تعامله صلى الله عليه وسلم مع الفقراء والمحتاج
رسول المساكين، وهو عليه الصلاة والسلام، رسول إلى كل البشر، إلى الملوك والمملوكين، إلى الأغنياء والفقراء، إلى الكبار والصغار، إلى الرجال والنساء.
لكنني أريد اليوم أن أقف معه، عليه الصلاة والسلام، وهو يتعامل مع المساكين، يقف معهم، يرحمهم، يعلمهم، يرفع من شأنهم، يعيش مأساتهم وظمأهم وجوعهم، ودموعهم، ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين [الأنعام:52].
وهل كان عليه الصلاة والسلام، يطرد الفقراء؟ وهل كان عليه الصلاة والسلام، يبعد المساكين؟ لا، ولكن للآية قصة.
أتى كبراء مكة وصناديدها من الذين عششت الجاهلية في رؤوسهم، فرأوا الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً في الحرم، وحوله بلال، وصهيب، وعمار، وابن مسعود، وكلهم مساكين وفقراء، فقال أبو جهل: يا محمد، إن كنت تريد أن نجلس معك، فاطرد هؤلاء الأعبد، حتى نجلس معك، فهمّ الرسول أن يفعل طمعاً في إسلامهم، فأنزل الله عليه هذه الآية[1].
إن هؤلاء الفقراء والمساكين المنكسرين خير من أولئك العظماء المتكبرين، إن أقفية هؤلاء المؤمنين أشرف من وجوه أولئك الكفرة، إن أقدام هؤلاء خير من رؤوس أولئك، لأن هؤلاء مؤمنون، موحدون، طائعون، وأولئك مكذبون، متكبرون، محادون لله ورسوله.
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [الكهف:28].
قال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي : مرّ رجل على النبي ، فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيت في هذا))؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع.
فسكت رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ثم مرّ رجل آخر، فقال له رسول الله : ((ما رأيك في هذا))؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله : ((هذا خير من ملء الأرض مثل هذا))[2].
ما هو الميزان إذن؟ ما هو المقياس؟ ما هي المؤهلات التي ترفع الإنسان وتخفضه؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم))[3].
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: ((اللهم أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين))[4].
وليس معنى هذا أن نترك الدنيا، أو نرمي المال، وإنما المعنى أن نعيش منكسرة قلوبنا لله ، ففي بعض الآثار أن الله عز وجل يقول: أنا مع المنكسرة قلوبهم لي.
والذي انكسر قلبه لله، هو من يعيش عبداً لله، لا لشهواته، ولا لمنصبه، ولا لدنياه.
لنقف اليوم مع نماذج من الفقراء والمساكين والمستضعفين، أحياها رسولنا عليه الصلاة والسلام، ورفعها، ووقف معها موقف شرف لا تنساه، بل لا ينساه التاريخ.
أتاه شاب من شباب مكة، وقد أخذ أهله كل شيء عنده، لأنه أسلم، جريمته الكبرى أنه أسلم، أخذوا ماله، وخلعوا ثيابه، فما وجد إلا شملة قسمها نصفين: نصف لأعلاه، ونصف لأسفله، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام، أجهش بالبكاء في وجهه، وقال: رأيته من أغنى شباب مكة، ومن أطيب شباب مكة، ثم ترك ذلك كله لله، إنه عبد الله ذو البجادين، وسمي بذي البجادين، لأنه قسم الشملة على نصفين ليستر بها جسده، وأتى جائعاً طريداً معذباً، يحمل لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وتمر الأيام، والرسول عليه الصلاة والسلام، يملأ قلبه حباً وحناناً وعطفاً ورحمة، ويخرج معه في غزوة تبوك، وينام الجيش وعدده أكثر من عشرة آلاف، وفي وسط الليل يستيقظ ابن مسعود فيرى ناراً تضيء في آخر المعسكر، فيلتمس الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا يجده في مكانه، ويبحث عن أبي بكر فلا يجده، ويبحث عن عمر فلا يجده، فيذهب إلى مكان النار، فإذا الرسول عليه الصلاة والسلام حفر قبراً ونزل في القبر وسط الليل، وإذا أبو بكر وعمر يحملان جنازة يدليانها في القبر، فقال ابن مسعود: من هذا يا رسول الله، قال: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين، توفي هذه الليلة، ويجعل عليه الصلاة والسلام، ساعده تحت خد عبد الله، ودموعه تتقاطر على خد عبد الله في ظلام الليل، فلما أنزله قبره، رفع كفيه واستقبل القبلة وقال: اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، فبكى ابن مسعود وقال: يا ليتني كنت صاحب تلك الحفرة[5].
