهبًا مصريًّا يُدعى "قزماس" وضع في القرن السادس الميلادي نظرية فلكيَّة استمدَّها من النصوص المقدَّسة (!!) أصرَّ فيها على أن الأرض مستطيل مسطَّح، وأنها لا يمكن أن تكون كرويَّة!!..
المثير للعجب أن التعامل مع معارضي أمثال تلك النظريَّات كان يتَّسم بالضراوة البالغة؛ فكان المعارض يتعرض للتعذيب على الخازوق أو الحرق حيًّا بتهمة الهرطقة (التي تعني كنسيًّا: المروق عن الدين الصحيح)!!... بل كان علماء أوروبا حتى القرن الثالث عشر الميلادي يرسمون خريطة العالم على شكل صليب: رأسه هي الجنة، وقدماه هي النار، وذراعاه: البحر الأبيض والبحر الأحمر.. وبيت المقدس (أورشليم) في موضع القلب!!!.
من أشهر العلماء الأوروبيين الذين تبنَّوا نظريَّة كرويَّة الأرض "نيقولا كوبرينكوس" (1473م – 1543م) الذي توصَّل إلى أن الأرض ليست مركز الكون.. إلا أنه لم يتجرأ على نشر كتابه إلا وهو على فراش الموت!! وظل كتاب "كوبرنيكوس" من الكتب المحرمة، واضطهدت الكنيسة كل من يؤيد اعتقاد "كوبرنيكوس" مثل "برونو" الذي أُعدم حرقًا، و"جاليليو" الذي أودع السجن حتى أُرغم على التنكر لنظرية "كوبرنيكوس" والتخلي عن آرائه، والانصياع للفكر الكنسي!!!..
الحضارة الإسلامية وإنقاذ العلوم!!
جاءت الحضارة الإسلامية فأحيت نظرية كروية الأرض وتبنَّتها.. وربما كان من أهم أسباب ذلك أن القرآن أشار بصور مختلفة إلى كروية الأرض.. فمن ذلك قوله تعالى: "والأرض بعد ذلك دحاها".. والدحية في اللغة هي الكرة.. كما أن هناك آيات تتحدث عن دوران هذه الكرة حول نفسها بما يُحدث الليل والنهار.. فيقول تعالى: "يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل".. ويعلِّق الدكتور زغلول النجار على هذه الآية الكريمة بقوله: "معني: يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل.. أي: يُغشي كلَّ واحد منهما الآخرَ كأنه يَلُفُّه عليه, وهو وصف واضح الدلالة علي كروية الأرض, وعلي دورانها حول محورها أمام الشمس, وذلك لأن كلا من الليل والنهار عبارة عن فترة زمنية تعتري نصف الأرض في تبادل مستمر, ولو لم تكن الأرض مكورة لما تكور أي منهما, ولو لم تكن الأرض تدور حول محورها أمام الشمس ما تبادل الليل والنهار وكلاهما ظرف زمان وليس جسما ماديا يمكن أن يكور, بل يتشكل بشكل نصف الأرض الذي يعتريه.."
ثم يؤكد الله تعالى هذا المعنى فيقول سبحانه: "رب المشرقين ورب المغربين"، ويُقسم في موضع آخر: "..بربِّ المشارق والمغارب.." فهي آيات تشير بوضوح إلى أن الشمس عندما تشرق على مكان من الأرض فهذا يعني أن هناك غروبًا في مكان آخر، أي أن المشارق والمغارب تتعاقب بسبب دوران الكرة الأرضية حول نفسها.
علماء الشرع وكروية الأرض!
