وقفة مع قوله تعالى: { وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى }
جاء في القرآن الكريم آيات تدل على أن عمل الإنسان وسعيه في هذه الدنيا له وحده ، وأنه لا ينفع الإنسان إلا عمله وتحصيله فحسب . من ذلك قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } (النجم:39) فالآية صريحة في أن الإنسان لا ينفعه إلا كسبه ، ويفهم منها أنه لا ينتفع أحد بعمل أحد .
وبالمقابل ، فقد جاءت آيات أُخر، تدل على أن الإنسان ربما انتفع بعمل غيره؛ من ذلك قوله تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } (الطور:21) فَرَفْعُ درجات الذرية - سواء قلنا : إنهم الكبار أو الصغار - نفع حاصل لهم ، وإنما حصل لهم بعمل آبائهم لا بعمل أنفسهم . وإذا كان الأمر كذلك ، فقد يبدو أن ثمة تعارضًا بين مدلول الآيتين الكريمتين .
وإذا رجعنا إلى تفسير قوله تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } نجد أن حاصل معنى الآية الكريمة : أن المؤمنين بالله حق الإيمان ، وكانت ذريتهم متبعين لهم في نهجهم القويم ، وسائرين على دربهم المستقيم ، فإنهم سوف يلحقون بآبائهم يوم القيامة ، ويكون الجميع سوية في درجات الجنة ، وإن قصرت أعمال الأبناء عن أعمال الآباء ؛ وذلك إكرامًا لآبائهم، وقرة عين لهم ، دون أن ينقص ذلك من أجر الآباء شيئًا .
ويدل على هذا المعنى ، ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية ، قال : إن الله تبارك وتعالى يرفع للمؤمن ذريته ، وإن كانوا دونه في العمل ؛ ليقر الله بهم عينه ؛ وفي رواية أخرى عنه : قال : إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ؛ ليقر بهم عينه .
فمعنى آية الطور إذن ، أن الذين آمنوا بالله ، تتبعهم ذريتهم المؤمنة ، وتكون معهم في الجنة إتمامًا لسعادتهم ، وإكرامًا لمكانتهم ، إذ من تمام سرور المؤمن وكمال سعادته ، أن يكون قريبًا من أقربائه ، وأقرباؤه قريبين منه .
أما آية النجم { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } فيفيد ظاهرها ، أنه ليس للإنسان إلا أجر سعيه وجهده ، وجزاء عمله وتحصيله ، ولا ينفع أحداً عملُ أحد ؛ فالآية بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره ، مهما كان هذا الغير . وقد جاءت هذه الآية إثر آية بينت عدم مؤاخذة الإنسان بذنب غيره ، وهي قوله تعالى : { ألا تزر وازرة وزر أخرى } ( النجم : 38) أي : لا يفيد الإنسان إلا سعيه وعمله ، ولا يحاسب الإنسان بعمل غيره . فهذا المعنى الإجمالي للآيتين الكريمتين .
والآية التي معنا قد وردت أدلة توضح المقصود منها ، وتبين أن الإنسان قد يستفيد وينتفع بأعمال غيره ، من ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } قال : أنزل الله بعد هذا : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } قال : فأدخل الأبناء بصلاح الآباء الجنة .
وقد ثبت بالنصوص المتواترة ، وإجماع سلف الأمة ، أن المؤمن ينتفع بما ليس من سعيه في بعض الأعمال والطاعات ؛ كالدعاء له والاستغفار ، كما في قوله تعالى : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } ( غافر : 7 ) وأيضًا دعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم ، كما في قوله تعالى : { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } ( التوبة ) وقوله سبحانه : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } (محمد : 19 ) .
وأيضًا فقد ثبت بصريح الآحاديث أن ما يُعمل للميت من أعمال البر ، كالصدقة ونحوها ، فإن هذا ينتفع به ؛ ففي " الصحيحين " أنه صلى الله عليه وسلم ، قال : ( من مات وعليه صيام ، صام عنه وليه ) وثبت مثل ذلك في صوم النذر ، والحج .
وفي هذا المعنى يأتي قوله صلى الله عليه والسلام : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) رواه النسائي و الترمذي ؛ فالحديث صريح في ثبوت ما ذكرنا . والأدلة في هذا المعنى كثيرة .
