الخضر واليتيمان
أكملَ موسى والخضر عليهما السلام طريقهمُا وانطلقا حتى أتيا قرية وكان أهلُها بخلاء لئامًا، فطافا في المجالس وطلبا طعامًا فلم يقدُم أهل القرية لهما شيئا وردّوهما ردّا غير جميل، فخرجا جائعين.
وقبل أن يجاوزا القرية وجدا جدارًا يتداعى للسقوط، ويكادُ ينهار، فرفعه الخضرُ بمعجزةٍ له بيده ومسحهَ فاستقامَ وافقاً. كان سمْكُ هذا الجدارِ ثلاثين ذراعًا بذراع ذلك الزمان وطولهُ على وجهُ الأرضِ خمسْماِئٍة ذراع وعرضهُ خمسينَ ذراعًا.
فاستغربَ موسى وقال: "عجبًا أتجازي هؤلاء القوم الذين أساءوا اللقاءَ بهذا الإحسانِ، لو شئتَ لأخذت على فعلك هذا أجرًا منهم نسدُّ به حاجاتنا"، فقال الخضرُ وقد تيقنّ أن موسى عليه السلامُ لن يستطيع بعد الآن صبرًا: "هذا فراقُ بيني وبينك"، فأخذ موسى بثيابهِ وقال: "لا أفارقكُ حتى تخبرني بم أباح لك فعل ما فعلت"، فلما التمس موسى ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل وقال: "سأبينُ لك ما لم تستطعْ عليه صبرًا، أما السفينةُ فكانت لمساكين يعملون في البحر، فيصيبون منها رزقا، يُعيُنهم على الكسب وعددُهم عشرةُ إخوةٍ ورثوها عن أبيهم، بكل واحدٍ عّلةٌ ليست في الآخر، خمسةٌ منهم لا يستطيعون العمل وخمسةٌ يعملون، فأما العمّالُ منهم فأحدُهم كان مجذومًا- والجُذامُ مرضٌ جلدي خطير - والثاني أعورُ، والثالثُ أعرج، والرابعُ ءادرُ - أي مصاب بفتق شديد - والخامسُ محمومًا لا تنقطعُ عنه الحُمّى الدهر كلهّ وهو أصغرُهم، والخمسة الذين لا يطيقون العمل أعمى وأصمُّ لا يسمعُ وأخرسُ ومقعدٌ ومجنونٌ. وكان عليهم ملكٌ فاجرٌ اسمهُ هُدَدُ بنُ بُدَدَ يأخذ كلّ سفينة صحيحةٍ تمرُّ في بحره غصْبًا ويتركُ التي فيها خللٌ وأعطالٌ" ثم أكمل الخضر كلامه قائلا: "ولم يكن الإخوةُ على علم بما يريدُ الملكِ فعله، فأظهرتُ في السفينة عيبًا حتى إذا جاء خُدّامُ الملك تركوها للعيب الذي فيها، وهذا الذي صار إذ لم يأخذها الملك ثم أصلحُتها لهم كما رأيت بعد ذلك فانتفعوا بها وبقيتْ لهم".
وأما الغلامُ المقتولُ فاسمه حيْسُون وكان كافرًا وأبواهُ مؤمنان وكانا يعطفان عليه فكرهتُ أن يحملُهما حبهّ على أن يتابعاهُ على كفره، فأمرني الله أن أقتله باعتبار ماسيئولُ أمُرهُ إليه، إذ لو عاشَ لأتعب والديه بكفرهِ، ولله أن يحكم في خلقهِ بما يشاءُ ويتصرّفَ في ملكهِ كما يشاءُ لا يظلمُ أحدًا".
وكانت أمُّ الغلام يوم قتل حبُلى فولدتْ بنتا كانت أرحم من الذي قتله الخضرُ، وقيل إنه لما كبرَتْ هذه البنتُ أدركتْ سيدنا يونس بن متى فآمنتْ به وتزوجّها فأنجبت عدةَ أنبياء فهدى الله بهم أممًا كثيرةّ وكانت العبرةُ في قصة هذا الغلام أنه فرح به أبواهُ حين وُلد وحزنا عليه حين قتل، ولوبقي كان فيه هلاكُهما، فالواجبُ على كل امرئ الرضا بقضاء الله تعالى.
وأما الأمرُ الثالث وهو الجدارُ فكان لغلامين يتيمينِ في المدينة حُكي أن أحدهما اسمه أصْرَمُ والآخر صريم واسمُ أبيهما كاشح وأمّهما دهنا، وكان تحت الجدار كنزٌ لهما عبارةٌ عن لوحٍ ذهبي ومالٍ كثيرٍ من ذهبٍ وفضةٍ تركه لهما والدهمُا الصالحُ الذي كان يؤدّي الأمانات والودائع إلى أهلها وقد حُفظا بصلاح أبيهما.
وفي الحديث النبوي: "إن الله يحفظُ الرجل الصالح في ذريته" ولما كان الجدارُ مشرفا على السقوط ولو سقط لضاع ذلك الكنزُ، أراد الله إبقاءه على اليتيمين رعاية لحقهما وحق صلاح والدهما فأمر الله الخضر بإقامة ذلك الجدار ليحفظ الكنز الذي سيكونُ من نصيب اليتيمين عندما يكبُران، وكان اليتيمان جاهلينْ بأن لهما كنزًا إلا أن الوصيّ عليهما كان عالماً به.
ثم أن الوصيّ غاب وأشرف ذلك الجدارُ في غيبته على السقوط. ثم قال الخضرُ بعد أن بيّن لموسى القضايا الثلاث: "وما فَعَلْتُهُ عن أمري" أي مافعلتهُ باجتهاد مني ورأي، إنما فعلتهُ بأمرِ الله وهذا يدلُّ على أنه نبيّ أوحي إليه.