مع أن "كرويَّة الأرض" شأن علمي كوني إلا أننا سنرى في السطور القادمة نظرة علماء الشرع لهذه الحقيقة، وكيفية اعتراضهم على منكريها.. مقارنة بما أشرنا إلى طرف منه آنفًا مما كان يعانيه معتنقو المسيحية في أوروبا من آباء الكنيسة وسلطانها المطلق عندما كان أحدهم – مهما أوتي من علم – يجهر بكرويَّة الأرض؛ لندرك الفارق الضخم بين مناخين:
• صنع الإسلام أحدهما بروح مشجعة على العلم، محترِمة للعقل والنظر والتجريب والبرهان؛ فأقام حضارته العظيمة التي أحسنت الصلة – على نحو غير مسبوق – بين الدين والعلم.. حتى غدا كلاهما يدعو إلى صاحبه ويرسخ أقدامه في القلوب والعقول جميعًا..
• بينما اغتالت سُلطة الكنيسة - في المناخ الآخر – روح العلم اغتيالاً، حينما أدمنت اعتناق الأساطير، وحمْل الناس قسرًا على اعتناقها.. الأمر الذي أدى – في نهاية المطاف – إلى ما نرى عليه الغرب الآن من إقصاء كامل للكنيسة عن كل قضايا الحياة!!
ينقل "ابن حزم" (ت:456هـ - 1064م) إجماع أئمة المسلمين على كروية الأرض في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) حيث يقول إنهم قد: "قالوا إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية، والعامة تقول غير ذلك.. وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحدًا من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يُحفظ لأحد منهم في دفعه كلمةٌ.. بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها.. قال الله عز وجل: "يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل".. وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، مأخوذ من: (كوَّر العمامة..) وهو إدارتها، وهذا نص على تكوير الأرض..."
ولا بد أن نلاحظ هنا إلى أي مدىً وصل ابن حزم رحمه الله في اعتراضه على مخالفيه في قضية بديهية كهذه.. إنه لم يزد على صفهم بـ"العامَّة" دونما تكفير ولا أحكام بالقتل.. لا سيَّما وهو أحد فقهاء عصره.. لنقارنَ هذا بما أشرنا إليه من مصادرة الكنيسة الأوروبية لآراء الآخرين معتمدة على سطوة النفوذ الديني والروحي!!
ويقول الإمام "فخر الدين الرازي" (ت: 606هـ - 1209م تقريبًا) في "مفاتيح الغيب" في تفسير قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ..." قال الرازي: "المدُّ هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، فقوله: "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ" يُشعر بأنه – تعالى - جعل حجم الأرض حجمًا عظيمًا لا يقع البصر على منتهاه؛ لأن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به... والكرة إذا كانت في غاية الكبر، كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح.."
علماء الجغرافيا المسلمون وكروية الأرض:
سنقف الآن أمام بعض التأكيدات الواضحة لدى طائفة من علماء الجغرافيا المسلمين تجزم بكروية الأرض.. تلك الحقيقة العلمية التي لم يكتفوا بنفض ما علاها من أتربة الجهل والتعصب.. وإنما أيدوها بالمزيد من الأدلة والبراهين القاطعة التي يسَّرها الله لهم:
• يقول "ابن خرداذبة" (ت: 272هـ - 885م) في كتابه (المسالك والممالك): "إن الأرض مُدَوَّرَةٌ كدوران الكرة.. موضحة كالمحة في جوف البيضة" (والمحة هي: صفار البيض).
• وكتب "ابن رُستة" (ت: 290هـ - 903م) في كتابه (الأعلاق النفيسة): "إن الله جل وعز وضع الفلك مستديرًا كاستدارة الكرة أجوف دوَّارًا.. والأرض مستديرة أيضًا ومصمتة في جوف الفلك".
• وكتب "المسعودي" (ت: 346هـ - 956م) في كتابه (التنبيه والإشراف) : "جعل الله عز وجل الفلك الأعلى وهو فلك الاستواء وما يشمل عليه من طبائع التدوير، فأولها كرة الأرض يحيط بها فلك القمر...."
• وقد ذكر "الشريف الإدريسي" (ت: 560هـ - 1166م) في كتابه (نزهة المشتاق) ما نصه: "..وإن الأرض مدورة كتدوير الكرة، والماء لاصق بها، وراكد عليها ركودًا طبيعيًّا لا يفارقها، والأرض والماء مستقرَّان في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة.. ووضعهما وضع متوسط، والنسيم يحيط بها (يقصد الغلاف الجوي) من جميع جهاتها..." ويُذكَر أن الإدريسيَّ لما أراد صُنع نموذج للأرض كان على شكل كرة المجسمة..
• ويقول "القزويني" (ت: 682هـ - 1283م) في كتابه (عجائب المخلوقات): "الأرض كرة.. والدليل على ذلك أن خسوف القمر إذا كان يُرى من بلدان مختلفة فإنه لا يُرى فيها كلها في وقت واحد بل في أوقات متعاقبة لأن طلوع القمر وغروبه يكونان في أوقات مختلفة في الأماكن المختلفة. والأرض واقفة في وسط الأفلاك كلها بإذن الله تعالى..". ثم يفنِّد القزويني آراء علماء القرون الوسطى في أوروبا ورجال الكنيسة الذين يقولون: إن الأرض لو كانت كرة لسقط الناس في الجانب الآخر منها، أو كانت رءوسهم مقلوبة.. فيقول: "إن الإنسان في أي موضع يقف على سطح الأرض فرأسه أبدًا مما يلي السماء، ورجله أبدًا مما يلي الأرض، وهو يرى من السماء نصفها.. وإذا انتقل إلى موضع آخر ظهر له من جانب السماء الذي أمامه بقدر ما كان قد خفي عنه من الجانب الآخر.
كان الإغريق يعتقدون أن الأرض قرص دائري مسطح تحيط به مياه المحيطات من كل جانب، فها هو "هكتاتيوس" (سنة500 ق.م.) والذي يعتبر أبا الجغرافيا الإغريقية يرسم خرائطه على أساس القرص المستدير.. وبالرغم من أن "أفلاطون" (سنة348 ق.م.) أتى بأول نظرية عن كروية الأرض إلا إنه لم يلق التأييد الكافي ممن جاء بعده.. بل إن الدولة الرومانية رفضت هذه الفكرة، وكتب "كوزماس" (cosmas) "أبو الجغرافيا الرومانية" في (سنة 547 م): "إن العالم يشبه العجلة، وإن مياه المحيط حوله من كل الجهات.." وبلغ الأمر ذروته حين تبنَّت الكنيسة وآباؤها الأوائل (وعلى رأسهم "لكتانشيوس") هذه النظرية بشدة، وقالوا بأن الأرض مسطحة، وأن الجانب الآخر غير مأهول؛ وإلا سقط الناس في الفضاء!.. ومما يُذكر في هذا السياق أن راهبًا مصريًّا يُدعى "قزماس" وضع في القرن السادس الميلادي نظرية فلكيَّة استمدَّها من النصوص المقدَّسة (!!) أصرَّ فيها على أن الأرض مستطيل مسطَّح، وأنها لا يمكن أن تكون كرويَّة!!..
المثير للعجب أن التعامل مع معارضي أمثال تلك النظريَّات كان يتَّسم بالضراوة البالغة؛ فكان المعارض يتعرض للتعذيب على الخازوق أو الحرق حيًّا بتهمة الهرطقة (التي تعني كنسيًّا: المروق عن الدين الصحيح)!!... بل كان علماء أوروبا حتى القرن الثالث عشر الميلادي يرسمون خريطة العالم على شكل صليب: رأسه هي الجنة، وقدماه هي النار، وذراعاه: البحر الأبيض والبحر الأحمر.. وبيت المقدس (أورشليم) في موضع القلب!!!.
من أشهر العلماء الأوروبيين الذين تبنَّوا نظريَّة كرويَّة الأرض "نيقولا كوبرينكوس" (1473م – 1543م) الذي توصَّل إلى أن الأرض ليست مركز الكون.. إلا أنه لم يتجرأ على نشر كتابه إلا وهو على فراش الموت!! وظل كتاب "كوبرنيكوس" من الكتب المحرمة، واضطهدت الكنيسة كل من يؤيد اعتقاد "كوبرنيكوس" مثل "برونو" الذي أُعدم حرقًا، و"جاليليو" الذي أودع السجن حتى أُرغم على التنكر لنظرية "كوبرنيكوس" والتخلي عن آرائه، والانصياع للفكر الكنسي!!!..
