{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
تفسير القرآن | التستري | 283 هـ .
سئل سهل ابن عبد الله التستري عن قوله: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [30]
قال: إن الله تعالى قبل أن يخلق آدم عليه السلام قال للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } وخلق آدم عليه السلام
من طين العزة من نور محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلمه أن نفسه الأمّارة بالسوء أعدى عدو له، وأنه خلقها ليسارها
عليه بمعلومه فيها خواطر وهمماً، يأمرها بإدامة الافتقار واللجأ إليه، إن أبدى عليها طاعة قالت: أعني، وإن حركت
إلى معصية قالت: اعصمني، وإن حركت إلى نعمة قالت: أوزعني، وإن قال لها: اصبري على البلاء، قالت: صبرني،
ولا يساكن قلبه أدنى وسوسة لها دون الرجوع عنها إلى ربه، وجعل طبعها في الأمر ساكناً، وفي النهي متحركاً،
وأمره بأن يسكن عن المتحرك، ويتحرك عن الساكن بلا حول ولا قوة إلاَّ بالله، أي لا حول له عن معصيته إلاَّ بعصمته،
ولا قوة له على طاعته إلاَّ بمعونته، ثم أمره بدخول الجنة والأكل منها رغداً حيث شاء. ونص عليه النهي عن الأكل من
الشجرة، فلما دخل الجنة ورأى ما رأى قال: لو خلدنا، وإنما لنا أجل مضروب إلى غاية معلومة. فأتاه إبليس من قبل
مساكنة قلبه بوسوسة نفسه في ذلك، فقال: هل أدلك على شجرة الخلد التي تتمناها في هذه الدار، وهي سبب البقاء
والخلود:
{ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ }
[الأعراف:20] فكانت دلالته هذه غروراً. وألحق الله عزَّ وجلَّ به وسوسة العدو لسابق علمه فيه، وبلوغ تقديره وحكمه
العادل عليه.
وأول نسيان وقع في الجنة نسيان آدم عليه السلام، وهو نسيان عمد لا نسيان خطأ، يعني تركُ العهد. قال سهل:
بلغني عن بعض التابعين أنه قال: النسيان في كتاب الله عزَّ وجلَّ على وجهين:
الترك، كما قال في سورة البقرة:
{ أَوْ نُنسِهَا }
[البقرة:106] أي نتركها فلا ننسخها، ومثله قوله:
{ وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }
[البقرة:237] أي لا تتركوا الفضل بينكم، كذلك في طه:
{ فَنَسِيَ }
[طه:88] يعني ترك العهد، ومثله في تنزيل السجدة:
{ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ }
[السجدة:14] أي تركناكم في العذاب كما تركناكم من العصمة عند الإقامة على الإصر.
قال: والوجه الآخر النسيان هو الذي لا يحفظ فيذهب من ذكره، كما قال في الكهف:
{ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ }
[الكهف:63] أي لم أحفظ ذكره، وذلك أن الله تعالى جعل للشيطان شركة مع نفس الجبلة فيما هو من حظوظها
الذي هو شيء غير الله تعالى، وقول موسى للخضر:
{ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ }
[الكهف:73] أي ذهب مني ذكره، وقال في سبح:
{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ }
[الأعلى:6] أي سنحفظك فلا تنسى، وهذا لإطراقه إلى تدبير نفسه.
ولم تكن فكرته اعتباراً، فكانت تكون عبادة، وإنما كانت فكرة بطبع نفس الجبلة، وهذا حكم الله تعالى به قبل خلق
السماوات والأرض أنه لا يرى بقلبه عنده شيئاً، وهو غيره مساكناً إياه، إلاَّ سلط عليه إبليس يوسوس في صدره إلى
نفسه بالهوى في معنى دعته إليه، أو يرجع باللجأ إلى ربه والاعتصام به، فستر الله بذكره في أوطانه عند الإقامة
على النهي، حتى تم سابق علم الله إليه فيما نهاه عنه أن سيكون ذلك منه، وصار فعله علم سنّة في ذريته إلى يوم
القيامة.
ولم يرد الله معاني الأكل في الحقيقة، وإنما أراد معاني مساكنة الهمة مع شيء هو غيره، أي لا يهتم بشيء هو
غيري. فآدم صلوات الله عليه لم يعتصم من الهمة والفعل في الجنة، فلحقه ما لحقه من أجل ذلك. وكذلك من ادعى ما
ليس له، وساكنه قلبه ناظراً إلى هوى نفسه فيه، لحقه الترك من الله عزَّ وجلَّ مع ما حل عليه نفسه إلاَّ إن رحمه،
فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها، يعني إبليس، فأهل الجنة معصومون فيها من التدبير الذي كانوا به
في دار الدنيا، فآدم صلوات الله عليه لم يعصم من مساكنة قلبه تدبير نفسه بالخلود لما أدخل الجنة، ألا ترى أن البلاء
دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه، فغلب الهوى والشهوة على العلم والعقل والبيان ونور القلب
لسابق القدر من الله تعالى، حتى انتهى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن الهوى والشهوة يغلبان العلم والعقل ".
وسئل عن قوله: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [30] فقال: أي نطهر أنفسنا بقولنا ما ألهمتنا تفضلاً منك علينا،
تباركت ربنا.