نقل عن الإمام العلامة الفقيه محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله تعالى-: "قوله: (وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد) أي: إذا أراد أن يجامع الرجل امرأته، فإن التسمية سنة مؤكدة عند الجماع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا"
وهل تقوله المرأة؟ قال بعض العلماء: إن المرأة تقوله، والصواب أنها لا تقوله؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله"، ولأن الولد إنما يخلق من ماء الرجل، كما قال الله تعالى: { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}(11) ، فالحيوانات المنوية إنما تكون من ماء الرجل، ولهذا؛ هو الذي نقول: إذا أراد أهله، أن يقول: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا".(12)
وأما المسألة الثانية فهي: هل يشرع للرجل أن يقول هذا الدعاء أثناء مواقعته أهله إذا نسي أن يقوله قبل الشروع في المواقعة؟
فالجواب: مادام لم يفرغ من مواقعته فنعم، وإن كان محل الذِّكر قبل الشروع بالمواقعة كما سبق بيانه، إلا أنه لما كان معذورا بالنسيان جاز له ذلك.
وهذا ما دلت عليه نصوص الشريعة:
قال الله تبارك وتعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}(13).
قال الإمام الطبري –رحمه الله- في تفسيره: " اختلف أهل التأويل في تأويل قولهSadجَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) فقال بعضهم: معناه: أن الله جعل كل واحد منهما خلفًا من الآخر، في أن ما فات أحدهما من عمل يعمل فيه لله، أدرك قضاؤه في الآخر".(14)
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}(15).
قال الطبري: "وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: واذكر ربك إذا تركت ذكره، لأن أحد معاني النسيان في كلام العرب الترك، وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل"(16).
وقال أبوبكر الجصاص –رحمه الله-: "(واذكر ربك إذا نسيت) وذلك عموم في لزومه قضاء كل منسي عند ذكره، ولا خلاف بين الفقهاء في أن ناسي الصوم والزكاة وسائر الفروض بمنزلة ناسي الصلاة في لزوم قضائها عند ذكرها"(17).
وفي سنن أبي داود وغيره؛ عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله، فليقل: بسم الله أوله وآخره"(18).
وغير ذلك من النصوص؛ كما في قضاء الصلاة الفائتة بسبب النوم أو النسيان، وكما في قضاء صلاة الوتر، وغير ذلك.
وبالتالي: فإن كان فيما يخص أمر الطعام، أَمَر –عليه الصلاة والسلام- المسلم إذا نسي أن يذكر الله في أوله أن يذكره في أثنائه لكي يطرد الشيطان عن طعامه، فكذلك يكون عند إتيانه أهله، وذلك أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
وفي صحيح مسلم وغيره ما يدل دلالة صريحة على أن في ذكر الله عز وجل طردا للشياطين:
فعن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء"(19).
فمشروعية قول الرجل للذِّكر إذا تذكَّره أثناء مواقعته أهله وقد نسي ذكره قبل شروعه في المواقعة ثابتة، إذ إنه لا محل لهذا الذِّكر بعد فراغ الرجل من إتيانه أهله، وذلك لعدم وجود الدليل على ذلك، إلا ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند ضعيف لا تقوم به الحجة عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- أنه:
"كان إذا غشي أهله فأنزل ؛ قال: اللهم! لا تجعل للشيطان فيما رزقتني نصيبا".(20)
قال الألباني: "وهذا إسناد موقوف ضعيف، ورجاله ثقات؛ لكن عطاء بن السائب كان اختلط".(21)
وخلاصة هذا الوجه: أنه يشرع للرجل أن يذكر الله –عز وجل- أثناء مواقعته أهله إذا نسي أن يذكره قبل شروعه بالمواقعة، وقد عفا الله عز وجل لهذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فكما شرع لمن نسي أن يذكر الله في أول طعامه؛ أن يذكره في أثنائه، فكذلك يشرع لمن نسي ذكر الله عند إتيانه أهله؛ أن يذكره في أثنائه؛ إذ لا سبيل لأن يقطع الرجل على الشيطان حضور هذه المواقعة إلا بذكر الله جل وعز.
قال الله تبارك وتعالى: { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}(22).
