المسلمون وتطور علم النبات لم يترك علماء المسلمين مجالاً من مجالات العلوم إلا وأسهموا فيه إسهامًا مباشرًا ومؤثرًا، وبذلك استفاد من جهدهم سائر البشر، ومن هذه العلوم المهمَّة علم النبات.
لقد فهم المسلمون أهمية علم النبات منذ الأيام الأولى لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث حفل القرآن الكريم من أوَّله إلى آخره بالحديث عن النباتات المختلفة ونموها وأنواعها وتصنيفها، وما هو موجود في الدنيا، وما هو موجود في الآخرة.
يقول تعالى: "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [الأنعام: 99].
ويقول تعالى عن نباتات الجنة: "وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ" [الواقعة: 27- 33].
والآيات في هذا المجال كثيرة، ومن الصعب جدًّا حصرها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِّك أذهان المسلمين للتفكُّر في أنواع النباتات المختلفة، ومن ذلك مثلاً ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ". فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حَدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: "هِيَ النَّخْلَةُ" . وحضَّهم أيضًا على التداوي ببعض النباتات، فقال على سبيل المثال - كما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها -: "إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ مِنَ السَّامِ ". فقالت: وما السام؟ فقال: "الْمَوْتُ" .
النخلومن هنا ظهر اهتمام المسلمين بهذا الفرع المهم من فروع العلم. وكعادة العلماء المسلمين فإنهم كانوا يهتمون بدراسة كل الإنتاج العلمي للحضارات السابقة في كل مجالات العلوم، حتى يستفيدوا من جهود العلماء السابقين، ويستكملوا جهود العلماء السابقين؛ لتستفيد البشرية جميعًا من هذا النتاج المشترك لعلماء العالم في مختلف العصور.
ولهذا فإن علماء الإسلام قد قاموا في البداية بترجمة الأعمال المهمة التي قام بها علماء اليونان، فترجموا أعمال أرسطو، وكذلك ترجموا أعمال تلميذه النجيب ثيوفراستس، الذي جمع معظم النباتات الموجودة في العالم في كتابه (أسباب النبات)؛ ولذلك يُعرف ثيوفراستس بأبي علم النبات. ثم ترجم المسلمون كتاب التاريخ الطبيعي للعالم الروماني بليني الأكبر، وهو مرجع ضخم مكوَّن من 27 مجلدًا، وتمت أيضًا ترجمة كتاب (المادة الطبية) تحت اسم (الحشائش)، وهو للعالم اليوناني الشهير ديسقوريدس، وقد قام بترجمة هذا الكتاب الأخير أحد العلماء النصارى في بغداد، وهو إصطفان بن باسيل، وذلك بأمر من الخليفة العباسي المتوكل الذي حكم من سنة 232 إلى سنة 247هـ. ولعلَّنا نلحظ هنا اهتمام الدولة الإسلامية بنقل الحضارة في كافة مجالاتها، وكذلك انفتاحها على العلوم الأجنبية، وسهولة التعامل ببساطة مع العلماء غير المسلمين، سواءٌ من المؤلفين أو المترجمين. وقد ترك إصطفان بن باسيل بعض المصطلحات التي فشل في نقلها للعربية لعدم معرفته بها، ولم يتم هذا الكتاب إلا في عهد عبد الرحمن الناصر الخليفة الأندلسي، الذي حكم من سنة 300 إلى سنة 350هـ، وذلك عندما أهدى قسطنطين السابع ملك الروم في القسطنطينية نسخة أخرى من الكتاب إلى الخليفة المسلم، والذي كان مشهورًا بحبه للعلم وبحثه عنه. ولقد كلف عبد الرحمن الناصر مجموعة من العلماء والأطباء يجمعون بين العربية واليونانية أن يكوِّنوا لجنة لترجمة الكتاب ترجمة صحيحة، وقد تم ذلك بالفعل في سنة 337هـ، وبذلك استكمل الكتاب القيم.
وغني عن البيان أن العلماء المسلمين لم يكتفوا بالترجمة والنقل عن العلماء الآخرين، ولكن كان هذا النقل مرحلة من مراحل تطور هذا العلم المهم، ثم كانت المرحلة التي بعدها هي مرحلة التعليق على هذه الكتب الأجنبية، وتناوُلها بالدراسة والنقد والشرح، وإقرار بعض المعلومات، ورفض معلومات أخرى، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى مرحلة التأليف والابتكار والإبداع، وإضافة فروع جديدة للعلم لم تكن معروفة قبل ذلك.
ومن الطريف أن نعرف أن من أوائل العلماء المسلمين الذين اهتموا بعلم النبات وكتبه علماء اللغة العربية! وكان سبب اهتمامهم بالنبات أنهم بدءوا في تأليف معاجمهم اللغوية التي تورد كل الأسماء والألفاظ الموجودة في اللغة، وكان منها بالطبع أسماء النبات وأنواعه. ولعل أول هذه الجهود كانت على يد عالم اللغة المسلم عبد الملك بن جريج البصري، وكان ذلك في عام 155هـ، ثم تبعه العالم الجليل الشهير الخليل بن أحمد، حيث سجل في كتابه (العين) عددًا كبيرًا من أسماء النبات، وسار على نهجه بعد ذلك عدد كبير من علماء اللغة، مثل: ابن السِّكِّيت، والجوْهَرِي (صاحب الصحاح)، وابن سِيدَه (صاحب المخصص)، وابن منظور (صاحب لسان العرب).
ومن الإضافات الجيدة في هذا المجال ما فعله العالم اللغوي هشام بن إبراهيم الكَرْماني (ت 216هـ)، حيث خصَّص كتابًا منفردًا لأسماء النبات بعنوان (النبات). وكذلك فعل العالم المشهور الجاحظ، الذي كانت له اهتمامات بالغة بعدة علوم في آنٍ واحد، وكان على رأس هذه العلوم بالطبع العلوم اللغوية والأدبية، وكذلك علوم الحيوان، إلا أنه أسهم عدة إسهامات في علوم النبات، حتى إنه ألّف كتابًا منفردًا عن هذا الموضوع سماه (الزرع والنخل).
ثم ظهر العالم القدير أبو حنيفة الدِّينَوَرِي (توفِّي سنة 282هـ)، الذي يُعَدّ أول من ألَّف كتابًا علميًّا متخصصًا عن النبات، وكان هذا الكتاب باسم (النبات والشجر)، وفيه جمع ما يربو على 1120 نباتًا من نباتات الجزيرة العربية، وكان يصف النبات وصفًا دقيقًا، ومن أمثلة ذلك وصفه لنبات يعرف باسم (الإسحقان)، فقال: "هو نبات ممتد حبالاً على وجه الأرض، له ورق كورق الحنظل، إلا أنه أرق، وله قرون أقصر من قرون اللوبياء، فيه حَبّ مدور أحمر، يُتَدَاوى به من عرق النسا". فهو في وصفه هذا يقرِّب الصورة لقارئ الكتاب ولطالب العالم بتشبيه أجزاء النبات غير المعروف بأجزاء النباتات المعروفة مثل الحنظل واللوبياء، ثم إنه يذكر استخدامًا مفيدًا لهذا النبات، وهو في علاج عرق النسا، وبذلك لا تصبح دراسة نظرية لا جدوى من ورائها، ولكن عملية مفيدة للأطباء ولعموم الناس.
وفي أواخر القرن الرابع الهجري ظهر العلامة الإسلامي الفذّ ابن سينا، وهو من أشهر أطباء العالم، ولم يمنعه تخصصه في عدة علوم كالطب والفلسفة والفقه والكيمياء من دراسة أحوال النباتات الموجودة في الكتب أو على أرض الواقع، ولكنه بطبيعة الحال كان مهتمًّا بصورة أكبر بدراسة النباتات الطبية التي تفيد في علاج المرضى؛ وذلك ليستكمل العلوم التي تخدمه في مهنة الطب. ولقد وصف ابن سينا النباتات الطبية وصفًا دقيقًا يدل على سعة اطِّلاعه، وطول باعه في هذا الميدان. كما أجرى عدة مقارنات علمية شرح فيها جذور النباتات، وأوراقها، وأزهارها، وثمارها، ونظائرها، وعلاقة بعضها ببعض.
ولم يكن ابن سينا يكتفي فقط بدراسة الكتب السابقة، ولم يكن أيضًا يكتفي بدراسة النباتات المجفَّفة عند العطارين والصيادلة، ولكنه كان ينزل بنفسه إلى البيئة الزراعية فيدرس النبات في أماكن زراعته، أو يذهب إلى الصحراء أو الغابات لدراسة النبات في منبته الأصلي، فيستطيع بذلك أن يكوِّن فكرة أوضح عن النبات.
ولقد ظهر بوضوح إسهام ابن سينا في علم النبات في كتاباته التي من أشهرها كتاب القانون في الطب، حيث ضمَّن هذا الكتاب الوصف التفصيلي لعدد كبير من النباتات، بل إنه كتب فصلاً ممتعًا عن النبات في كتاب (الشفاء)، ومع أنه كان مهتمًّا جدًّا بأمور الطب إلا أنه في هذا الفصل ذكر أنواع النباتات المختلفة حتى التي ليست لها علاقة مباشرة بالعلاج، مثل: حديثه عن الخس، والملوخية، والقصب، وغير ذلك من نباتات.
ومن الجدير بالذكر أن ابن سينا اشتُهِرَ في كتاباته بالأمانة العلمية المطلقة، فكان ينسب دائمًا الأمر إلى أهله. وحفل كتابه القانون، وكذلك الشفاء، بأسماء علماء النبات اليونانيين كأرسطو وثيوفراستس وديسقوريدس وجالينوس وغيرهم، وكان إذا عارضهم عارضهم بأدب وبقوة حُجَّة ومنطق، وكذلك بثقة بالغة لا تتطور أبدًا إلى تكبر أو تعالٍ.
وفي مطلع القرن الخامس الهجري ظهر الطبيب الأندلسي الجليل ابن جلجل، الذي أضاف عدة موضوعات على كتاب المادة الطبية لديسقوريدس، كان قد أغفلها العالم اليوناني الكبير، وبذلك أصبح الكتاب الجديد موسوعة علمية قيمة جدًّا. وقسَّم هذا المرجع الفريد إلى خمسة فصول، كل فصل منها يتحدث عن نوع من أنواع النباتات، واستخدامات هذه الأنواع في الأدوية المختلفة.
ثم حدثت طفرة علمية هائلة في علم النبات في أوائل القرن السابع الهجري، عندما ظهر العالم الإسلامي العبقري، والحجَّة العلمية الباهرة ابن البيطار، وهو من العلماء الذين وُلِدُوا في الأندلس، ولكنه عاش جانبًا كبيرًا من حياته في الديار المصرية في رعاية الدولة الأيوبية.
لقد تناول ابن البيطار - رحمه الله - هذا العلم بالدراسة المنطقية، وبالتحليل السليم، وبالاستنباط العميق، وقام بتجارب معملية على أرقى مستوى، وتنقل في بلاد كثيرة إسلامية وغير إسلامية؛ سعيًا وراء المزيد من المعلومات عن هذا العلم المهم (علم النبات).
ولقد قام ابن البيطار بتدوين هذه المعلومات القيمة في عدة كتب رائعة، لعلَّ من أشهرها كتاب (الجامع في الأدوية المفردة)، وهو موسوعة علمية خالدة، وتكلم علماء العالم من شتى الجنسيات على روعة هذا الكتاب ودقته، وقال عنه (رام لاندو) على سبيل المثال في كتابه (الإسلام والعرب): "صنَّف ابن البيطار أوسع كتاب في الموضوع (أي في علم النبات)، بل أهم كتاب أُلِّف في علم النبات طول الحقبة الممتدة، من ديسقوريدس إلى القرن السادس عشر الميلادي".
والحق أننا نظلم ابن البيطار كثيرًا إذا تحدثنا عنه في جزء بسيط من المقال؛ ولذلك فمن العدل أن نفرد له مقالاً خاصًّا مستقلاًّ في المقالات القادمة بإذن الله.
ولم تتوقف مسيرة علماء النبات بعد ابن البيطار، بل برع الكثير والكثير من العلماء المسلمين، وأضافوا العديد من الشروح والتقاسيم لمملكة النباتات، ولعل من أشهر من كتب في هذا المجال بعد ابن البيطار الطبيب ابن أبي أصيبعة، والعالم القزويني، وكذلك العالم الفذّ شهاب الدين الكرماني العمري، وغيرهم الكثير.
إن ما ذكرناه في هذا المقال هو مجرد إطلالات عابرة على مسيرة رائعة لعلماء النبات في العالم الإسلامي، لم نتعرض فيها للتفصيلات ولا للشروح. ولقد ظهر لنا من هذه الرحلة السريعة سعة أفق العلماء المسلمين، وسعيهم وراء العلم أيًّا كان مصدره. كما ظهر لنا المنهج العلمي القيم الذي ساروا عليه، كل هذا إضافةً إلى أمانة علمية واضحة، وتوقير وتبجيل للعلماء مهما كانت جنسياتهم أو عقائدهم.
لقد فهم المسلمون أهمية علم النبات منذ الأيام الأولى لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث حفل القرآن الكريم من أوَّله إلى آخره بالحديث عن النباتات المختلفة ونموها وأنواعها وتصنيفها، وما هو موجود في الدنيا، وما هو موجود في الآخرة.
يقول تعالى: "وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [الأنعام: 99].
ويقول تعالى عن نباتات الجنة: "وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ" [الواقعة: 27- 33].
والآيات في هذا المجال كثيرة، ومن الصعب جدًّا حصرها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِّك أذهان المسلمين للتفكُّر في أنواع النباتات المختلفة، ومن ذلك مثلاً ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما، حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ". فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حَدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: "هِيَ النَّخْلَةُ" . وحضَّهم أيضًا على التداوي ببعض النباتات، فقال على سبيل المثال - كما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها -: "إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ مِنَ السَّامِ ". فقالت: وما السام؟ فقال: "الْمَوْتُ" .
النخلومن هنا ظهر اهتمام المسلمين بهذا الفرع المهم من فروع العلم. وكعادة العلماء المسلمين فإنهم كانوا يهتمون بدراسة كل الإنتاج العلمي للحضارات السابقة في كل مجالات العلوم، حتى يستفيدوا من جهود العلماء السابقين، ويستكملوا جهود العلماء السابقين؛ لتستفيد البشرية جميعًا من هذا النتاج المشترك لعلماء العالم في مختلف العصور.
ولهذا فإن علماء الإسلام قد قاموا في البداية بترجمة الأعمال المهمة التي قام بها علماء اليونان، فترجموا أعمال أرسطو، وكذلك ترجموا أعمال تلميذه النجيب ثيوفراستس، الذي جمع معظم النباتات الموجودة في العالم في كتابه (أسباب النبات)؛ ولذلك يُعرف ثيوفراستس بأبي علم النبات. ثم ترجم المسلمون كتاب التاريخ الطبيعي للعالم الروماني بليني الأكبر، وهو مرجع ضخم مكوَّن من 27 مجلدًا، وتمت أيضًا ترجمة كتاب (المادة الطبية) تحت اسم (الحشائش)، وهو للعالم اليوناني الشهير ديسقوريدس، وقد قام بترجمة هذا الكتاب الأخير أحد العلماء النصارى في بغداد، وهو إصطفان بن باسيل، وذلك بأمر من الخليفة العباسي المتوكل الذي حكم من سنة 232 إلى سنة 247هـ. ولعلَّنا نلحظ هنا اهتمام الدولة الإسلامية بنقل الحضارة في كافة مجالاتها، وكذلك انفتاحها على العلوم الأجنبية، وسهولة التعامل ببساطة مع العلماء غير المسلمين، سواءٌ من المؤلفين أو المترجمين. وقد ترك إصطفان بن باسيل بعض المصطلحات التي فشل في نقلها للعربية لعدم معرفته بها، ولم يتم هذا الكتاب إلا في عهد عبد الرحمن الناصر الخليفة الأندلسي، الذي حكم من سنة 300 إلى سنة 350هـ، وذلك عندما أهدى قسطنطين السابع ملك الروم في القسطنطينية نسخة أخرى من الكتاب إلى الخليفة المسلم، والذي كان مشهورًا بحبه للعلم وبحثه عنه. ولقد كلف عبد الرحمن الناصر مجموعة من العلماء والأطباء يجمعون بين العربية واليونانية أن يكوِّنوا لجنة لترجمة الكتاب ترجمة صحيحة، وقد تم ذلك بالفعل في سنة 337هـ، وبذلك استكمل الكتاب القيم.
وغني عن البيان أن العلماء المسلمين لم يكتفوا بالترجمة والنقل عن العلماء الآخرين، ولكن كان هذا النقل مرحلة من مراحل تطور هذا العلم المهم، ثم كانت المرحلة التي بعدها هي مرحلة التعليق على هذه الكتب الأجنبية، وتناوُلها بالدراسة والنقد والشرح، وإقرار بعض المعلومات، ورفض معلومات أخرى، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى مرحلة التأليف والابتكار والإبداع، وإضافة فروع جديدة للعلم لم تكن معروفة قبل ذلك.
ومن الطريف أن نعرف أن من أوائل العلماء المسلمين الذين اهتموا بعلم النبات وكتبه علماء اللغة العربية! وكان سبب اهتمامهم بالنبات أنهم بدءوا في تأليف معاجمهم اللغوية التي تورد كل الأسماء والألفاظ الموجودة في اللغة، وكان منها بالطبع أسماء النبات وأنواعه. ولعل أول هذه الجهود كانت على يد عالم اللغة المسلم عبد الملك بن جريج البصري، وكان ذلك في عام 155هـ، ثم تبعه العالم الجليل الشهير الخليل بن أحمد، حيث سجل في كتابه (العين) عددًا كبيرًا من أسماء النبات، وسار على نهجه بعد ذلك عدد كبير من علماء اللغة، مثل: ابن السِّكِّيت، والجوْهَرِي (صاحب الصحاح)، وابن سِيدَه (صاحب المخصص)، وابن منظور (صاحب لسان العرب).
ومن الإضافات الجيدة في هذا المجال ما فعله العالم اللغوي هشام بن إبراهيم الكَرْماني (ت 216هـ)، حيث خصَّص كتابًا منفردًا لأسماء النبات بعنوان (النبات). وكذلك فعل العالم المشهور الجاحظ، الذي كانت له اهتمامات بالغة بعدة علوم في آنٍ واحد، وكان على رأس هذه العلوم بالطبع العلوم اللغوية والأدبية، وكذلك علوم الحيوان، إلا أنه أسهم عدة إسهامات في علوم النبات، حتى إنه ألّف كتابًا منفردًا عن هذا الموضوع سماه (الزرع والنخل).
ثم ظهر العالم القدير أبو حنيفة الدِّينَوَرِي (توفِّي سنة 282هـ)، الذي يُعَدّ أول من ألَّف كتابًا علميًّا متخصصًا عن النبات، وكان هذا الكتاب باسم (النبات والشجر)، وفيه جمع ما يربو على 1120 نباتًا من نباتات الجزيرة العربية، وكان يصف النبات وصفًا دقيقًا، ومن أمثلة ذلك وصفه لنبات يعرف باسم (الإسحقان)، فقال: "هو نبات ممتد حبالاً على وجه الأرض، له ورق كورق الحنظل، إلا أنه أرق، وله قرون أقصر من قرون اللوبياء، فيه حَبّ مدور أحمر، يُتَدَاوى به من عرق النسا". فهو في وصفه هذا يقرِّب الصورة لقارئ الكتاب ولطالب العالم بتشبيه أجزاء النبات غير المعروف بأجزاء النباتات المعروفة مثل الحنظل واللوبياء، ثم إنه يذكر استخدامًا مفيدًا لهذا النبات، وهو في علاج عرق النسا، وبذلك لا تصبح دراسة نظرية لا جدوى من ورائها، ولكن عملية مفيدة للأطباء ولعموم الناس.
وفي أواخر القرن الرابع الهجري ظهر العلامة الإسلامي الفذّ ابن سينا، وهو من أشهر أطباء العالم، ولم يمنعه تخصصه في عدة علوم كالطب والفلسفة والفقه والكيمياء من دراسة أحوال النباتات الموجودة في الكتب أو على أرض الواقع، ولكنه بطبيعة الحال كان مهتمًّا بصورة أكبر بدراسة النباتات الطبية التي تفيد في علاج المرضى؛ وذلك ليستكمل العلوم التي تخدمه في مهنة الطب. ولقد وصف ابن سينا النباتات الطبية وصفًا دقيقًا يدل على سعة اطِّلاعه، وطول باعه في هذا الميدان. كما أجرى عدة مقارنات علمية شرح فيها جذور النباتات، وأوراقها، وأزهارها، وثمارها، ونظائرها، وعلاقة بعضها ببعض.
ولم يكن ابن سينا يكتفي فقط بدراسة الكتب السابقة، ولم يكن أيضًا يكتفي بدراسة النباتات المجفَّفة عند العطارين والصيادلة، ولكنه كان ينزل بنفسه إلى البيئة الزراعية فيدرس النبات في أماكن زراعته، أو يذهب إلى الصحراء أو الغابات لدراسة النبات في منبته الأصلي، فيستطيع بذلك أن يكوِّن فكرة أوضح عن النبات.
ولقد ظهر بوضوح إسهام ابن سينا في علم النبات في كتاباته التي من أشهرها كتاب القانون في الطب، حيث ضمَّن هذا الكتاب الوصف التفصيلي لعدد كبير من النباتات، بل إنه كتب فصلاً ممتعًا عن النبات في كتاب (الشفاء)، ومع أنه كان مهتمًّا جدًّا بأمور الطب إلا أنه في هذا الفصل ذكر أنواع النباتات المختلفة حتى التي ليست لها علاقة مباشرة بالعلاج، مثل: حديثه عن الخس، والملوخية، والقصب، وغير ذلك من نباتات.
ومن الجدير بالذكر أن ابن سينا اشتُهِرَ في كتاباته بالأمانة العلمية المطلقة، فكان ينسب دائمًا الأمر إلى أهله. وحفل كتابه القانون، وكذلك الشفاء، بأسماء علماء النبات اليونانيين كأرسطو وثيوفراستس وديسقوريدس وجالينوس وغيرهم، وكان إذا عارضهم عارضهم بأدب وبقوة حُجَّة ومنطق، وكذلك بثقة بالغة لا تتطور أبدًا إلى تكبر أو تعالٍ.
وفي مطلع القرن الخامس الهجري ظهر الطبيب الأندلسي الجليل ابن جلجل، الذي أضاف عدة موضوعات على كتاب المادة الطبية لديسقوريدس، كان قد أغفلها العالم اليوناني الكبير، وبذلك أصبح الكتاب الجديد موسوعة علمية قيمة جدًّا. وقسَّم هذا المرجع الفريد إلى خمسة فصول، كل فصل منها يتحدث عن نوع من أنواع النباتات، واستخدامات هذه الأنواع في الأدوية المختلفة.
ثم حدثت طفرة علمية هائلة في علم النبات في أوائل القرن السابع الهجري، عندما ظهر العالم الإسلامي العبقري، والحجَّة العلمية الباهرة ابن البيطار، وهو من العلماء الذين وُلِدُوا في الأندلس، ولكنه عاش جانبًا كبيرًا من حياته في الديار المصرية في رعاية الدولة الأيوبية.
لقد تناول ابن البيطار - رحمه الله - هذا العلم بالدراسة المنطقية، وبالتحليل السليم، وبالاستنباط العميق، وقام بتجارب معملية على أرقى مستوى، وتنقل في بلاد كثيرة إسلامية وغير إسلامية؛ سعيًا وراء المزيد من المعلومات عن هذا العلم المهم (علم النبات).
ولقد قام ابن البيطار بتدوين هذه المعلومات القيمة في عدة كتب رائعة، لعلَّ من أشهرها كتاب (الجامع في الأدوية المفردة)، وهو موسوعة علمية خالدة، وتكلم علماء العالم من شتى الجنسيات على روعة هذا الكتاب ودقته، وقال عنه (رام لاندو) على سبيل المثال في كتابه (الإسلام والعرب): "صنَّف ابن البيطار أوسع كتاب في الموضوع (أي في علم النبات)، بل أهم كتاب أُلِّف في علم النبات طول الحقبة الممتدة، من ديسقوريدس إلى القرن السادس عشر الميلادي".
والحق أننا نظلم ابن البيطار كثيرًا إذا تحدثنا عنه في جزء بسيط من المقال؛ ولذلك فمن العدل أن نفرد له مقالاً خاصًّا مستقلاًّ في المقالات القادمة بإذن الله.
ولم تتوقف مسيرة علماء النبات بعد ابن البيطار، بل برع الكثير والكثير من العلماء المسلمين، وأضافوا العديد من الشروح والتقاسيم لمملكة النباتات، ولعل من أشهر من كتب في هذا المجال بعد ابن البيطار الطبيب ابن أبي أصيبعة، والعالم القزويني، وكذلك العالم الفذّ شهاب الدين الكرماني العمري، وغيرهم الكثير.
إن ما ذكرناه في هذا المقال هو مجرد إطلالات عابرة على مسيرة رائعة لعلماء النبات في العالم الإسلامي، لم نتعرض فيها للتفصيلات ولا للشروح. ولقد ظهر لنا من هذه الرحلة السريعة سعة أفق العلماء المسلمين، وسعيهم وراء العلم أيًّا كان مصدره. كما ظهر لنا المنهج العلمي القيم الذي ساروا عليه، كل هذا إضافةً إلى أمانة علمية واضحة، وتوقير وتبجيل للعلماء مهما كانت جنسياتهم أو عقائدهم.