أيها الناس:
أي فوز أعظم من هذا الفوز، وأي شيء أفضل من أن يرضى الله ورسوله عن عبد، ولكن مع هذا فكثير من الناس رضوا بالبدائل الدنيوية، من المناصب والأموال والقصور ولم يعبئوا بغضب الحي القيوم، فأي عقول هذه العقول، وهل هناك عاقل يستطيع أن ينام ليلة وقد غضب الله عليه، وغضب عليه رسوله، ؟ لأنه يتعدى حدود الله، وينتهك شرعه، ويستهزئ بسنة نبيه .
اختصمت امرأتان في عهد النبي، عليه الصلاة والسلام، فأتت إحداهما واسمها الربيّع أخت أنس بن النضر، فقلعت سن المرأة الأخرى، ورفع الأمر إلى الرسول، عليه الصلاة والسلام، فقال: كتاب الله، والسن بالسن.
فأتى أنس بن النضر، بطل المعارك، الذي قتل من الكفار مبارزة مائة، غير المئات التي صفى حسابهم تصفية جسدية، في بدر وأحد والأحزاب، فقال: يا رسول الله، أتريد أن تقلع سن أختي الربيّع؟ قال: نعم، كتاب الله. قال: والله لا تقلع سن أختي. ما معنى هذا القسم، هل هو اعتراض على الشرع؟ هل هو اعتراض على حكومة النبي ؟ كلا، ولكن أقسم أنس هذا القسم، رجاء في الله أن يبرّ قسمه، كأنه دعاء.
فلما أقسم أنس قال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا إلى أهل المرأة فإن رضوا بالأرش فلا بأس. فذهبوا إليهم فرضوا بالأرش، وكانوا قبل ذلك لم يرضوا به أبداً، وأقسموا لا يرضون إلا بسن الربيّع.
فتبسم عليه الصلاة والسلام وأخذ ينظر إلى ثياب أنس بن النضر الممزقة وإلى جسمه النحيل ثم قال: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره))[6].
كأنه يقول له: أصبحت في منزلة إذا حلفت على الله، أبر الله قسمك!!
أي منزلة هذه، أن يقسم الإنسان الضعيف على الملك الجليل فيلبي قسمه!!.
وهذا البراء بن مالك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا ذهبوا إلى المعارك، أخرجوه وقالوا: أقسم على الله أن ينصرنا.
حضروا معركة تستر في الشمال، وحاصروها ورفض الكفار أن ينزلوا من القلعة، وكانت محصنة، وما كان الصحابة يملكون صواريخ، ولا مدافع، ولا حتى منجنيق إلا أنهم كانوا يملكون ما هو أعظم من هذا كله، يملكون الدعاء، الذي يتجاوز حدود الأرض فيصل إلى السماء فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
حاصر الصحابة القلعة، ثم قالوا للبراء نسألك بالله أن تقسم على ربك أن ينصرنا هذا اليوم، قال: انتظروني قليلاً، فذهب واغتسل وتحنط وتطيب، ثم رفع سيفه، والتفت إلى السماء ليخاطب ربه مباشرة، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني أحبك. هذا أول مؤهلات البراء.
وليسأل كل منا نفسه، هل يحب ربه؟ هل صحيح أننا نحن المسلمون نحب ربنا، فنمتثل أوامره، ونجتنب نواهيه، ونحب دينه وشرعه، ونقدم أنفسنا ودماءنا وأموالنا رخيصة لإعلاء كلمة الله.