قال الطبري رحمه الله: "وقوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} يقول: وقل أستجير بك أن يحضروني في أموري كالذي:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} في شيء من أمري".(23)
وقال ابن كثير رحمه الله: "وقوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} أي: في شيء من أمري؛ ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور وذلك لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح، وغير ذلك من الأمور".(24)
وقال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: " أي أعوذ بك من الشر، الذي يصيبني بسبب مباشرتهم، وهمزهم ومسِّهم. ومن الشر الذي بسبب حضورهم ووسوستهم. وهذه استعاذة من مادة الشر كله وأصله. ويدخل فيها، الاستعاذة من جميع نزغات الشيطان، ومن مسِّه ووسوسته. فإذا أعاذ الله عبده من هذا الشر، وأجاب دعاءه، سلم من كل شر، ووفق لكل خير"(25).
قوله صلى الله عليه وسلم: (جنبنا الشيطان):
أي: أبعدنا عنه(26)، وأبعده عنا.(27)
قوله صلى الله عليه وسلم: (وجنب الشيطان ما رزقتنا):
أي: من الذي رزقتناه من الولد والذرية.(28)
قوله صلى الله عليه وسلم: (لم يضره شيطان أبدا):
قال أبو العباس القرطبي: "قيل: معنى لم يضرَّه: لم يصرعه الشيطان. وقيل: لا يطعن فيه الشيطان عند ولادته، ويطعن في خاصرة من لا يقال له ذلك. قال القاضي : ولم يحمله أحد على العموم في جميع الضرر، والإغواء، والوسوسة.
قلت : أمَّا قَصْره على الصرع وحده فليس بشيء؛ لأنه تَحَكُّمٌ بغير دليل مع صلاحية اللفظ له ولغيره. وأما القول الثاني ففاسدٌ بدليل قوله ـصلى الله عليه وسلم- : (كل مولود يطعن الشيطان في خاصرته إلا ابن مريم؛ فإنه جاء يريد أن يطعنه فطعن في الحجاب)؛ هذا يدل: على أن الناجي من هذا الطعن إنما هو عيسى وحده عليه السلام؛ وذلك لخصوص دعوة أم مريم، حيث قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}(29) ، ثم إن طَعْنَهُ ليس بضرر، ألا ترى أنه قد طعن كثيرًا من الأولياء والأنبياء، ولم يضرَّهم ذلك.
ومقصود هذا الحديث -والله تعالى أعلم- : أنَّ الولد الذي يقال له ذلك يُحفظ من إضلال الشيطان وإغوائه، ولا يكون للشيطان عليه سلطان؛ لأنه يكون من جملة العباد المحفوظين، المذكورين في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}(30) ، وذلك ببركة نيَّة الأبوين الصالحَيْن، وبركة اسم الله تعالى، والتعوُّذ به، والالتجاء إليه. وكأنَّ هذا شوبٌ من قول أم مريم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، ولا يُفهم من هذا نفي وسوسته، وتشعيثه، وصرعه. فقد يكون كلُّ ذلك، ويحفظ اللهُ تعالى ذلك الولدَ من ضرره في: قلبه، ودينه، وعاقبة أمره، والله تعالى أعلم.(31)
وبهذا يتم الوجه الأول؛ والحمد لله رب العالمين.
أما الوجه الثاني؛ وهو ما يخص التفاف الشيطان على إحليل الرجل ومشاركته في إتيانه أهله، فأقول:
أولا: بيان أن مدار هذا القول على ما نُسب إلى إمام من أئمة التفسير؛ ألا وهو مجاهد بن جبر –رحمه الله-، وبيان ما يرجحه العلامة الألباني –رحمه الله- في هذه المسألة:
لقد جاء هذا القول في كثير من كتب التفسير؛ كتفسير الطبري، والقرطبي، والبغوي، والشوكاني، وغيرهم.
بل وفي بعض كتب شرح الحديث؛ كفتح الباري لابن حجر، وفيض القدير للمناوي، ومرقاة المفاتيح للقاري، وغيرهم.
إلا أن المتأمل في هذا القول وعمدته؛ يجد أنه لا يخرج عن أثر ضعيف منكر نُسِب إلى إمام التفسير مجاهد بن جبر –رحمه الله-؛ ألا وهو:
"إذا جامَع الرجل ولم يُسَمِّ، انطوى الجانُّ على إحليله، فجامَع معَهُ، فذلك قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}"(32).