ونزيد الأمر وضوحًا ، فنقول : إذا كان ظاهر الآية يدل على أن الإنسان لا يملك ولا يستحق إلا سعي نفسه - وهذا حق لا ريب فيه - فإن هذا لا يمنع أن ينتفع الإنسان بسعي غيره ، كما أن الله يرحم عباده ويفتح عليهم من أبواب رحمته ، بأسباب خارجة عن طوقهم ومقدورهم ، ويرزقهم ويغدق عليهم من عطائه ، بأسباب يجريها على أيدي عباده ؛ يرشد لهذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ( من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، أصغرهما مثل أحد ) متفق عليه، وما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ، قال : ( ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك : ولك بمثل ) رواه مسلم ؛ وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يموت ، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً ، لا يشركون بالله شيئًا ، إلا شفعوا فيه ) رواه أبو داود فهو سبحانه يرحم المصلي على الميت ، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه ، ودعائهم له عند قبره ؛ وأيضًا فإن أطفال المؤمنين يدخلون الجنة مع آبائهم ، بلا سعي ولا عمل . فكل هذا وغيره يدل على أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره ، ولا ينافي ذلك صريح الآية حسب ما ذكرنا .
على أنك إذا أعدت النظر في الآية ، وأعملت الفكر فيها ، علمت أن الإنسان لا يملك أن يقول لشيء : هو لي ، أو يصف شيئًا بأنه له ، إلا إذا سعى إليه بعمله ، وحازه بجهده وكسبه ؛ أما ما وراء ذلك من أمور ، من رحمة وتوفيق ومضاعفة أجر ونحو ذلك ، فلا يوصف بالتملك إلا على سبيل التجوز ، والإلحاق بما هو من كسبه وسعيه .
ثم يقال أيضًا : إن العبد إن لم يسع ويجد ويكد ليكون من المؤمنين الصالحين ، ومن عباد الله المتقين ، لا يمكن أن ينال منـزلة القرب من آبائه المؤمنين . فإيمان العبد وطاعته - كما ترى - سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين ؛ كما يقع في صلاة الجماعة ، فإن صلاة المصلين في جماعة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاتهم فرادى ، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير ، سعى فيه المصلي بإيمانه، وصلاته مع الجماعة ، ولم يكن ليحصل له من الأجر لو صلى منفردًا، ما يحصل له لو صلى في جماعة . وإذا كان الأمر كذلك ، تبين أن تلك المنزلة لم تنل إلا بسعي العبد نفسه ليلحق بآبائه ، وإلا فمجرد الانتساب إليهم ، والقرابة منهم لا يرفعه ولا يؤهله لنيل منـزلتهم بحال من الأحوال ، فثبت بهذا أن المعول عليه أولاً وقبل كل شيء سعي العبد وكسبه .
وأمر آخر تفيده الآية الكريمة ، حاصله أن الآية أثبتت أن الإنسان ليس له في هذه الحياة إلا سعي نفسه ، ونفت أن يكون له سعي غيره ؛ لكن ليس في الآية ما يفيد أن الإنسان لا يجوز له أن ينتفع بعمل غيره ، فالآية لا دلالة فيها على هذا من قريب أو بعيد ؛ وليس كل ما لا يملكه الإنسان لا يحصل له من جهته نفع ، بل ثمة أمور لا يملكها الإنسان ، ومع ذلك يحصل له من جهتها نفع ؛ كما أشرنا قبل من الانتفاع بدعاء الغير له ، والصدقة عليه ، والحج عنه ، وغير ذلك من أمور العبادات . ومثل ذلك يقال في مسائل المعاملات ؛ كالدَّين يوفيه الإنسان عن غيره ، فتبرأ ذمته ، فما وُفِّي به الدين ليس له ، وكان الواجب عليه أن يكون هو الموفي له . وكذلك إذا تبرع إنسان لغيره بمال ، جاز لذلك الغير أخذه ، وحيازته ، والانتفاع به على الوجه المأذون به شرعًا .
ويمكن أن يقال - بعد كل ما تقدم -: إن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ، ليس للأولاد ، كما هو نص قوله تعالى: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } ولكنه من سعي الآباء ، فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه ، بأن رفع إليهم أولادهم ، ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم . فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها ؛ لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء ثم الأولاد، فانتفاع الأولاد تَبَع ، فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم ، كما تفضل بذلك على الولدان ، والحور العين ، والخلق الذين ينشئهم للجنة .
ومما يدعم كل ما تقدم ويؤكده - وبه نختم الحديث - ما قاله بعض أهل العلم ، وقد سئل عن قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } مع قوله : { والله يضاعف لمن يشاء } ( البقرة : 261 ) قال : ليس له بالعدل إلا ما سعى ، وله بالفضل ما شاء الله تعالى . وهذا حاصل ما ذكرنا وقررنا .
وإذا كان الأمر على ما تبين ، عُلم أن الآيتين الكريمتين تصدق إحدهما الأخرى ، ولا تنافي بينهما بحال ؛ إذ هذا هو شأن آيات القرآن الكريم خصوصًا،ونصوص الشرع عمومًا .
.........