إن من طبيعة الحياة الدنيا الهموم والغموم التي تصيب الإنسان فيها ، فهي دار اللأواء والشدة والضنك ولهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم :
{ لا يمسهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين } .
وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً * إلا قيلاً سلاماً سلاماً } .
وطبيعة الحياة الدنيا المعاناة والمقاساة التي يواجهها الإنسان في ظروفه المختلفة وأحواله المتنوعة كما دل عليه قول الحق تعالى :
{ لقد خلقنا الإنسان في كبد }
هو حزين على ما مضى ، مهموم بما يستقبل ، مغموم في الحال والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن ، وإن كان من مستقبل أحدث الهم ، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم ، يقول ابن القيم في كتابه الفوائد :
" والقلوب تتفاوت في الهم والغمّ كثرة واستمراراً بحسب ما فيها من الإيمان أو الفسوق والعصيان فهي على قلبين :
قلب هو عرش الرحمن ، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم . إذا :
لكل منا همّ بل هموم يحملها في صدره ، إذ الدنيا كلها دارهموم وغموم وكما قال الأول :
جبلت على كدر وأنت *** تريدها صفواً من الأكدار
والهموم بعضها دنيوي ، والبعض منها أخروي ، فمن الهموم الدنيوية وما أكثرها :
همّ الدراسة، الرزق والوظيفة وحاجات الأسرة وأعطال السيارة ومشاكل الأبناء ، ومن الهموم الأخروية:
أحوال المسلمين عذاب القبر وأهوال القيامة والمصير إلى الجنة أو إلى النار وتربية الأبناء وكيفية القيام بحقوق الوالدين وهمّ الدَين وسداده للخلوص من حقوق العباد، والإنسان في هذه البسيطة يعيش في وسط هذه الهموم ، إذ الدنيا معاشنا ، والآخرة معادنا فكل منها مصلحة للإنسان يود لو كفيها ، لكن ينبغي على المسلم أن يعطي كلاً من الدنيا والآخرة قدرها ، فيتخفف من شواغل الدنيا وهمومها ، ويجعل همّه وشغله في مسائل الآخرة ، وهذا ما أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :
( من جعل الهموم همّاً واحداً هم المعاد كفاه الله همّ دنياه ، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك ) [ ابن ماجه ح4106] وفي رواية :
( من كان همه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرّق الله عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ) [ أحمد ح21080] وعن الحسن قال :
" فمن تكن الآخرة همه وبثه وسدمه يكفي الله ضيعته ويجعل غناه في قلبه ، ومن تكن الدنيا همه وبثه وسدمه يفشي الله عليه ضيعته ويجعل فقره بين عينيه ، ثم لا يصبح إلا فقيراً ولا يمسي إلا فقيراً " [ الدارمي ح331] .
والسؤال الذي يطرح نفسه :
ماهو الهم الأول الذي يسيطر على حياتنا ؟
وهو الهم الذي يسميه النبي صلى الله عليه وسلم الهم الأكبر وذلك في قوله :
( ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ) [ الترمذي ح3502] هل هذا الهم من هموم الدنيا أم من هموم الآخرة؟
حاول أن تكتب الهموم التي تهمك في ورقة ، وانظر أهمها لديك ، وأكثرها شغلاً لبالك ، ثم انظر كم من هذه الهموم للدنيا وكم منها للآخرة ؟
قال علي بن أبي طالب :
" ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل " [ رواه البخاري في باب الأمل وطوله] .
إن من أراد أن يعرف الهم الأكبر الذي يشغله فلينظر في أحواله :
ما الذي يفكر فيه قبل نومه أو في صلاته ..؟؟
ما الذي يفرحه ويحزنه ..؟؟
وما الذي يغضبه ..؟؟
ما هي أمنياته ..؟؟
وبماذا يدعو الله في سجوده ..؟؟
وما الذي يراه في منامه وأحلامه ..؟؟
ما الأمر الذي يؤثر فيه تأثيراً مباشراً في قراراته كاختيار الزوجة ومكان السكن ، هل هو الجمال وإيجار الشقة أم الدين والجوار من المسجد ..؟؟
إن التبصر في ذلك كله يدلك على الهم الأول أو الأكبر في حياتك ، فتعرف حينذاك أنك ممن أهمته دنياه أو أخراه .