علوم الصوفية ومعارفهم
اعلم أن التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، وأوسطه عمل، وءاخره موهبة.
واعلم أنّ لأهل التصوف علوما عبروا عنها بعبارات لها معان فالمواهب معناها ما يعطى السالك ثمرة مجاهدته وسيره في المقامات وهي الأحوال [(9)]، لأن الأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، ولأن الأحوال تأتي والمقامات تحصل ببذل، وقالوا: الأحوال كاسمها، وسمي الحال لتحوله، والمقام مقاما لإقامته، والشوق وهو هيجان القلب عند ذكر المحبوب، والهيبة وهو تعظيم القلب.
وقد قال الشيخ أبو بكر الكلاباذي في كتابه [التعرف لمذهب أهل التصوف]: "اعلم أنّ علوم الصوفية علوم الأحوال، والأحوال مواريث الأعمال، ولا يرث الأحوال [(10)] إلا من صحّح الأعمال. وأول تصحيح الأعمال معرفة علومها، وهي علم الأحكام الشرعية من أصول الفقه وفروعه من الصلاة و الصوم وسائر الفرائض إلى علم المعاملات من النكاح والطلاق والمبايعات وسائر ما أوجب الله وندب له، وما لا غناء به عنه من أمور المعاش، وهذه علوم التعلم والاكتساب"، ثم يقول بعد كلام له: "ثم عليه علم ءافات النفس ومعرفتها ورياضتها، وتهذيب أخلاقها، ومكائد العدو، وفتنة الدنيا وسبيل الاحتراز منها، وهذا علم الحكمة، فاذا استقامت النفس على الواجب وصلحت طباعها، سهل عليه إصلاح أخلاقها، وتطهير الظاهر منها، والفراغ مما لها وعزوفها عن الدنيا وإعراضها عنها، فعند ذلك يمكن للعبد مراقبة الخواطر وتطهير السرائر، وهذا علم المعرفة، ثم وراء ذلك علم الخواطر وعلوم المشاهدات والمكاشفات وهي التي تختص بعلم الاشارة، وهو الذي تفرّدت به الصوفية بعد جمعها سائر العلوم التي وصفناها، وإنّما قيل علم الإشارة لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار يصعب العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم بالمنازلات والمواجيد لا يعرفها إلا من نازل الأحوال وحل تلك المقامات". ا.هـ.
وعلى هذا فانّ الإمام القشيري قد فصّل سلوكهم ومقاماتهم، وهي التي تشمل علومهم ومعارفهم التي أمروا باتباعها، نذكرها على سبيل الاختصار وهي:
1- التوحيد: الافراد:
قال الله تعالى: {والهكم اله واحد لا اله الاّ هو الرحمن الرحيم} (163) [سورة البقرة].
قال الجنيد: "التوحيد افراد القديم من المحدث".
وقال علي البوشنجي: "اثبات ذات غير مشبه للذوات ولا معطل عن الصفات".
وقال القشيري: "التوحيد هو الحكم بأن الله تعالى واحد".
وقال الجنيد أيضاعن التوحيد: "اعتقاد أنه الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، ونفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تصوير ولا تمثيل ليس كمثله شىءnء".
وقال الإمام الرفاعي: "التوحيد وجدان تعظيم في القلب يمنع من التعطيل والتشبيه".
2- المعرفة بالله: العلم بالله تعالى:
قال الله تعالى: {وما قدروا الله حقّ قدره(91)} [سورة الأنعام].
وقال الغزالي: "لا تصح العبادة الا بعد معرفة المعبود".
قال القشيري رضي الله عنه: "المعرفة على لسان العلماء هي العلم، فكل علم معرفة، وكل معرفة علم، وكل عالم بالله تعالى عارف، وكل عارف عالم، وعند هؤلاء القوم: المعرفة صفة من عرف الحق بأسمائه وصفاته، ثم صدق الله تعالى في معاملاته، ثم تنقى عن أخلاقه الرديئة، ثم طال بالباب وقوفه ودام بالقلب اعتكافه، وصدق الله في جميع أحواله".
وقال ذو النون المصري: "علامة العارف ثلاثة: لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنا من العلم ينقض عليه ظاهرا من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله عز وجل على هتك أستار محارم الله تعالى".
3- القناعة: وهي السكون عند عدم المألوفات:
وقال أبو عبد الله بن خفيف: "القناعة ترك التشوق الى المفقود والاستغناء بالموجود".
وقال محمد بن علي الترمذي: "القناعة رضا النفس بما قسم لها من رزق"، ويقال: "القناعة الاكتفاء بالموجود، وزوال الطمع فيما ليس بحاصل".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى" رواه أبو يعلى.
وقيل: "وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع: العز في الطاعة، والذل في المعصية، والهيبة في قيام الليل، والحكمة في البطن الخالي، والغنى في القناعة".
4- التوكل: هو ترك تدبير النفي والانخلاع من الحول والقوة، وانما يقوى العبد على التوكل، اذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه.
واعلم أنّ التوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب، بعدما تحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى، وان تعسر شىء فبتقديره.
وقال سهل بن عبد الله: "من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في القلب".
وقال حمدون القصار: "التوكل هو الاعتصام بالله تعالى".
وسئل أبو عبد الله القرشي عن التوكل فقال: "التعلق بالله تعالى في كل حال".
وقال أحمد بن مسروق: "التوكل الاستسلام لجريان القضاء".
وقال سهل بن عبد الله: "التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال".
5- الشكر: هو شكر النعمة وحفظ المنة:
قال الجنيد: "كنت بين يدي السري ألعب وأنا ابن سبع سنين وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي: يا غلام ما الشكر فقلت: أن لا تعصي الله بنعمه".
وقال أيضا: "الشكر أن لا يستعان بشىء من نعم الله تعالى على معاصيه".
اليقين: وهو زوال المعارضات.
قال ذو النون المصري: "اليقين داع الى قصر الأمل وقصر الأمل يدعو الى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب".
وقال السري السقطي: "اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك، لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عنك مقضيا".
وقال ذو النون المصري: "ثلاثة من أعلام اليقين قلة مخالطةالناس، وترك المدح لهم في العطية، والابتعاد عن ذمهم عند المنع".
6- الصبر: هو حبس النفس وقهرها على المكروه تتحمله أو لذيذ تفارقه قال الله تعالى: {واصبر وما صبرك الاّ بالله(127)}[سورة النحل].
وسئل الجنيد عن الصبر فقال: "تجرع المرارة من غير تعبيس".
وقال ذو الون المصري: "الصبر التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، واظهار الغنى مع حلول الفقر بمساحات المعيشة".
وقال ابراهيم الخواص: "الصبر هو الثبات مع الله تعالى وتلقي بلائه بالرحب والدعة".
وقال ذو النون المصري: "الصبر هو الاستعانة بالله تعالى".
وقال ابن عطاء: "الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب".
وقيل: "الصبر هو الفناء في البلوى بلا ظهور شكوى".
روى عن أنس بن مالك أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انّما الصبر عند الصدمة الأولى" رواه البخاري.
وقال علي رضي الله عنه: "الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد".
7- المراقبة: دوام النظر بالقلب، والوقوف عند الحدود والشبهات بأن يستشعر أن الله مطلع عليه بكل حركاته وسكناته.
قال الله تعالى: {وكان الله على كل شىء رقيبا(52)} [سورة الأحزاب].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فان لم تكن تراه فانّه يراك" رواه مسلم.
وسئل ابن عطاء: "ما أفضل الطاعات فقال: مراقبة الحق على دوام الأوقات".
وقال ذو النون المصري: "علامة المراقبة ايثار ما ءاثر الله تعالى، وتعظيم ما عظم الله تعالى، وتصغير ما صغر الله تعالى".
وقال ابراهيم النصر ءاباذي: "الرجاء يحرك الى الطاعات، والخوف يبعدك عن المعاصي، والمراقبة تؤدي بك إلى طرق الحقائق".
وقال ابراهيم الخواص: "المراعاة تورث المراقبة والمراقبة تورث خلوص السر والعلانية لله تعالى".
ويقول أحمد الحريري: "أمرنا هذا مبني على فصلين: وهو أنْ تلزم نفسك المراقبة لله تعالى، ويكون العلم على ظاهرك قائما".
8- الرضا: وهو التسليم وعدم الاعتراض:
قال الله تعالى: {رضى الله عنهم ورضوا عنه(119)} [سورة المائدة].
قال أبو عبد الله بن خفيف: "الرضا سكون القلب إلى أحكامه وموافقة القلب بما رضي الله تعالى به واختاره".
وقال الجنيد: "الرضا دفع الاختيار".
وقال رويم: "الرضا استقبال الأحكام بالفرح".
وقيل: "الراضي بالله تعالى هو الذي لا يعترض على تقديره وأحكامه".
وقال أبو علي الدقاق: "ليس الرضا أن لا تحس بالبلاء، ولكن الرضا أن لا تعترض على الحكم والقضاء".
9- العبودية: القيام بحق الطاعات بشرط التوقير قال الله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)} [سورة الحجر).
ويقال: "العبودية معانقة ما أمرت به ومفارقة ما زجرت عنه".
وقال ابن عطاء: "العبودية من أربع خصال: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر عن المفقود".
10- الارادة: ترك ما عليه العادة وهي بدء طريق السالكين.
قال أبو علي الدقاق: "الارادة لوعة في الفؤاد، ولدغة في القلب، وغرام في الضمير، وانزعاج في الباطن، ونيران تتأجج في القلوب".
ويقول الشيخ محمد الكتاني: "من حكم المريد أن يكون فيه ثلاثة أشياء: نومه غلبة، وأكله فاقه، وكلامه ضرورة".
ويقول الجنيد: "اذا أراد الله تعالى بالمريد خيرا أوقعه في الصوفية".
وقد قيل: "الإرادة ترك ما عليه العادة، وعادة الناس من الغالب التعريج على أوطان الغفلة، والركون إلى اتباع الشهوة والإخلاد إلى ما دعت اليه المنية، والمريد منسلخ عن هذه بالجملة، فصار خروجه أمارة ودلالة على صحة الإرادة، فسميت تلك الحالة إرادة، وهي الخروج عن العادة، فان ترك العادة أمارة الإرادة، وأما حقيقتها فهي نهوض القلب في طلب رضا الحق سبحانه وتعالى ولهذا يقال انّها لوعة تهون كل روعة".