قضية إبليس الرئيسية:
الثابت عند إبليس هو لمن يكون (التحليل والتحريم)... (الأمر والنهي)... (التشريع)؟
أو بتعبير آخر مَن يُعَظَّم باتباع أمره واجتناب نهيه؟ من يُتَّبع بتعظيم أمره ونهيه؟!
وهذه هي العبادة على الحقيقة، قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [سورة يس: 60]، وعبادتهم له طاعتهم إياه[1]. {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [سورة التوبة: من الآية31]، والمعنى: "يحلون لهم ما حرم الله, فيحلونه, ويحرمون لهم ما أحل الله فيحرمونه, ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها" كما يقول السعدي [2].
هذه هي قضية إبليس الأولى:
ويمكن التعبير عنها بصيغة أخرى، وهي القول بأن اللعين يهتم بإخراج العمل من الإيمان، يهتم بأن يبقى الإيمان معرفة خبرية، يهتم بأن يكون الإيمان نظرية، والدعوة تكون لعدد من المفاهيم التي لا تظهر على جوارحِ مَنْ يقتنعُ بها. يهتم بأن يكون التوحيد فقط في شقه الأول (المعرفي الخبري) (الربوبية والأسماء والصفات).
أو يمكن القول جملةً بأن قضية إبليس هي صرف العبادة عن الله ـ سبحانه وتعالى وعز وجل ـ، هذه هي قضيته الأولى.
ومن البديهي أن كل معرفة تتطلب عملاً.. كلَّ معرفةٍ تدفع صاحبها لطلبِ محبوبٍ أو دفعِ مكروهٍ، فكيف لا تحدث المعرفة بالله أثراً في القلب؟، كيف ينحرف إبليس بالناس عن عبادة الله وهم يعلمون أن الله خالقهم ورازقهم ومحيهم ومميتهم؟، كيف يتبع الناسُ إبليسَ وهم يعلمون أنه عدوهم اللدود؟
الإجابة تحت هذا العنوان.
آلية إبليس في الغواية:
الواضح أن إبليس له نوعان من الخطاب، نوع يوجه لعوام الناس، ونوع يوجه لخواصهم.
عوام الناس يخدعهم بالوسائط بينهم وبين الله، ويأتيهم من قبل حرصهم على دنياهم، ولذا تراهم (متدينون) أو (مبتدعون)، وتراهم معرضون رضوا بالحياة الدنيا واطمئنوا بها وتراهم عن آيات ربهم غافلون، لا ترتفع همتهم عن فروجهم وبطونهم، وخواص الناس وهم الزعماء وهم الملأ يأتيهم من قبل حبهم للرياسة، وأن الدين سيذهب بسلطانهم أو بملذاتهم، ويجندهم لحرب الدين، ولذا تراهم يجحدون، يعرفون الحق وهم له منكرون.. يضللونَ العامة من الناس.
بكلمة واحدة: يأتي إبليس الناسَ من قبلِ ما يحبون.
فأتى آدم ـ عليه السلام ـ وغرَرَ به حتى أنزله من جنة الخلد ، يقول الله تعالى واصفاً ما حصل من إبليس تجاه آدم وزوجه: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} [سورة الأعراف: 22]، وهذه الجملة من المعجز بياناً ومما لا يطيقه بشر، بل مما لا يطيق بيانه بشر في قليل من الكلام، تقذف في قلبك بمعان كثيرة ثقيلة و كبيرة، وتختصر أياماً من الفعال، تشي الآية بأن إبليس أنزل آدم وزوجه من الجنة بهدوء.. بغرور.. أو "أنزلهما من رتبتهما العالية، التي هي البعد عن الذنوب والمعاصي إلى التلوث بأوضارها" [3].
والآية الكريمة تصف خطة إبليس في الغواية، فهو ينزل الناس للكفر من حيث لا يشعرون، يأتيهم من قبل ما يحبون، ويعالجهم على مهل... بهدوء تام، فعل هذا مع قوم نوح، فقد خطط ونفذ في أجيال وليس في جيل واحد، بدأ العمل في جيل وأثمر عمله بعد هذا الجيل بأجيال كثيرة، وكذا مع العرب، وكذا مع كل من تكلم بالفداء والصلب.
