أقسم عدوّ الله، فقال لربه:
[أرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا]
فجاء الخطاب الإلهي بالرخصة قال:
[اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا]
رخصة إبليس .
كتب التراث العربي ملىء بقصص عن الرغبة والجسد، والحديث عنه ليس حراماً أو "عيباً"، وهو جزءاَ من الحياة ومتداولاً في الأحاديث
رواية جريئة ترصد العبور إلى الجنس الآخر
{انعتاق الرغبة}
للشاعرة والروائية المغربية فاتحة مرشيد تكتظ هذه الرواية بالمفاجآت والقصص الجانبية
[ بتصرف]
لعلّ القارئ الذي يطلّع على «مخالب المتعة» و«المُلهِمات» و«التوأم» سيدرك حجم جرأة الكاتبة، وشجاعتها في التعاطي مع الموضوعات الحسّاسة التي في هذه الرواية التي عالجت ثيمة التحوّل الجنسي، والمِثليّة، إضافة إلى الثيمات المؤازرة مثل القمع والاغتصاب، وتحوّل الطُغاة إلى ذئاب بشرية تنهش أجساد النساء والأطفال، وتنتهك أعراضهن جهارًا نهارًا
تنطوي الرواية على الدَفْتَرَين اللذين تركهما الوالد عزالدين عند صديقته فادية، إضافة إلى الصور التي كانت تبعثها شقيقته ربيعة سرًا، وهناك صور أخرى لمرحلة التحوّل الجنسي التي أصبح إثرها الأب عزالدين امرأة تحمل اسم «عزيزة»، بعد أن تخلصت من معالم ذكورتها ونبذت الجسد الخطأ الذي كانت تسكنه روحها
ليس من السهل على زوجة عزالدين أن تتقبّل فكرة الجنس الثالث، فما الذي سوف تقوله لابنها عندما يكبر؟ أتقول له أنّ والده كان امرأة؟ والأهم من ذلك أنّ القرّاء يتعاطفون معها، ويتفهمون حاجتها المُلحّة لهذا التحول الجنسي.
يطلّق عزالدين زوجته، ويتنازل لها عن كل شيء، ويرحل إلى بلجيكا ثم إلى كندا حيث يوثق فيها كل شيء، حياته قبل وبعد التحول الجنسي. وقبل أن تتوفى «عزيزة» إثر قصور في القلب تترك رسالة مهمة عند صديقتها الحميمة «فادية» تطلب منها إيصال الدفتر الأول إلى ولدها الدكتور فريد السامي، وثمة دفتر آخر ينتظرها في مونتريال .
تخبرنا أن الدكتور فريد يقرر السفر إلى كندا، وهناك يقابل «فادية» التي يعتقد أنها ليست غريبة، وبين تفاصيل الذهاب والعودة تزودنا كاتبة النص الجريء بعملية التحوّل الجنسي التي يتناول فيها المريض هرمون الأستروجين أو جرعات الأنوثة، التي تُبرز الصدر، وتُقلّص العضلات، وتُفقِد الصوت بعضًا من خشونته، كما تُغيّر نوع الشَعر، وشكل الخصر، وتمنح قسَمات الوجه رِقّة مُضافة. أمّا الهدف من هذه العملية فهو الإحساس بهوية متكاملة، وإحداث تطابق كامل بين الجسد والنفس يُفضي إلى التخلّص النهائي من اضطراب الهُوية الجنسيّة .
قسّمت الكاتبة فاتحة مُرشيد روايتها إلى أربعة أقسام، وقد احتشد القسم الثاني بمصادفات عديدة، منها أنّ الجد إبراهيم السامي أطلق على ولده عزالدين لقب الفرس، وهو الواحد من الخيل، ويُطلق على الذكر والأنثى، كما أنه من برج القنطور، وهو كائن نصفه الأعلى إنسان، والأسفل فرس:
وهكذا تتوالى المصادفات والمفاجآت حينما نكتشف أن عزالدين كان يحب منذ طفولته تقمص الأدوار الأنثوية، والتشبّه بالفتيات لأنه يشعر في أعماقه بأنه امرأة مقيّدة بجسد رجل. وعندما يتزوج يرتدي قمصان زوجته، ويتشممها في غيابها لرغبته الجامحة في أن يجسّد دور المرأة ويتفادى دور الرجل .
تؤكد الروائية على أن هناك دولاً عديدة اعترفت بالجنس الثالث، وضمنت حقوقهم الاجتماعية والمدنية مثل الهند وباكستان، لكن هناك العديد من رجال الدين مازالوا يخلطون بين المثلية، والانحراف، والتشبّه، والتحوّل الجنسي مع أنّ هذا الأخير هو مجرد اضطراب في الهوية الجنسية ويحتاج إلى علاج سريع وناجع .
