بسم الله الرحمن الرحيم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الارواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)..رواه مسلم
إنّ الأرواح المقصودة في الحديث هي النفوس الخاصة بالبشر،
فإنّ النفس البشرية تحمل النور والظلمة، تحمل صفات الخير، وتحمل صفات الشر، ومجازاً فإننا سنسمي هذه الأنفس بالأرواح وذلك لأنّ النفوس في البرزخ تُسمى أرواحاً..
فإنّ الارواح النورانية تجوب في العوالم العلوية، بعكس السفلية، والنور يألف النور ويرتاح إليه، والظلمة في المقابل لا ترتاح للنور ولا تطيقه..
أمّا سبب تسمية هذه الأرواح بـ (الجنود المجنّدة) وذلك أن الأرواح تتقابل فيما بينها، فمنها ما يتوافق ومنها ما يتضاد،
وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلّم تآلف الأرواح بالتعارف، وسمّى الاختلاف بينها بالتناكر.. والجند جندان، جند الله وجند الشيطان، وجند الله هم أولياؤه وحزبه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجند الشيطان هم أولياؤه وحزبه الذين يسيرون في طريق الظلام والشهوات والغي والبغي.. فإذا ما التقى الجندان في عالم الأرواح فإنّ الله سبحانه قد أخبر عن حزبه (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)، وقد أخبر عن حزب عدوه (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ).. فلا بدّ من غلبة جنود النور
(كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ).. وكلّ نفس تحبّ طبيعتها وتفرح مع أهل عالمها، ولذى الروح تميز الروح الأخرى، وذلك بِقَبضِها وبَسْطها في حالة مقابلة الروح الأخرى..
ولهذا تجد أحياناً رجلاً يعمل السيئات ولكن تجد أنه محبوب لدى بعض الصالحين، وذلك لأن أرواحهم تآلفت مع روحه الطيبة، وإذ بعد مدّة تجده قد ترك السيئات وتاب منها وأصبح من الصالحين.. ويمكن أن تجد العكس كذلك،
وهكذا.. ويأتي قوله سبحانه وتعالى مشيراً إلى ذلك المعنى إذا ما أخذناه على سبيل الإشارة (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ).. فالروح الطيبة تألف مثيلتها، والروح الخبيثة تألف كذلك مثيلتها..
حقيقة هناك نقطة وهي: متى نُسمّي النفس روحاً، فإنّه إذا كانت النفس في عالم الغيب سمّيت روحاً، وإن كانت في عالم الشهادة يبقى اسمها نفساً،
فقوله عليه الصلاة والسلام: (الأرواح جنود مجندة) يقصد الأنفس في عالم الغيب، وهو ما يُسمّيه علماء النفس الحاليين (اللاوعي) أو (العقل الباطن).. ووصفها رسول الله بالجنود المُجنّدة، لأنها تؤثّر في غيرها وتتأثر..
والتأثير والتأثر يكونان بحسب الطبيعة التي جُبلت تلك النفس عليها.. لذا فقد صارت كلّ نفس بتأثيرها بمثابة الجندي الذي يحاول أن ينصر معتقده، وينصر رايته، فمن وافقه في ذلك تآلف معه، ومن أنكر ما هو عليه اختلف معه.. فالنفس بما تحمله من نور وظلمة تحاول التأثير في غيرها فإمّا أن يتوافق نورها مع نور غيرها فيحصل التآلف ضد الظلام، وإمّا أن تتوافق ظلمتها مع ظلمة غيرها فيحصل بينها تآلف ضد النور وهو الخير، وإمّا أن يتقابل نور نفس ما مع ظلمة أخرى فيحصل التنافر بينهما والاختلاف..
هذا الذي يحدث في عالم الغيب أو في ما يُسمّى بعالم الأرواح، فالأرواح تطير وتحلّق في هذا العالم البرزخي، وترى الروح تتقابل مع الروح الأخرى فيطيران سوية في نفس الاتجاه، وترى أنّ بعضها تتقابل فيتعاكسان في طريقهما، وهكذا.. وكلّ ذلك ينعكس على عالم الشهادة.. فهناك نفوس ترتاح مع بعضها، وهناك نفوس يحدث لها ضيق من وجود نفوس أخرى.. وهذا من التأثير النفسي/الروحي على صاحبها
و على الآخر..يمكن أن تختلف الأحوال بالنسبة لنفس الشخص الآخر، فتارةً ترتاح إليه وتارةً تنفر منه، فهذا راجع لعدة عوامل.. منها: أنّ كلا الطرفين يحمل النور والظلمة، فإن غلب النور عند أحدهما وغلبت الظلمة عند الآخر، فإنّ التنافر وعدم القبول سيكون هو الغالب عليهما، فإذا ما اتفقا في طبيعتهما فسيعودان للائتلاف، وهكذا..
.
إذن ما هو التآلف الروحي الذي قصده رسول الله ؟
هو التآلف الطبيعي الأصلي في الخير والطيبة، فالطيب يألف أصحاب الأرواح الطيبة، والخبيث يألف أمثاله ومن هم على شاكلته، فترى النور يزعجه، والظلمة تؤنسه، فإن سمع قرآناً يُتلى قُبض قلبه قبضاً شديداً، وإن ذكّره أحدٌ بالله سبحانه وبيوم القيامة تراه يكره من يذكّره ويبتعد عنه بُعد المشرقين.. أمّا أهل النور، فتراهم يحبّون النور وأهله، فالطيّب يحب الطيّب مثله، وهكذا..
وحتى تعرف الآخرين من خلال روحك، فانظر إلى نفسك إذا ما كنتَ من المُحبين لله والعاشقين له والقريبين منه، فإنك بقدر قربك من الله تعرف الآخرين بتعريف الله في قلبك؛ لأنّ قلبك سيكون مرآة ترى به حقيقة الكل (كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به)..
جعلنا الله وإياكم من أهل البصيرة وأهل القرب آمين، وجعل أرواحنا أرواحاً هائمة به مشتاقة إليه، وجعلنا الحق من الذين يهدون بأمره ويدعون إليه بالحق وبه يعدلون، آمين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..