وهذا الأثر جاء بإسناد مقطوع ضعيف مظلم كما ذكر الألباني –رحمه الله- ذلك.(33)
بل وزاد الألباني –رحمه الله- على ذلك أن قال: "على أنه لو صح ذلك عنه؛ فهو مقطوع موقوف عليه، فلا حجة فيه، ولو أنه رفعه لكان مرسلا، والمرسل ضعيف عند المحدثين، ولا سيما في مثل هذا الأمر الغيبي الغريب، وهذا كله لو صح السند بذلك إليه، فكيف وهو مقطوع واهٍ".(34)
وبهذا نعلم أن الإمام الألباني –رحمه الله- ممن لا يرى القول بمشاركة الشيطان للرجل في إتيانه أهله إذا لم يذكر اسم الله عز وجل، بل يرده ولا يُقره.
وإليك ما يدل على ذلك من قوله -رحمه الله-، إذ يقول: "ثم إن الآلوسي -رحمه الله- جاء بغريبة أخرى؛ فقال:
(ولا شك في إمكان جماع الجني إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى ...) إلخ".(35)
فجَعَل قول الآلوسي بإمكانية جماع الجني للإنسية غريبة من الغرائب.
وزيادة على ذلك قال رحمه الله:
" والغرض من ذكر هذه الفائدة(36) إنما هو تذكير القراء بأن العلماء يستنكرون أشد الاستنكار إمكانية التزاوج بين الإنس والجن؛ لاختلاف طبيعة خَلْقِهِمَا، حتى اتهموا من ادعى ذلك بالكذب أو بنوع من الجنون، وأحلاهما مر.
فما نسمعه في هذا الزمان من أن بعض النسوة يشعرن وهن في فراش الزوجية بالمجامعة ممن لا يرينه، إن هو إلا من وسوسة الشيطان، وتلاعبه ببني الإنسان"(37).
ثانيًا: بيان حال بعض الآثار المؤيدة للأثر المنسوب إلى مجاهد رحمه الله، والتي اعتمد عليها بعض أئمة التفسير في تصدير قولهم بمشاركة الشيطان للرجل في إتيانه أهله إذا لم يذكر اسم الله عز وجل:
قال الإمام البغوي رحمه الله في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}(38):
" وأما المشاركة في الأولاد:
روي عن ابن عباس: أنها الموؤدة.
وقال مجاهد والضحاك: هم أولاد الزنا.
وقال الحسن وقتادة: هو أنهم هوَّدوا أولادهم ونصَّروهم ومجَّسوهم.
وعن ابن عباس في رواية أخرى: هو تسميتهم الأولاد عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار ونحوها.
وروي عن جعفر بن محمد أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل: بسم الله؛ أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل.
وروي في بعض الأخبار: إن فيكم مغربين قيل: وما المغرَّبون؟ قال: الذين يشارك فيهم الجن".(39)
هكذا جاء في بعض كتب التفسير، وأكتفي بهذا النقل من تفسير البغوي رحمه الله.
والجواب عن هذا كما يأتي:
أولا: أما قوله: "أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل: بسم الله؛ أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل".
فهذا مما لا دليل عليه، وإنما ذكره من استدل به من المفسرين عن جعفر بن محمد، دون أن يذكر له سندا يُرجع إليه، ولم أقف له على سند، بل ولم أجده في شيء من كتب السنة والآثار.
ثم: لما كانت مشاركة الشيطان للرجل في إتيانه أهله من الأمور الغيبية التي لا تقال بالرأي والاجتهاد، ولا مجال للعقل فيها، كان لا بد لإثباتها من نقل صحيح تقوم به الحجة، إذ لا مجال لإثباتها بغير ذلك.
وليس الأمر كذلك في هذا الأثر المذكور عن جعفر بن محمد، بل إنه حتى وإن ثبتت نسبته إليه؛ فإنه لا يأخذ حكم المرفوع، ولا تقوم به الحجة.
ثانيا: أما قوله: "إن فيكم مغربين، قيل: وما المغرَّبون؟ قال: الذين يشارك فيهم الجن".
فهذا الحديث جاء مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها، وهو ضعيف لا تقوم به الحجة، وقد ضعفه الألباني -رحمه الله- في ضعيف أبي داود وغيره(40) .
وخلاصة هذا المبحث: أن القول بالتفاف الشيطان على إحليل الرجل ومشاركته في مواقعته أهله إذا لم يذكر اسم الله عز وجل في تلكم المواقعة؛ مما لا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة ولا من قول أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.