وتلك الأيام نداولها
تتعاقب الأيام والسنون، وتتقلب مع تعاقبها أحوال الناس وتتغير وتتبدل، ففي كل يوم
شأن وفي كل سنة أمر. كل ذلك بسبب سعي الناس وكسبهم، وبحسب اجتهادهم
وفلاحهم أو عجزهم وخيبتهم. وهنا تثور بعض الاسئلة الكبرى. كيف تتداول الأيام
ولماذا تتداول وما موقف المسلم من كل ذلك التداول؟
ونتلمس الإجابة على ذلك فيما يلى وباختصار.
مفتاح النظر في تداول الإيام قول الله تعالى:
(إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِين *
وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَافِرِينَ)
سورة آل عمران الآيات 140-141.
هذه الآية تبين أن الأيام يداولها الله تعالى بين الناس. والمداولة معناها في اللغة - كما
ذكر المفسرون - نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي إذا تناقلته، ومنه
قوله تعالى في سورة الحشر: آية 7:
(كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَاء مِنكُمْ)
أي الأموال تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً. والآية تشير إلى حدث بعينه
كمثال لتنقل الإيام بين الناس لتجعله قاعدة عامة وهو ما أصاب المسلمين في
غزوة أحد من قرح وهو القتل والجراحات والهزيمة، فإذا كان ذلك قد وقع
بالمسلمين فقد وقعت بأعدائهم هزيمة وقتل وجراحات سابقة في بدر، وكذلك
يداول الله تعالى الأيام بين الناس، يعني يداول ما يصيب الناس فيها من منافع
ومضار، فيوم يحصل فيه السرور للمسلمين ويحصل فيه الغم للأعداء، ويوم آخر
بالعكس من ذلك.
ومع أن الآية لا تكشف في هذا الموضع كيف يداول الله تعالى أحوال الناس بين
الأيام ويبدلها ويغيرها، إلا أن القرآن في مواضع أخرى يوضح أن ذلك التغيير في
حياة المرء أو في مجتمعة من رخاء وشدة أو نصر وهزيمة أو عز أو ذل، إنما يحدث
بكسب الناس وبأسباب ووسائل يأخذ بها الناس، وفقا لسنن ثابتة ونواميس
محددة.
ومن هذه المواضع قول الله تعالى في سورة الرعد آية 11:
(إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)
وفي سورة الأنفال آية 53:
(ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا
عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
وتمضي الآية إلى بيان قاعدة تداول الأيام ليكشف للناس ما في هذا التداول من
مصالح وحكم بالإشارة إلى مثال التداول الذي حدث في غزوة أحد وغزوة بدر،
فتؤكد أن هزيمة المسلمين في أحد وانتصار أعدائهم، عكس ما حدث في غزوة
بدر، ليست امرا عابرا وحدثا وقع جزافا، إنما وراءه حكم ومصالح، منها تمحيص
الناس بالهزيمة والنصر واختبار استعداداتهم النفسية والمادية، وتمييز صفوفهم
بيان وجوه الضعف ووجوه القوة، ومنها اتخاذ شهداء يموتون من أجل عقيدتهم
ويبذلون أنفسهم ومهجهم في سبيل انتصار الإسلام وإعلائه في الأرض، ومنها
أن تتهيأ الفئة المسلمة وتحسن إعداد قوتها المادية والإيمانية فتكون النتيجة
النهائية محق الكفر ومحو هيمنته وجبروته واستبداده. كل تلك وغيرها هي بعض
المصالح والحكم من تداول الأيام، وهي تؤكد ان ما يصيب المسلمين في فترة
من فترات تاريخهم من ضعف واضطهاد وهوان، ليس إلا طرفا من تحقق قاعدة
تداول الإيام بين الناس، التي إن وعاها الناس وفهموها حق فهمها انفتح لهم
الأمل في أن ما هم فيه من حال ليس أمرا مستقرا ثابتا، ولكنه أمر مؤقت
وطارئ يمكن تغييره وتبديله إن درسوا أسبابه ونظروا في مكوناته، واستخرجوا
من وقائعه الدروس ومن الهزيمة ما يحولها إلى نصر، ومن الضعف ما يبدله إلى
قوة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وإذا جاء النصر والفتح وتبدل الاستضعاف إلى قوة وإمامة للناس ووراثة للأرض
وتمكين للدين وتبديل من الخوف إلى الأمن، فهو ايضا ابتلاء واختبار، يحتاج
إلى صبر وثبات قد يكون أصعب وأثقل من الصبر في وقت الضعف والهوان، ذلك
أن القوة والسلطة مظنة الطغيان ومظنة الغرور والتكبر. وفي سورة كاملة يبين
الله تعالى مشاعر المسلم في وقت النصر والفرج فيقول:
{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } *
{ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً } *
{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً }
يقول سيد قطب تعليقا على هذه السورة:
هذه السورة الصغيرة.. تحمل البشرى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنصر
الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ وتوجهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه
بالتسبيح والحمد والاستغفار .
.