قوله:"اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية"
اعلم أن الحق سبحانه وتعالى اقتطع قطعة من النور الإلهي في غاية الصفاء والتجوهر، ثم أبطن في تلك القطعة ما شاء أن يقسمه لخلقة، من العلم بصفات الله وأسمائه وكمالات ألوهيته، وبأحوال الكون وأسراره، ومنافعه ومضاره، وبالأحكام الإلهية أمراً ونهياً، وجعل تلك القطعة من النور، مقراً لانصباب كل ما قسمه لخلقه، في سابق علمه من الرحمة الإلهية، ثم صار يفيض على خلقه، ما أقره في الحقيقة المحمدية من العلم والرحمة.
فكان بهذه المثابة هو عين الرحمة صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك النور هو الحقيقة المحمدية، وتلك الرحمة المفاضة في ذاته، هي التي يفيضها على الوجود من ذاته الكريمة، فلا يصل شيء من الرحمة إلى الوجود إلا من ذاته صلى الله عليه وسلم، فذاته الكريمة بمنزلة المقر للمياه التي تجتمع فيه، وتتفرق من ذلك المقر سواقي للسقي والانتفاع. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا قاسم والله معط" أي ينظر إلى ما سبق في العلم الأزلي من الاقتطاع، ثم يفرق صلى الله عليه وسلم تلك الرحمة على حسب تلك الاقتطاع، فلهذا سمي عين الرحمة صلى الله عليه وسلم، وأيضا نسبةٌ أخرى في عين الرحمة.
يعني أنه الأنموذج الجامع في إفاضة الوجود على جميع الوجود، فإنه لولا وجوده صلى الله عليه وسلم، ما كان وجود لموجود أصلاً من غير الحق سبحانه وتعالى، فإن وجود كل موجود من ذوات الوجود، متوقف على سبقية وجوده صلى الله عليه وسلم لذلك الوجود، فإنه لولا هو صلى الله عليه وسلم، ما خُلق شيء من الأكوان، ولا رُحم شيء منها، لا بالوجود ولا بإفاضة الرحمة.
ولا يقال إن هذا تعجيز للحق سبحانه وتعالى، بأنه لا يقدر أن يخلق شيئا إلا به صلى الله عليه وسلم. فليس هذا الوهم هو المراد في هذا الكلام، كما يظنه بعض من لا علم عنده، بل تحقيق ما قلناه أن الله سبحانه وتعالى لو سبق في علمه ونفوذ مشيئته، أن لا يخلق محمداً صلى الله عليه وسلم لسبق في علمه ونفوذ مشيئته، أن لا يخلق شيئا من المخلوقات.
فمن هذه الحيثية أن وجود كل موجود من الأكوان، يتوقف على سبقية وجوده صلى الله عليه وسلم لذلك الوجود، فإنه صلى الله عليه وسلم كلية مراد الحق وغايته من الوجود. فإنه ما خلق الكون إلا من أجله صلى الله عليه وسلم، ولا أفاض الرحمة على الوجود إلا بالتبعية له صلى الله عليه وسلم. [فوجود الأكوان كلها مناط بوجوده صلى الله عليه وسلم وجوداً وإفاضة]، فإنه هو صلى الله عليه وسلم ما خلقه إلا من أجل ذاته العلية المعظمة المقدسة، فإنه ما خلقه من أجل شيء دون الحق حتى يكون علة له، ويتوقف وجوده على وجوده. بمعنى أن يكون وسيلة بينه وبين الحق، فإنه لا واسطة بينه وبين الحق، لكونه مراد الحق لذاته، والأكوان كلها مرادة لأجله صلى الله عليه وسلم معللة بوجوده.
فإفاضة الوجود على جميع وجود الأكوان، مفاضة من ذاته الكريمة صلى الله عليه وسلم، وإفاضة الرحمة على جميعها مفاض من ذاته الكريمة صلى الله عليه وسلم، فبان لك أن الفيض من ذاته ينقسم إلى رحمتين:
الرحمة الأولى: إفاضة الوجود على جميع الأكوان، حتى خرجت من العدم إلى الوجود.
والرحمة الثانية: إفاضة فيض الرحمات الإلهية على جميعها من جملة الأرزاق والمنافع، والمواهب والمنح، فإنه بذلك يدوم تمتعها بالوجود.
فإذا علمت هذا، علمت أنه صلى الله عليه وسلم عين الرحمة الربانية، لأنه رحم جميع الوجود بوجوده صلى الله عليه وسلم، ومن فيض وجوده أيضا رحم جميع الوجود.
فلذا قيل فيه: إنه عين الرحمة الربانية صلى الله عليه وسلم. [وعلى هذا أن جميع الوجود كله نشأ عن الرحمة الربانية]، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾الأعراف:156. وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾الأنبياء:107. لأن أصله صلى الله عليه وسلم رحمةُ.
ولا يلزم من شمول الرحمة، عدم وقوع العذاب والوعيد والغضب، لأن تلك مقتضيات الكمالات الإلهية. فإن الكريم وإن عظم كرمه، لولا بطشه وغضبه وعذابه، ما خيف جنابه، ولو أمن منه هذا الحال احْتقر جانبه، وليست هذه صفة الكرم، ولا ينبغي له هذا. فتبين لك أن صفة الكرم والغضب والبطش والعذاب، ليكون جانبه معظماً مخافاً مهاباً، كما كان جانبه مرجواً لعفوه ورحمته اهـ.
قوله:"الربانية"
يعني أنه أضيفت الرحمة للحضرة الربانية، لأنها منها نشأت الموجودات، فلذا أضيفت الرحمة إليها، وأما حضرة الألوهية، فإنها أصل عبادة الموجودات.
فالإله هو المعبود بالحق، الذي توجه إليه كل ما عداه، بالخضوع والتذلل، والعبادة والمحبة، والتعظيم والإجلال وحضرة الألوهية هي الشاملة لجميع الأسماء والصفات والحضرات الإلهية، والرب هو العلي عن كل ما سواه ومعناه، أنه المالك المتصرف، والخالق والقاهر، والنافذ حكمه ومشيئته وكلمته في كل ما سواه.
قوله: "والياقوتة المتحققة"،
هو من التشبيه البليغ، وشبه بالياقوتة لكونها غاية ما يدرك الناس في الصفاء والشرف والعلو، إذ هو غاية الجواهر الصافية العالية الشريفة. فلذا استعير له اسم الياقوت، وإن كان هو أشرف من الياقوت وأصفى وأعلى صلى الله عليه وسلم على حد قوله تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾النور:35. الآية.
قوله: "المتحققة"
يعني بجميع الصفات والأسماء الإلهية، التي يتوقف عليها وجود الكون، وبقي وراءها من الأسماء والصفات، ما لا توقُّف لوجود الكون عليه.
قوله: "الحائطة بمركز الفهوم والمعاني"
يعني الفهوم التي قسمها الله سبحانه وتعالى لخلقه، في إدراك معاني كلامه في جميع كتبه، وفي إدراك معاني الأحكام الإلهية، وفي إدراك معاني أسمائه وصفاته ومعارفه، إذا جمعت تلك الفهوم المقسومة كلها جمعاً واحداً، وصارت مركزاً، كان هو صلى الله عليه وسلم دائرة محيطة بها، بمعنى أنه محيط بجميعها، ما شذّ عليه منها شيء صلى الله عليه وسلم.
قوله: "ونور الأكوان المتكونة الآدمي"،
معناه الأكوان التي تتكون شيئا بعد شيء، ويقابلها ما بقي في طي العدم، فإن الأشياء المقدرة في العلم الأزلي منقسمة قسمين. قسم منها أعيان ثابتة، وهي التي سبق في علمه أنها تخرج من العدم إلى الوجود. وقسم منها أعيان عدمية، وهي التي سبق في علمه أنها لا تخرج إلى الوجود، وتبقى في طي العدم، فإنه علمها أن لو خرجت إلى الوجود، على أي حالة تكون، وبأي أمر تتكون، وفي أي مكان وزمان تقع، وماذا ينصبُّ عليها من الأحكام الإلهية ضراً ونفعاً، فإنه محيط بجميعها علماً، وهو صلى الله عليه وسلم نورها.
قوله: "صاحب الحق الرباني"،
الحق الرباني هو ما قرره سبحانه وتعالى في شرعه، الذي حكم به على خلقه أمراً ونهياً، وكيفية وابتداء وغاية، فهو صاحبه صلى الله عليه وسلم المقرر له، والناهي عنه، والمنفذ له.
قوله: "البرق الأسطع بمزون الأرباح"،
يعني لما كان البرق ملازماً لمزن الأمطار، استعير هنا لانصباب الرحمة الإلهية على الخلق، واستعير أيضا اسم البرق للحقيقة المحمدية، لملازمتها لها كملازمة البرق للأمطار، ومزن الأرباح هي الرحمة الفائضة من حضرة الحق على خلقه.
ويعني بها هاهنا فيوض العلوم والمعارف، والأسرار والتجليات، والأنوار ودقائق الحكم، وما لا ينتهي إلى ساحله وغايته من المنح والمواهب، وصفاء الأحوال والصفات القدسية المخزونة، المنصّبة على قلوب العارفين والأقطاب.
قوله: "المالئة لكل متعرض من البحور والأواني"،
معنى التعرض هاهنا هو تارة بالتوجه إلى الله تعالى والتهيء والاستعداد،و تارة بالاقتطاع الإلهي. والبحور هاهنا عبارة عن قلوب أكابر العارفين، والأواني هي قلوب الأولياء.
قوله:"ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني"
يعني أن الكون الحائط هو الأمر الإلهي، الذي أقام الله فيه ظواهر الوجود، فذلك الأمر مملوء به صلى الله عليه وسلم، وهو المعبّر عنه بالكون والمكان.
قوله: "اللهم صل وسلم على عين الحق"،
اعلم أن عين الحق له إطلاقان. الأول: إطلاق الحق من حيث الذات، والثاني: إطلاق صفة الذات، فإطلاق الحق من حيث الذات، لأن الحق يقابله الباطل من كل وجه، فالحق المحض هو الذات العلية المقدسة وما عداها كله باطل، وإلى هذا الإشارة بقول الشاعر لبيد، الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والتحقيق:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل* وكل نعيم لا محالة زائل
وهذا لا يطلق عليه صلى الله عليه وسلم إذ هذا الإطلاق عين الذات المقدسة، لا يطلق على غيرها أصلا .
والإطلاق الثاني: هو العدل الذي هو صفة الحق سبحانه وتعالى ، القائم بصورة العلم الأزلي، والمشيئة الإلهية، والقدرة الربانية، والحكم الإلهي الأزلي النافذ في كل شيء. وهذا العدل المذكور هو الساري في آثار جميع الأسماء والصفات الإلهية، ومجموع هذا العدل كلاً وبعضاً هو مجموع في الحقيقة المحمدية. فلذا أطلق عليها عين الحق من هذا الاعتبار، فكلها حق لا تنحرف عن ميزان العدل الإلهي، الذي هو عين الحق في الإطلاق الثاني.
قوله: "التي تتجلى منها عروش الحقائق"
التجلّي هو الظهور، وعروش الحقائق استعارة بديعية. اعلم أنه لما كانت كل حقيقة منطوية على ما لا غاية له من العلوم والمعارف، والأسرار والمواهب والفيوض، أطلق عليها عروش من هذا الميدان، لأن العرش محيط بما في جوفه من جميع المخلوقات.
وأيضا أن العرش هو غاية الرفعة والعلو والشرف من المخلوقات في علم الخلق، وكانت الحقائق في غاية العلو والرفعة والشرف، لأنها برزت من حضرة الحق، الذي لا غاية لعلوه وشرفه ولا علو وراءه، فهو غاية الغايات في العلو والرفعة والشرف، وكانت الحقائق البارزة من حضرته سبحانه وتعالى، مكسوة بهذه الصفة العلية من العلو والشرف والجلال، أطلق عليها اسم العرش من هذا الباب، فكل حقيقة هي عرش.
قوله: "عين المعارف"
يعني أنه لما كانت المعارف الإلهية المفاضة ، على الخاصة العليا من النبيئين والمرسلين، والأقطاب والصديقين والأولياء، كلها فائضة من الحقيقة المحمدية وليس شيء منها، أعني من المعارف ، يفاض من حضرة الحق خارجاً عن الحقيقة المحمدية فلا شيء مفاض من المعارف إلا وهو بارز من الحقيقة المحمدية، فهو صلى الله عليه وسلم خزانتها، وينبوعها فلذا أطلق عليه عين المعارف من هذا الاعتبار اهـ.
قوله: "الأقوم"
يعني أنه جار في مجاري العدل الإلهي ، لا يعوج بوجه، ولا يخرج عن الجادة المستقيمة في العدل، وله معنيان أيضا المعنى الأول: الاستقامة وهو المعتدل في التقويم بلا اعوجاج ، وهو معنى الأسقم . والمعنى الثاني: هو صيغة التفضيل من كمال إقامته لأمر الله تعالى وتوفيته بالقيام بحقوق الحق سبحانه وتعالى، وهذا المعنى الملحوظ في تسميته صلى الله عليه وسلم أحمد. فهو صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق بآداب الحضرة الإلهية علماً وعملاً وحالاً وذوقاً ومنازلة وتخلقاً وتحققاً وتعلقاً، فهو أكمل من حَمِدَ الله تعالى من خلقه من جميع الجهات اهـ.
قوله: "صراطك التام"،
استعير له صلى الله عليه وسلم الصراط لكونه صراطاً بين يدي الحق، لا عبور لأحد إلى حضرة الحق إلا عليه صلى الله عليه وسلم . فمن خرج عنه انقطع عن حضرة الحق، وانفصل فهو مشبَّه بالصراط الذي يكون عليه عبور الناس في المحشر إلى الجنة ، لا مطمع لأحد من الخلق في الوصول إلى الجنة من أرض [القيامة] القيِّمة إلا على الصراط الذي عليه العبور، فمن رام الوصول إلى الجنة من أرض [القيامة] القيِّمة على غير الصراط المعلوم للعبور انقطع عن الجنة، وانفصل ولا مطمع له في الوصول إليها، كذلك هو صلى الله عليه وسلم هو الصراط المستقيم بين يدي الحق، لا مطمع لأحد في الوصول إلى حضرة الحق إلا بالعبور عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن رامها بغير العبور عليه صلى الله عليه وسلم انقطع وانفصل وطرد ولعن، ولهذا الإشارة بقول الشيخ الأكبر رضي الله عنه في صلاته، "إذ هو بابك الذي من لم يقصدك منه سدت عليه الطرق والأبواب، ويرد بعد الآداب إلى اصطبل الدواب".
قوله: "الأسقم"
بمعنى الكامل في الاستقامة بلا اعوجاج .
قوله: "اللهم صل وسلم على طلعة الحق بالحق"،
اعلم أن طلعة الحق بالحق له معنيان:
الأول: فيه طلعة الحق له صلى الله عليه وسلم من الذات العلية المقدسة بالحق وهي الذات أيضا، فإن الذات العلية تجلت له بذاتها لا شيء دونها فكان صلى الله عليه وسلم، له تجلت الذات بالذات، وطلوعها عنها لا عن شيء دونها ، فإن السبب الذي طلعت به هو الذات العلية للحقيقة المحمدية، وتجليها لها كان عن الذات العلية المقدسة المنزهة لا عن غيرها، فهذا معنى طلعة الحق بالحق.
والمعنى الثاني: طلعة الحق وهي طوالع الأسماء والصفات الإلهية التي مجموعها هو عين الحق الكلي بجميع ما تفرع عنها من الأحكام الإلهية، والمقادير الربانية، واللوازم، والمقتضيات الملازمة لتلك الصفات والأسماء، فمجموعها هو عين الحق الكلي ، فكان صلى الله عليه وسلم بحقيقته المحمدية مطلعاً لها جامعاً لحقائقها وأحكامها ومقتضياتها ولوازمها، فكان طلوعها في حقيقته المحمدية عن مادة أسرار الصفات والأسماء الإلهية الذي هو السبب المعبر عنه بالباء، فكان طلوعها فيه صلى الله عليه وآله وسلم بسبب أسرارها وأنوارها، فكلها حق، فهو معنى طلعة الحق بالحق.
ولما تم قيامه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الميدان بحقوق التجليين المذكورين وتوفيته بوظائف خدمتها وآدابها جملة وتفصيلا، وتكميله لمقابلتها بعبوديته الكاملة عُبر عن هذا الإطلاق في الصلاة البكرية: "عبدك من حيث أنت كما هو عبدك من حيث كافة أسمائك وصفاتك" اهـ.
قوله: "الكنز الأعظم"،
يعني الذي هو جامع لجميع الأسرار والعلوم والمعارف والفتوحات والفيوض والتجليات الذاتية، والصفاتية، والأسمائية، والفعلية، والصوّرية. فلما كملت فيه صلى الله عليه وسلم هذه الجمعية كان هو الكنز الأعظم، إذ بسبب ذلك تُستفاد منه جميع المطالب والمنح والفيوض الدينية والدنيوية والأخروية من العلوم والمعارف، والأسرار، والأنوار، والأعمال، والأحوال، والمشاهدات، والتوحيد، واليقين، والإيمان، وآداب الحضرة الإلهية إذ هو المفيض لجميعها على جميع الوجود جملة وتفصيلا فرداً فراداً من غير شذوذ، إذ من فائدة الكنز تحصيل المطالب والمنافع منه صلى الله عليه وسلم.
قوله: "إفاضتك منك إليك"،
اعلم أنه لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه برزت الحقيقة المحمدية، وذلك عندما تجلى بنفسه لنفسه من سماء الأوصاف، وسأل ذاته بذاته موارد الألطاف، فتلقى ذلك السؤال منه بالقبول والإسعاف، فأوجد الحقيقة المحمدية من حضرة علمه، فكانت عيوناً وأنهاراً. ثم سلخ العالم منها واقتطعه كلَّه تفصيلاً على تلك الصورة الآدمية الإنسانية، فإنها كانت ثواباً على تلك الحقيقة المحمدية النورانية شبهَ الماء والهواء في حكم الرقة والصفاء، فتشكل الثوب شكل الصورة النورانية، فكان محمد صلوات الله عليه مجمع الكل، وبرهان الصفات،ومبدأَ الأعلا، وكان آدم عليه السلام نسخة منه على التمام، وكانت نسخة الذرية من آدم عليه السلام، وكان العالم برمته علويه وسفليه نسخة من آدم. فتحقِّق هذا النسج تعش سعيداً.
غير أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من كِتَابَيْ محمد وآدم على الكمال العارفون والوارثون نسخة من آدم وظاهر سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأما أهل الشمال فنسخة من طينة آدم لا غير. وأما التناسل إلى أن جاء زمانه عليه الصلاة والسلام، فصير الله العالم في قبضته أي النبي ومخضة جسم محمد صلى الله عليه وسلم زبدة مخضته أي العالم، كما كانت حقيقة أصل نشأته، فله الفضل بالإحاطة، إذ كانت البِداءة والختم به، فقد حصلت في علمك نشأة أول كل موجود. وأين مرتبته من الوجود ومنزلته من الجود، والحاصل أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو أول الموجودات وأصلها، وببركاته وجدت وبه استمدت.
قوله: "إحاطة النور المطلسم"
يعني أن النور المطلسم هو سر الألوهية المكتَّم، وكان هذا السر قسمه الحق سبحانه وتعالى بحكم المشيئة الربانية قسمين: قسم منه استبَدَّ بعلمه لا يطلع عليه غيره. وقسم اختار أن يطلع عليه غيره من خلقه من ذوي الاختصاص، وكان مقسوماً بينهم بالمشيئة الأزلية لكل واحد منهم ما قدر لهم من سر الألوهية، وكان ذلك المقسوم لخلقه أن يطلعوا عليه كله أحاط به صلى الله عليه وسلم علماً وذوقاً ، واجتمع في ذاته الكريمة في حقيقته المحمدية، وتفرق في الخلق.
وبعبارة النور المطلسم هي الكمالات الإلهية التي سبق في سابق علمه أن يكشفها لخلقه، ويطلعهم عليها جملة وتفصيلا لكل فرد من الوجود ما يناسبه، وما يختص به من أول ظهور العالم إلى الأبد، وكان ذلك النور المذكور مطلسماً في حجاب الغيب، معناه أن عليه حجباً عظيمة ليس لأحد الوصول إلى الاطلاع عليه أوعلى شيء منه. فأشهده الله نبيه صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة، وأطلعه عليه في حقيقتهالمحمدية من غير شذوذ. فالإحاطة المذكورة والنور هي طوالع الكمالات الإلهية والطلاسم المضروبة عليها هي الحجب المانعة من الوصول إلى معرفة حقائقها.
قوله: "صلى الله عليه وعلى آله"
اعلم أن الصلاة في حق الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وصف قائم بذاته على الحد الذي يليق بعظمته وجلاله، هو أمر فوق ما يدرك ويعقل، فإن الوصف الوارد في حق كل موجود وإن اشترك في اللفظ والاسم، فالحقيقة مباينة في حق الموجودات.
فالصلاة في حقنا عليه صلى الله عليه وآله وسلّم هي الألفاظ البارزة من ألسنتنا بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى فيما ينبئ عن تعظيم نبيه صلى الله تعالى وآله وسلم منا، وليست كذالك صلاته سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو فوق ما يدرك ويعقل فلا تفسر بشيء، بل نقول يصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا تُكيّف صلاته.
ألا ترى أن السجود في حق الموجودات لله تعالى، فكلها ساجدة لله وليس السجود المعهود في حق الآدمي لله تعالى يماثل سجود الجمادات والحيوانات والأشجار فرداً فرداً، فإن لتلك الأفراد سجودٌ يليق بحاله. فإن السجود في حقها مماثل في الاسم والإطلاق والحقيقة متفرقة في جميعها، وسجود كل واحد غير سجود الآخر. وأما صلاة الملائكة على النبي صلى الله عليه وسلم تعقلها [تعلقها] في حقهم كتعقلها [كتعلقها] في حقنا اهـ.
قوله: "صلاة تعرفنا بها إياه"،
يعني أن المصلي طلب من الله تعالى أن يعرفه إياه في مراتب بطونه صلى الله عليه وسلم، إما بالوصول إلى معرفة روحه، أو حقيقة عقله أو قلبه أو نفسه. فأما حقيقة مقام روحه فلا يصل إليها إلا الأكابر من النبيئين والمرسلين والأقطاب ومن ضاهاهم من الأفراد.
ومن العارفين من يصل إلى مقام عقله صلى الله عليه وسلم فتكون معارفه وعلومه بحسب ذلك، إذ ليس مقام العقل وعلومه كمعارف مقام الروح وعلومه.
ومن العارفين من يصل إلى مقام قلبه صلى الله عليه وسلم فتكون معارفه وعلومه بحسب ذلك وهي دون مقام العقل في المعارف والعلوم.
ومن العارفين من يصل إلى مقام نفسه صلى الله عليه وسلم فتكون معارفه وعلومه بحسب ذلك وهي دون مقام القلب.
وأما مقام سره صلى الله عليه وسلم فلا مطمع لأحد في دركه لا من عظم شأنه، ولا من صغر، والفرق بين مقام سره وروحه وعقله وقلبه ونفسه.
فأما مقام سره صلى الله عليه وسلم فهي الحقيقة المحمدية التي هي محض النور الإلهي التي عجزت العقول والإدراكات من كل مخلوق من الخاصة العليا عن إدراكها وفهمها، هذا معنى سره صلى الله عليه وسلم.
ثم ألبست هذه الحقيقة المحمدية ألباساً من الأنوار الإلهية واحتجبت بها عن الوجود فسميت روحاً، ثم تنزلت بألباس أخرى من الأنوار الإلهية فكانت بسبب ذلك تسمى عقلاً، ثم تنزلت بألباس أنوار الإلهية أخرى واحتجبت بها، فسميت بذلك قلبا، ثم تنزّلت بألباس أنوار الإلهية واحتجبت بها فكانت بسب ذلك نفساً.
واعلم أن هذه الصلاة المسماة بجوهرة الكمال في مدح سيد الرجال، هي من إملاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيخنا القطب الرباني، مولانا أبي العباس التجاني، وذكر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم خواص.
منها: أن المرة الواحدة تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات.
ومنها: أن من قرأها سبعا فأكثر، يحضره روح النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة ما دام يذكرها.
ومنها : أن من لازمها أزيد من سبع مرات، يحبه النبي صلى الله عليه وسلم محبة خاصة، ولا يموت حتى يكون من الأولياء.
وقال الشيخ رضي الله عنه: من داوم عليها سبعاً عند النوم على طهارة كاملة، وفراش طاهر، يرى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا أوان الشروع في معانيها