ومَعْلَمٌ آخر واضح في عقلية إبليس اللعين، وهو أنه لا يدعوا الناس للكفر في الغالب، بل للابتداع، فتجد كل جاهلية تدعي الإيمان، تجد كلَّ جاهليةٍ تنتسب لله أو تدعي الصواب، مشركوا العرب حكى القرآن حالهم بقوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: 28]، والذين كفروا من أهل الكتاب ينتظرون (الملكوت) ثواباً على كفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيما بالزنا (كما يهود) أو بولادة (الإله) منها عليها السلام (كما النصارى)، تعالى الله عن إفكهم علواً كبيراً.
والكل يقيم بعض (الطقوس) الدينية التي يخادع بها الشيطانُ النفسَ، فشيءٌ من الرحيل لهذا الوثن أو ذاك (ما يعرف بالحج، وكلهم يحجون)، وشيء من العكوف في أماكن العبادة (الكنائس) أو (بجوار الأصنام) أو (الأضرحة) أو أمام (بقرة) أو (فأرٍ) أو (فرج امرأة) في حالة من الخشوع الكاذب. وهو الشيطان يخدعهم، يسوقهم للجحيم من حيث لا يشعرون.
لا يهم عند إبليس أن يقول المرء أنني مؤمن بالله، بل تجده يحرص على أن يبقى الجميع منتسبون لله.. عبادٌ لله أو (أبناء) الله أو غير ذلك، فالعصيان بالابتداع أحب إليه من التمرد الصريح.
إن الذي يحرص عليه إبليس.. إن الثابتَ عند هذا اللعين هو أن لا يطاع الله، أن لا يحل ما أحل الله ولا يحرم ما حرم الله، أن تصرف العبادة (الطاعة) لغير الله. كوسيط (يشفع عند الله) أو كفادي (أنزله الله ليفتديهم من الخطايا).
ويمكن سحب هذه المقدمة على الانحرافات الموجود على ظهر المعمورة اليوم، والتي وجدت من قبل، والأمر سهل يسير بحول الله وقوته، ولكن المقام مقال ولذا أكتفي بعرض بعض التطبيقات.
قضية التجسد من أجل الفداء
يرتكز إبليس ـ كما قدمت ـ على إتيان الإنسان من قبل ما يحب.. الخلد.. تعظيم الصالحين.. عرف الآباء.. رؤية الله عز وجل.. السلطة.. التعالي بين الناس، ثم هو لا يدعوهم للكفر بل للابتداع.
ومن ذلك موضوع (التجسد) من أجل (الفداء) وهي خطة شيطانية تكررت فيما نعلم سبعة عشر مرة، وكان آخرها لا أولها ما عليه عباد الصليب اليوم.
استغل إبليس شوق الناس إلى لقاء الله عز وجل، استغل ما فطر عليه الإنسان من حب التعرف على الله، وكل الناس يحبون التعرف على الله حتى الأنبياء {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [سورة الأعراف: من الآية143]، أتاهم من هذا الباب، وقال لهم بأن الله تجسد ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ ونزل على الأرض ليعيش بينهم فيتعرفوا عليه أكثر!!
وكذب، فلو سلمنا جدلاً أن الله يتجسد فقد صار إنساناً يأكل ويشرب، فكيف يتعرفون عليه وقد خرج عن طبيعته؟!، هذا لو سلمنا جدلاً أنه تجسد، فالتجسد ليس وسيلة للتعرف على الله، هذا ما يفهمه العقل، ثم كذب عليهم كذبة أخرى، وادعى أن (الله) حين تجسد جاء ليقتل فداءً لهم من خطيئة آدام الموروثة فيهم!!
ولم يقل بهذا إلا إبليس اللعين، فالخطيئة لا تورث {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [سورة المدثر: 38]، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الزمر: 7]، وفي كتابهم "20 اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ. اَلابْنُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الأَبِ، وَالأَبُ لاَ يَحْمِلُ مِنْ إِثْمِ الابْنِ. بِرُّ الْبَارِّ عَلَيْهِ يَكُونُ، وَشَرُّ الشِّرِّيرِ عَلَيْهِ يَكُونُ" [ حزقيال :16 :20]. وفي العهد الجديد.. في يوحنا [5: 29] 29 فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ".