فبعد أن سرد الوالد عزالدين حكاية تحوله الجنسي وأعتق تلك الرغبة الجامحة التي كانت تحتل مساحة كبيرة من تفكيره، جاء دور فادية لكي تروي قصة اغتصابها من قِبل القذافي، وهذا الأمر لم يقتصر على فادية فحسب، وإنما على الكثير من الفتيات العذراوات التي أُشيع أنّ «بابا القائد» كان يستعمل دم بكارتهنَّ لممارسة الشعوذة والسحر الأسود. لقد أفادت فاتحة مرشيد من كتاب «فرائس في حريم القذافي» للكاتبة الفرنسية أنيك كوجون، ومَنْ يدقق في التفاصيل سيكتشــف أن «عائشة» .
[ تعد “عائشة” حارسة القذافي من أهم الحارسات اللاتي خدمن الزعيم الراحل، وكانت ضمن المئات من السيدات التي يشكلن الحرس الشخصي للزعيم الليبي] .
التي وردت في الرواية هي «مبروكة» التي تنتقي للقذافي الفتيات من المدارس والجامعات، وربما تكون «صُوريا» هي الوجه الآخر لفادية أو عالية أو غيرهن من الضحايا اللواتي كان يفترسهن القذافي طوال 42 عامًا من أعوام حكمه. سوف تهرب فادية مع صديقتها فوزية إلى تونس، ومنها إلى بلد غربي يحترم المرأة كإنسان يعيش الحياة التي يختارها بنفسه. وكانت أسرع إجـــابة تلقتها هي من امرأة عربية تُدعى «عزيزة فرس»، تُقيم في مونتريال، وسوف تعاملها كصديقة حميمة .
مثلما لم تستوعب الأم مريم قصة التحوّل الجنسي لزوجها عزالدين، حيث طلبت منه الطلاق والتواري عن أعين الناس لم تحتمل صوفيا زوجه الدكتور فريد أن يكون جد أولادها امرأة، فلا غرابة أن تطلب منه الطلاق، عندها يقرر الهجرة إلى مونتريال بعد أن ضمن عقد العمل في أحد المستشفيات الكندية، بمساعدة البروفيسور برنار لأنه قرر أن يتخلى عن جراحة التجميل التي اختارتها له أمه، ويبدأ في جراحة التحوّل الجنسي. فالتجميل بحد ذاته ليس عملاً جبارًا وإنما هو تصحيح هوية جنسية، ومصالحة جسد بروح، وهو ولادة جديدة، ومأثرة علمية لم يتذوّق طعمها من قبل .
لا يزال فريد يتحدث بضمير المتكلم الذي سيفعل أشياء كثيرة تربطه بفادية التي أحبها، وسيركع لها كأي رجل محترم، ويقول لها أحبك كما أنتِ بدون رتوش، وأُحب فكرك، وجسدك، وقلبك الطيب، وأطلب يدك للزواج من أهلك إن قبلتِ بي زوجًا وشريك حياة. ربما توقظه المطبّات الهوائية فيستفيق من أحلامه الوردية ليتذكر ما دوّنته عزيزة في دفترها الأثير الذي قالت فيه:
أن تستقبل المجهول هو أن تستقبل الحياة .
طعّمت الكاتبة فاتحة مرشيد نصها السردي بالعديد من الشذرات الفكرية والدينية والأسطورية، ويستمتع به من قبيل أن الروح هي الأصل، أما الجسد فقابل للتغيير والتجميل، وفتوى الخميني التي تُجيز إجراء عمليات التغيير الجنسي، لكن حكومته كانت تعدم مئات المثليين إذا ضبطتهم متلبّسين بالجرم المشهود، والقذافي الذي كان يغتصب العذراوات، ويستعبد النساء جنسيًا، ولا يجد حرجًا في مواقعة بعض السياسيين، كي يفرض سيطرته الأبدية على الشعب والساسة في آن معًا، ومع ذلك فقد تحققت نبوءة فوزية، الضحية المُغتصبة التي كانت تردد دائمًا:
«لكل شيء نهاية، ولكل ظالم عقاب» .
وفي الختام لابد من القول إن «انعتاق الرغبة» هي رواية يتآزر فيها الخيال الجامح مع الواقع الذي يلذع القارئ ويفتح عينيه على الذي نحن فيه هذه الأيام من الفواحس التي نعيشها في كل مكان في العالم وقول الحليم العليم:
[ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ]