التعوذ بالله من شره :
والتحصن به واللجأ إليه وهو المقصود بهذه السورة { سورة الفلق } والله تعالى سميع لاستعاذته ، عليم بما يستعيذ منه . والسمع هنا المراد به : سمع الإجابة لا السمع العام ، فهو مثل قوله : " سمع الله لمن حمده " وقول الخليل (صلى الله عليه وسلم) : ( إَنَّ رَبِى لَسَمِيعُ الُّدعاءِ ) { ابراهيم 39} ومرة يقرنه بالعلم ، ومرة بالبصر لاقتضاء حال المستعيذ ذلك ، فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه ويعلم كيده وشره .
فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته ، أي مجيب ، عليم بكيد عدوه ، يراه ويبصره لينبسط أمل المستعيذ ، ويقبل بقلبه على الدعاء .
وتأمل حكمة القرآن كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ ( السِّمِيعُ العَلِيمُ ) في الأعراف وحم السجدة ، وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذي يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ ( السَّمِيعُ البَصِيرُ ) في سورة حم المؤمن ، فقال : ( إِنَّ الَّذينَ يُجَادِلُونَ في ءايَاتِ اللهِ بغَيرِ سُلطَانٍ أَتَاهُم إَن فى صُدُورِهِم إِلاَّ كَبرُُ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاستَعِذ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَمِيعُ البَصِيرُ ) { غافر 56} لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر ، وأما نزغ الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم . فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها ، وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر ويدرك بالرؤية . والله أعلم .
تقوى الله :
وحفظه عند أمره ونهيه ، فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله الى غيره ، قال تعالى : ( وإَنّ تَصبِرُوا وَتَتَّقوا لا يَضُرُّكُم كَيدُهُم شَيئاً ) {آل عمران 120} .
وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) لعبدالله بن عباس : " احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك " .
فمن حفظ الله حفظه الله ، ووجده أمامه أينما توجه ، ومن كان الله حافظه وأمامه فمن يخاف ومن يحذر ؟!
الصبر على عدوه :
وأن لا يقاتله ولا يشكوه ، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً ، فما نُصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله ، ولا يستطل تأخيره وبغيه ، فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغي عليه المحسود يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر ، فبغيه سهام يرميها من نفسه الى نفسه ، ولو رأى المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه ، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره ومآله ، وقد قال تعالى : ( وَمَن عَاقَبَ بِمِثلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِى عَلَيهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ ) { الحج 60} . فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولاً ، فكيف بمن لم يستوف شئً من حقه بل بغي عليه وهو صابر ؟ . وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم وقد سبقت سنة الله " إنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دكاً " .
التوكل على الله :
فمن يتوكل على الله فهو حسبه . والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم ، وهو من أقوى الأسباب في ذلك ، فإن الله حسبه أي كافيه ، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ، ولا يضره إلا أذى لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش .
وأما ما يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبداً . وفرق بين الذى الذي هو في الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه ، وبين الضرر الذي يتشفى به منه . قال بعض السلف : جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه ، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال : ( وَمَن يَتَوكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ) {الطلاق 3} . ولم يقل نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال ، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه . فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له ربه مخرجا من ذلك وكفاه ونصره . وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدة حاجة العبد إليه في " كتاب الفتح القدسي " وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة . وأنه من مقامات العوام ، وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة وبينا أنه من أجلِّ مقامات العارفين ، وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجته الى التوكل أعظم وأشد ، وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله ، وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر والباغي .
فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه :
وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له ، فلا يلتفت إليه ، ولا يخافه ، ولا يملآ قلبه بالفكر فيه ، وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره ، فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه ، فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه بل انعزل عنه لم يقدر عليه ، فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر . وهكذا الأرواح سواء . فإذا علق روحه وشبثها به ، وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناماً لا يفتر عنه ، وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ، ويتشبثا ، فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى ، عدم القرار ، ودام الشر حتى يهلك أحدهما . فإذا جبذ روحه منه ، وصانها عن الفكر فيه والتعلق به ، وأن لا يخطره بباله ، فإذا خطر بباله بادر الى محو ذلك الخاطر والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به . بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضاً ، فإن الحسد كالنار فإذا لم تجد ما تأكل أكل بعضها بعضاً ، وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا اصحاب النفوس الشريفة والهمم العالية ، { أما الغمر الذي يريد الانتقام والتشفي من عدوه فإنه بمعزل عنه . وشتان } بين الكيس الفطن وبينه ، { ولا يمكن أحداً معرفة قدره } حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه ، كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه وتعلق روحه به ، ولا يرى شيئاً ألم لروحه من ذلك ، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة التي رضيت بوكالة الله لها ، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها ، فوثقت بالله ، وسكنت إليه ، واطمأنت به ، وعلمت أن ضمانه حق ووعده صدق ، وأنه لا أوفى بعهده من الله ، ولا اصدق منه قيلاً . فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها أو نصر مخلوق مثلها لها .