فالناس محاسبون بأعمالهم إن خيراً أو شراً في (التوراة) [4] و(الإنجيل) [5] والقرآن، ثم جاء الشيطان وتكلم على لسان (بولس) بما تكلم به من قبل على لسان أناسي كثيراً في مصر والهند وأيرلندا والعراق وفارس وغيرهم، وقبل الناس!!
ولكن كيف قبل الناس؟
أتاهم من قبل ما يحبون، قال لهم إنكم لا تنفكون عن الخطيئة، والخطيئة في حق الله، ولا يكفر عنها إلا الله بموته بينكم، فـ (الله) قد نزل ومات من أجلكم!!.. الله يحبكم ولذلك قد حمل عنكم أوزاركم. وما عليكم سوى أن تصدقوا.. فقط تصدقوا بعقيدة الفداء.. وفرح المعرضون المنشغلون بلذاتهم، المستثقلون للعبادة.
والعجيب أنهم يقولون لنا حين يواجهوننا اختر بين إله تتعب من أجله وإله يتعب من أجلك.
ولو صدقوا مع أنفسهم لقالوا قد اختر بين أن تكون عبداً وأن تكون معبوداً، فحقيقة الأمر أن الرب أصبح عندهم عبداً والعبد رباً ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولو صدقوا مع أنفسهم لعلموا أن الله لا يتجسد، ولا يحتاج للتجسد والقتل من أجل غفران الخطيئة، الله هو الغفور الرحيم، يغفر الذنوب جميعاً، والله هو العزيز الحكيم، لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة الطائعين، ولو سلمنا بعقيدة الفداء فإنه لا بد من موت (الله) كي تذهب الخطيئة.
فالخطيئة لا تمحى إلا بموت (الإله) ـ بزعمهم ـ فإن سلمنا بقولهم فقد مات الله، وإن لله وإن إليه راجعون!!
ألا ما أخف تلك العقول.
وشيء آخر هو أن قصة الصلب من أجل الفداء تكلم بها الشيطان على لسان (بولس)، لم يتكلم بها المسيح ـ عليه السلام ـ لم يقل المسيح صراحةً أنه هو الله متجسداً أو ابن الله ـ بنوة نسب ـ فضلاً عن أن يقول أنه جاء ليصلب تخليصاً لخطايا الناس، بل نص ـ كما مرَّ ـ على أن الناس مؤاخذون بأعمالهم، ونص على أنه عبد الله ورسوله.
هو الشيطان يأتي الناس من قبل ما يحبون، يخدعهم، ثم يوم القيامة يخزيهم وينادي فيهم {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة إبراهيم: 22].
الوسطاء بين الله والناس:
خدع الناس بأن مقام الألوهية عالٍ لا يستطيع الناس أن يصلوا إليه من تلقاء أنفسهم، فعليهم أن يتخذوا بينهم وبين الله وسطاء، من الصالحين، يعبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى، فكانت الأصنام وكانت الأبقار والفئران والفروج والنيران، يتمسحون بها ويقفون أمامها في خشوعٍ كاذب، ويقدمون لها القرابين، يصرفون لها العبادة، يقولون تقربنا إلى الله!!، وانخدع العوام بهذا الأمر، وفرح به الملأ الذين يعرفون الحق وهم له معرضون.
فرح العوام إذ أنه دين سهل لا أمر فيه ولا نهي، فرح العوام لأنهم يحبون أن يكون معبودهم بين أيديهم.. يحسونه {اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف: 138]، وفرح الملأ المجرمون إذ أنهم هم الآمرون الناهون على الحقيقة، فالأصنام لا تأمر ولا تنهي، والأبقار والأشجار والتماسيح وباقي المعبودات لا أمر لها ولا نهي وإنما سدنتها المجرمون.
عرف إبليس من أين يأتي الناس، عوامهم وخواصهم