لا أعني بمحبة الله – عز وجل – تلك المحبة المزعومة التي يدعيها كل الناس بألسنتهم، وليس لها في عالم الحقيقة وجود، فإن قوماً ادعوا محبة الله – عز وجل – فابتلاهم الله بهذه الآية: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31]. فظهر كذبهم، وبان عوارهم ودجلهم.
إنني لن أجيب عن هذا السؤال، فكل يجيب عليه في نفسه، أما البراء فقد كان صادقاً، كان جسمه يتقطع وهو يتبسم لأنه يحب الله.
قال: اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا، وأني تجعلني أول قتيل، ودارت المعركة، فوالذي لا إله إلا هو كان أول قتيل في المعركة، وكان فوزاً ساحقاً للمسلمين، ودكّت القلعة دكاً، وقتل الكفرة، ورفعت راية لا إله إلا الله.
فأين هذه القلوب، وأين هذه النماذج التي تحب الله – عز وجل – وتعيش مع شرعه؟ فكان جزاؤها أنها تقسم على الله – عز وجل – فلا يردها، بل يبّرّ قسمها، ويلبي دعاءها.
وفي مناظرة ساخنة بين هرقل ملك الروم وبين أبي سفيان، الذي كان آنذاك عدّواً لدوداً لرسول الله، عليه الصلاة والسلام، فيقول هرقل: يا أبا سفيان أضعفاء الناس يتبعونه أم كبراؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال: أولئك أتباع الرسل[7].
ولا يعني هذا أن كل من جمع مالاً أو اغتنى، أو ولاّه الله أمراً أو منصباً أن يلغى، لا، لأن الأمة لا تستغني عن هؤلاء أيضاً، ولكن المعنى أن نرحم أولئك المساكين، وأن نعيش مأساتهم، وأن نحبهم، وأن نقف معهم ونلبي طلباتهم، لأن صوتهم ضعيف لا يصل، وخطوتهم قصيرة فلا تمتد، وتغلق الأبواب في وجوههم لأنهم مساكين، والأعطيات لا تنالهم لأنهم مساكين، فحق على المسلم أن يشفع لهم، وأن يعيش قضيتهم.
أيها الناس:
كان عليه الصلاة والسلام، يزور عجائز المدينة، ولعل أحداً يسأل، ولماذا لم يرسل أحداً من أصحابه، ويبقى هو في بيته؟
فنقول: إن زيارته لعجوز في طرف المدينة خير من ألف محاضرة، وألف كتاب، وألف تصريح، وألف خطبة.
يزور عليه الصلاة والسلام العجوز فيسألها عن حالها، ويمسكه الأعرابي في الطريق فيوقفه حتى ينتهي من حاجته، ويحمل الأطفال ويداعبهم، كان الفقير والمسكين والضعيف يأخذ بيديه عليه الصلاة والسلام، فينطلق به حيث شاء، فزكّاه ربه بتاج من الوقار والمديح والثناء، لا يعدله شيء وإنك لعلى خلقٍ عظيم [القلم:4].
إن القلوب القاسية ترفض هذا السلوك وتسميه تنازلاً وتدميراً للشخصية، وبعضهم يزعم أنه إذا زار الفقراء أو وقف مع المساكين، سقطت هيبته، وانهار كبرياؤه، ولذلك تجده يضيف على نفسه حالة من الكبر والعبوس والغلظة، فيمقته الله، ويسقطه من العيون، فلا تحبه القلوب، ولا تدعو له الألسنة، ولا تعشقه الأرواح، ولا يجد قبولاً في الأرض، بل بغضاً ومقتاً وكرهاً.
وقد ذكر عليه الصلاة والسلام؛ أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة في صورة الذرّ يطؤهم الناس بأقدامهم[8].
نعوذ بالله من الكبر والمتكبرين، ومن الجبروت والمتجبرين، ونسأله تعالى أن يرحمنا برحمة المساكين، وأن يعفو عنا كما يعفو عن المذنبين.
رسول المساكين، وهو عليه الصلاة والسلام، رسول إلى كل البشر، إلى الملوك والمملوكين، إلى الأغنياء والفقراء، إلى الكبار والصغار، إلى الرجال والنساء.
لكنني أريد اليوم أن أقف معه، عليه الصلاة والسلام، وهو يتعامل مع المساكين، يقف معهم، يرحمهم، يعلمهم، يرفع من شأنهم، يعيش مأساتهم وظمأهم وجوعهم، ودموعهم، ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين [الأنعام:52].
وهل كان عليه الصلاة والسلام، يطرد الفقراء؟ وهل كان عليه الصلاة والسلام، يبعد المساكين؟ لا، ولكن للآية قصة.
أتى كبراء مكة وصناديدها من الذين عششت الجاهلية في رؤوسهم، فرأوا الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً في الحرم، وحوله بلال، وصهيب، وعمار، وابن مسعود، وكلهم مساكين وفقراء، فقال أبو جهل: يا محمد، إن كنت تريد أن نجلس معك، فاطرد هؤلاء الأعبد، حتى نجلس معك، فهمّ الرسول أن يفعل طمعاً في إسلامهم، فأنزل الله عليه هذه الآية[1].
إن هؤلاء الفقراء والمساكين المنكسرين خير من أولئك العظماء المتكبرين، إن أقفية هؤلاء المؤمنين أشرف من وجوه أولئك الكفرة، إن أقدام هؤلاء خير من رؤوس أولئك، لأن هؤلاء مؤمنون، موحدون، طائعون، وأولئك مكذبون، متكبرون، محادون لله ورسوله.
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [الكهف:28].
قال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي : مرّ رجل على النبي ، فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيت في هذا))؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع.
فسكت رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ثم مرّ رجل آخر، فقال له رسول الله : ((ما رأيك في هذا))؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله : ((هذا خير من ملء الأرض مثل هذا))[2].
ما هو الميزان إذن؟ ما هو المقياس؟ ما هي المؤهلات التي ترفع الإنسان وتخفضه؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم))[3].
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: ((اللهم أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين))[4].
وليس معنى هذا أن نترك الدنيا، أو نرمي المال، وإنما المعنى أن نعيش منكسرة قلوبنا لله ، ففي بعض الآثار أن الله عز وجل يقول: أنا مع المنكسرة قلوبهم لي.
والذي انكسر قلبه لله، هو من يعيش عبداً لله، لا لشهواته، ولا لمنصبه، ولا لدنياه.
لنقف اليوم مع نماذج من الفقراء والمساكين والمستضعفين، أحياها رسولنا عليه الصلاة والسلام، ورفعها، ووقف معها موقف شرف لا تنساه، بل لا ينساه التاريخ.
أتاه شاب من شباب مكة، وقد أخذ أهله كل شيء عنده، لأنه أسلم، جريمته الكبرى أنه أسلم، أخذوا ماله، وخلعوا ثيابه، فما وجد إلا شملة قسمها نصفين: نصف لأعلاه، ونصف لأسفله، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام، أجهش بالبكاء في وجهه، وقال: رأيته من أغنى شباب مكة، ومن أطيب شباب مكة، ثم ترك ذلك كله لله، إنه عبد الله ذو البجادين، وسمي بذي البجادين، لأنه قسم الشملة على نصفين ليستر بها جسده، وأتى جائعاً طريداً معذباً، يحمل لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وتمر الأيام، والرسول عليه الصلاة والسلام، يملأ قلبه حباً وحناناً وعطفاً ورحمة، ويخرج معه في غزوة تبوك، وينام الجيش وعدده أكثر من عشرة آلاف، وفي وسط الليل يستيقظ ابن مسعود فيرى ناراً تضيء في آخر المعسكر، فيلتمس الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا يجده في مكانه، ويبحث عن أبي بكر فلا يجده، ويبحث عن عمر فلا يجده، فيذهب إلى مكان النار، فإذا الرسول عليه الصلاة والسلام حفر قبراً ونزل في القبر وسط الليل، وإذا أبو بكر وعمر يحملان جنازة يدليانها في القبر، فقال ابن مسعود: من هذا يا رسول الله، قال: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين، توفي هذه الليلة، ويجعل عليه الصلاة والسلام، ساعده تحت خد عبد الله، ودموعه تتقاطر على خد عبد الله في ظلام الليل، فلما أنزله قبره، رفع كفيه واستقبل القبلة وقال: اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، فبكى ابن مسعود وقال: يا ليتني كنت صاحب تلك الحفرة[5].
أيها الناس:
أي فوز أعظم من هذا الفوز، وأي شيء أفضل من أن يرضى الله ورسوله عن عبد، ولكن مع هذا فكثير من الناس رضوا بالبدائل الدنيوية، من المناصب والأموال والقصور ولم يعبئوا بغضب الحي القيوم، فأي عقول هذه العقول، وهل هناك عاقل يستطيع أن ينام ليلة وقد غضب الله عليه، وغضب عليه رسوله، ؟ لأنه يتعدى حدود الله، وينتهك شرعه، ويستهزئ بسنة نبيه .
اختصمت امرأتان في عهد النبي، عليه الصلاة والسلام، فأتت إحداهما واسمها الربيّع أخت أنس بن النضر، فقلعت سن المرأة الأخرى، ورفع الأمر إلى الرسول، عليه الصلاة والسلام، فقال: كتاب الله، والسن بالسن.
فأتى أنس بن النضر، بطل المعارك، الذي قتل من الكفار مبارزة مائة، غير المئات التي صفى حسابهم تصفية جسدية، في بدر وأحد والأحزاب، فقال: يا رسول الله، أتريد أن تقلع سن أختي الربيّع؟ قال: نعم، كتاب الله. قال: والله لا تقلع سن أختي. ما معنى هذا القسم، هل هو اعتراض على الشرع؟ هل هو اعتراض على حكومة النبي ؟ كلا، ولكن أقسم أنس هذا القسم، رجاء في الله أن يبرّ قسمه، كأنه دعاء.
فلما أقسم أنس قال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا إلى أهل المرأة فإن رضوا بالأرش فلا بأس. فذهبوا إليهم فرضوا بالأرش، وكانوا قبل ذلك لم يرضوا به أبداً، وأقسموا لا يرضون إلا بسن الربيّع.
فتبسم عليه الصلاة والسلام وأخذ ينظر إلى ثياب أنس بن النضر الممزقة وإلى جسمه النحيل ثم قال: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره))[6].
كأنه يقول له: أصبحت في منزلة إذا حلفت على الله، أبر الله قسمك!!
أي منزلة هذه، أن يقسم الإنسان الضعيف على الملك الجليل فيلبي قسمه!!.
وهذا البراء بن مالك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا ذهبوا إلى المعارك، أخرجوه وقالوا: أقسم على الله أن ينصرنا.
حضروا معركة تستر في الشمال، وحاصروها ورفض الكفار أن ينزلوا من القلعة، وكانت محصنة، وما كان الصحابة يملكون صواريخ، ولا مدافع، ولا حتى منجنيق إلا أنهم كانوا يملكون ما هو أعظم من هذا كله، يملكون الدعاء، الذي يتجاوز حدود الأرض فيصل إلى السماء فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
حاصر الصحابة القلعة، ثم قالوا للبراء نسألك بالله أن تقسم على ربك أن ينصرنا هذا اليوم، قال: انتظروني قليلاً، فذهب واغتسل وتحنط وتطيب، ثم رفع سيفه، والتفت إلى السماء ليخاطب ربه مباشرة، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني أحبك. هذا أول مؤهلات البراء.
وليسأل كل منا نفسه، هل يحب ربه؟ هل صحيح أننا نحن المسلمون نحب ربنا، فنمتثل أوامره، ونجتنب نواهيه، ونحب دينه وشرعه، ونقدم أنفسنا ودماءنا وأموالنا رخيصة لإعلاء كلمة الله.