الحضارة الإسلامية وإنقاذ العلوم!!
جاءت الحضارة الإسلامية فأحيت نظرية كروية الأرض وتبنَّتها.. وربما كان من أهم أسباب ذلك أن القرآن أشار بصور مختلفة إلى كروية الأرض.. فمن ذلك قوله تعالى: "والأرض بعد ذلك دحاها".. والدحية في اللغة هي الكرة.. كما أن هناك آيات تتحدث عن دوران هذه الكرة حول نفسها بما يُحدث الليل والنهار.. فيقول تعالى: "يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل".. ويعلِّق الدكتور زغلول النجار على هذه الآية الكريمة بقوله: "معني: يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل.. أي: يُغشي كلَّ واحد منهما الآخرَ كأنه يَلُفُّه عليه, وهو وصف واضح الدلالة علي كروية الأرض, وعلي دورانها حول محورها أمام الشمس, وذلك لأن كلا من الليل والنهار عبارة عن فترة زمنية تعتري نصف الأرض في تبادل مستمر, ولو لم تكن الأرض مكورة لما تكور أي منهما, ولو لم تكن الأرض تدور حول محورها أمام الشمس ما تبادل الليل والنهار وكلاهما ظرف زمان وليس جسما ماديا يمكن أن يكور, بل يتشكل بشكل نصف الأرض الذي يعتريه.."
ثم يؤكد الله تعالى هذا المعنى فيقول سبحانه: "رب المشرقين ورب المغربين"، ويُقسم في موضع آخر: "..بربِّ المشارق والمغارب.." فهي آيات تشير بوضوح إلى أن الشمس عندما تشرق على مكان من الأرض فهذا يعني أن هناك غروبًا في مكان آخر، أي أن المشارق والمغارب تتعاقب بسبب دوران الكرة الأرضية حول نفسها.
علماء الشرع وكروية الأرض!
مع أن "كرويَّة الأرض" شأن علمي كوني إلا أننا سنرى في السطور القادمة نظرة علماء الشرع لهذه الحقيقة، وكيفية اعتراضهم على منكريها.. مقارنة بما أشرنا إلى طرف منه آنفًا مما كان يعانيه معتنقو المسيحية في أوروبا من آباء الكنيسة وسلطانها المطلق عندما كان أحدهم – مهما أوتي من علم – يجهر بكرويَّة الأرض؛ لندرك الفارق الضخم بين مناخين:
• صنع الإسلام أحدهما بروح مشجعة على العلم، محترِمة للعقل والنظر والتجريب والبرهان؛ فأقام حضارته العظيمة التي أحسنت الصلة – على نحو غير مسبوق – بين الدين والعلم.. حتى غدا كلاهما يدعو إلى صاحبه ويرسخ أقدامه في القلوب والعقول جميعًا..
• بينما اغتالت سُلطة الكنيسة - في المناخ الآخر – روح العلم اغتيالاً، حينما أدمنت اعتناق الأساطير، وحمْل الناس قسرًا على اعتناقها.. الأمر الذي أدى – في نهاية المطاف – إلى ما نرى عليه الغرب الآن من إقصاء كامل للكنيسة عن كل قضايا الحياة!!
ينقل "ابن حزم" (ت:456هـ - 1064م) إجماع أئمة المسلمين على كروية الأرض في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) حيث يقول إنهم قد: "قالوا إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية، والعامة تقول غير ذلك.. وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحدًا من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يُحفظ لأحد منهم في دفعه كلمةٌ.. بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها.. قال الله عز وجل: "يكوِّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل".. وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، مأخوذ من: (كوَّر العمامة..) وهو إدارتها، وهذا نص على تكوير الأرض..."
ولا بد أن نلاحظ هنا إلى أي مدىً وصل ابن حزم رحمه الله في اعتراضه على مخالفيه في قضية بديهية كهذه.. إنه لم يزد على صفهم بـ"العامَّة" دونما تكفير ولا أحكام بالقتل.. لا سيَّما وهو أحد فقهاء عصره.. لنقارنَ هذا بما أشرنا إليه من مصادرة الكنيسة الأوروبية لآراء الآخرين معتمدة على سطوة النفوذ الديني والروحي!!
ويقول الإمام "فخر الدين الرازي" (ت: 606هـ - 1209م تقريبًا) في "مفاتيح الغيب" في تفسير قوله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ..." قال الرازي: "المدُّ هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، فقوله: "وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ" يُشعر بأنه – تعالى - جعل حجم الأرض حجمًا عظيمًا لا يقع البصر على منتهاه؛ لأن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به... والكرة إذا كانت في غاية الكبر، كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح.."
علماء الجغرافيا المسلمون وكروية الأرض:
سنقف الآن أمام بعض التأكيدات الواضحة لدى طائفة من علماء الجغرافيا المسلمين تجزم بكروية الأرض.. تلك الحقيقة العلمية التي لم يكتفوا بنفض ما علاها من أتربة الجهل والتعصب.. وإنما أيدوها بالمزيد من الأدلة والبراهين القاطعة التي يسَّرها الله لهم:
• يقول "ابن خرداذبة" (ت: 272هـ - 885م) في كتابه (المسالك والممالك): "إن الأرض مُدَوَّرَةٌ كدوران الكرة.. موضحة كالمحة في جوف البيضة" (والمحة هي: صفار البيض).
• وكتب "ابن رُستة" (ت: 290هـ - 903م) في كتابه (الأعلاق النفيسة): "إن الله جل وعز وضع الفلك مستديرًا كاستدارة الكرة أجوف دوَّارًا.. والأرض مستديرة أيضًا ومصمتة في جوف الفلك".
• وكتب "المسعودي" (ت: 346هـ - 956م) في كتابه (التنبيه والإشراف) : "جعل الله عز وجل الفلك الأعلى وهو فلك الاستواء وما يشمل عليه من طبائع التدوير، فأولها كرة الأرض يحيط بها فلك القمر...."
• وقد ذكر "الشريف الإدريسي" (ت: 560هـ - 1166م) في كتابه (نزهة المشتاق) ما نصه: "..وإن الأرض مدورة كتدوير الكرة، والماء لاصق بها، وراكد عليها ركودًا طبيعيًّا لا يفارقها، والأرض والماء مستقرَّان في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة.. ووضعهما وضع متوسط، والنسيم يحيط بها (يقصد الغلاف الجوي) من جميع جهاتها..." ويُذكَر أن الإدريسيَّ لما أراد صُنع نموذج للأرض كان على شكل كرة المجسمة..
• ويقول "القزويني" (ت: 682هـ - 1283م) في كتابه (عجائب المخلوقات): "الأرض كرة.. والدليل على ذلك أن خسوف القمر إذا كان يُرى من بلدان مختلفة فإنه لا يُرى فيها كلها في وقت واحد بل في أوقات متعاقبة لأن طلوع القمر وغروبه يكونان في أوقات مختلفة في الأماكن المختلفة. والأرض واقفة في وسط الأفلاك كلها بإذن الله تعالى..". ثم يفنِّد القزويني آراء علماء القرون الوسطى في أوروبا ورجال الكنيسة الذين يقولون: إن الأرض لو كانت كرة لسقط الناس في الجانب الآخر منها، أو كانت رءوسهم مقلوبة.. فيقول: "إن الإنسان في أي موضع يقف على سطح الأرض فرأسه أبدًا مما يلي السماء، ورجله أبدًا مما يلي الأرض، وهو يرى من السماء نصفها.. وإذا انتقل إلى موضع آخر ظهر له من جانب السماء الذي أمامه بقدر ما كان قد خفي عنه من الجانب الآخر.