لا أعني بمحبة الله – عز وجل – تلك المحبة المزعومة التي يدعيها كل الناس بألسنتهم، وليس لها في عالم الحقيقة وجود، فإن قوماً ادعوا محبة الله – عز وجل – فابتلاهم الله بهذه الآية: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31]. فظهر كذبهم، وبان عوارهم ودجلهم.
إنني لن أجيب عن هذا السؤال، فكل يجيب عليه في نفسه، أما البراء فقد كان صادقاً، كان جسمه يتقطع وهو يتبسم لأنه يحب الله.
قال: اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا، وأني تجعلني أول قتيل، ودارت المعركة، فوالذي لا إله إلا هو كان أول قتيل في المعركة، وكان فوزاً ساحقاً للمسلمين، ودكّت القلعة دكاً، وقتل الكفرة، ورفعت راية لا إله إلا الله.
فأين هذه القلوب، وأين هذه النماذج التي تحب الله – عز وجل – وتعيش مع شرعه؟ فكان جزاؤها أنها تقسم على الله – عز وجل – فلا يردها، بل يبّرّ قسمها، ويلبي دعاءها.
وفي مناظرة ساخنة بين هرقل ملك الروم وبين أبي سفيان، الذي كان آنذاك عدّواً لدوداً لرسول الله، عليه الصلاة والسلام، فيقول هرقل: يا أبا سفيان أضعفاء الناس يتبعونه أم كبراؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال: أولئك أتباع الرسل[7].
ولا يعني هذا أن كل من جمع مالاً أو اغتنى، أو ولاّه الله أمراً أو منصباً أن يلغى، لا، لأن الأمة لا تستغني عن هؤلاء أيضاً، ولكن المعنى أن نرحم أولئك المساكين، وأن نعيش مأساتهم، وأن نحبهم، وأن نقف معهم ونلبي طلباتهم، لأن صوتهم ضعيف لا يصل، وخطوتهم قصيرة فلا تمتد، وتغلق الأبواب في وجوههم لأنهم مساكين، والأعطيات لا تنالهم لأنهم مساكين، فحق على المسلم أن يشفع لهم، وأن يعيش قضيتهم.
أيها الناس:
كان عليه الصلاة والسلام، يزور عجائز المدينة، ولعل أحداً يسأل، ولماذا لم يرسل أحداً من أصحابه، ويبقى هو في بيته؟
فنقول: إن زيارته لعجوز في طرف المدينة خير من ألف محاضرة، وألف كتاب، وألف تصريح، وألف خطبة.
يزور عليه الصلاة والسلام العجوز فيسألها عن حالها، ويمسكه الأعرابي في الطريق فيوقفه حتى ينتهي من حاجته، ويحمل الأطفال ويداعبهم، كان الفقير والمسكين والضعيف يأخذ بيديه عليه الصلاة والسلام، فينطلق به حيث شاء، فزكّاه ربه بتاج من الوقار والمديح والثناء، لا يعدله شيء وإنك لعلى خلقٍ عظيم [القلم:4].
إن القلوب القاسية ترفض هذا السلوك وتسميه تنازلاً وتدميراً للشخصية، وبعضهم يزعم أنه إذا زار الفقراء أو وقف مع المساكين، سقطت هيبته، وانهار كبرياؤه، ولذلك تجده يضيف على نفسه حالة من الكبر والعبوس والغلظة، فيمقته الله، ويسقطه من العيون، فلا تحبه القلوب، ولا تدعو له الألسنة، ولا تعشقه الأرواح، ولا يجد قبولاً في الأرض، بل بغضاً ومقتاً وكرهاً.
وقد ذكر عليه الصلاة والسلام؛ أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة في صورة الذرّ يطؤهم الناس بأقدامهم[8].
نعوذ بالله من الكبر والمتكبرين، ومن الجبروت والمتجبرين، ونسأله تعالى أن يرحمنا برحمة المساكين، وأن يعفو عنا كما يعفو عن المذنبين.