العرفان وغايته وابعاده التكاملية
واعلم أن جميع ما يحل ببني آدم من مصائب ناشئ من الإرث الشيطاني. فهو أصل الفتنة، وربما تشير الآية الكريمة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}، في بعض مراحلها ومستوياتها إلى الجهاد الأكبر، وقتال أساس الفتنة وهو الشيطان وجنوده. ولهؤلاء فروع وجذور في أعماق قلوب بني الإنسان كافة، وعلى كل إنسان أن يجاهد حتى لا تكون فتنة داخل نفسه وخارجها، فإذا حقَّق هذا الجهادُ النصرَ؛ صلحت الأمور كافة وصلح الجميع .
إن الغاية التي من أجلها سعى وجاهد جميع الأنبياء والرسل، وكذا الأولياء والأوصياء والصالحون، لا تخرج في حقيقتها عن هدفية واحدة تربية الإنسان وهدايته في مسيرته من عالم التراب إلى عالم الملكوت الأعلى بهدف يتمثَّل في تشكيل المجتمع وإعداد بيئة لا يعبد فيها غير الله تعالى، فتزيل أنوارُ العبودية والإخلاص والإيمان بالغيب، ظلمةَ الأهواء النفسانية والشهوات الدنيوية، وتضيء أنظارَ البشرية بنور جمال الحقّ في عالم الوجود، وتعيد حاكمية التوحيد وأبعاده المتعالية في مختلف العلاقات والنشاطات الإنسانية. ومثل هذا لا يتيسَّر إلَّا بتزكية النفس، الشيء الذي يجهله حكام الشرق والغرب، ويتعطَّش إليه عالم اليوم المنهك حيث يكون الإنسان متحرّكًا تحرُّكًا عموديًّا في طريق السير والسلوك إلى الحق تعالى، بغاية الوصول إلى مقام لا يرى في الوجود غيره تعالى .
إن العرفان ليس إلَّا ذلك السعي المخلص من العبد في دنياه من أجل التحرُّر من صنميّة الذّات وقهرية النفس، وممكن ان نسميه ، بالهجرة من النفس إلى الله، حيث يعزم الإنسان على الخروج من بيت النفس وظلمانيتها، وينطلق صادقًا مهاجرًا إلى الله ورسوله، متحرّرًا من أسر الدّنيا والطبيعة وسيطرة النفس والشهوات والغرائز، ومن أنانيته الضيقة، إلى مراتب ما يعرف عند العرفانيين بـ«الموت المطلق» التي لا يعود فيها شيء من أنفسهم .
ويتحقَّق الابتعاد عن بيت النفس أو بئرها العميقة التي تجعل الإنسان لا يرى إلَّا نفسه، ولا يقيم وزنًا إلَّا لها، ولا يفكر إلَّا فيها. بما يجعل منها أعدى الأعداء وهي أسوأ من كل الأعداء وأكبر من كل الأوثان بل هي أم الأوثان؛ لأن الإنسان يعبدها أكثر من سائر الأوثان ويتوجَّه إليها أكثر من سائر الأوثان، وما لم يحطم هذا الوثن فلا يستطيع أن يصبح إلهيًّا؛ إذ لا يمكن الجمع بين الله وبين الوثن، ولا يمكن الجمع بين الأنانية والإلهية .
فيجب على الانسان أن يركّز على ضرورة الانتباه إلى هذا الخطر الكبير، وضرورة المعرفة الدقيقة والواعية بأقرب الأعداء إلى الإنسان، وهي النفس التي بين الجنب، والعمل على مراقبتها وتتبّع أساليبها المتنوِّعة في الإيقاع بالإنسان والسقوط به في مدارك الجهالة والظلمانية والغفلة ، معتمدين على منهجية وسلوك طريق الحق دون الاعتماد على ذات الانسان واهوائه .
فكيف للإنسان العادي أن يدَّعي الاستقلالية والاعتماد على ذاته في السير إلى الله وسلوك طريق العرفان الخاص من دون هداية وترشيد دقيق وواضح من الأئمة العارفين العالمين بأسرار ذلك؟! مثلما أن كثيرًا من العلوم والمعارف المادية نبغ فيها الإنسان وأعطى فيها الشيء الكثير وحقَّق إنجازات لم تكن متوقَّعة ولا محتملة، لكنها لم تصبَّ سوى في طريق النقيصة والشرور المنافيين لحقيقة الكمال وغاياته المرجوة.
يمكن أن نختزل جميع معاني العرفان وكل مدلولاته وأبعاده، وجميع تفاصيله، مهما اختلفت المنطلقات والدراسات المنظور منها إليه، سيان إن كانت مدرسية تعريفية تبسيطية، أو كانت أكاديمية معمّقة وتخصُّصية، تبحث في تفاصيل العرفان ومصاديقه. فجميع المعاني يمكن أن تؤول إلى حقيقة معرفة الله التي تتوفَّر في ظلِّها سعادة الدنيا والآخرة .
لذا فإن سلوك طريق المعرفة الروحية وطريق العرفان يجب أن يكون مؤسسًا ومحكومًا ومستندًا في تفاصيله إلى معارف الوحي بما هو قرآن وسنة والائمة الهداة السبيل الأوحد الذي يحقّق الإحاطة بتمام التكامل للإنسانية والآفاق الممكنة لها، وهو أمر لا يحيط به وبتفاصيله العقل البشري الفطري المحدود، ولا العقل التجريبي ولا العقول الأخرى .
- العرفان العملي (السير والسلوك) ؟
يعتقد العرفاء أنّ لكلّ موجود من الموجودات حركة بها يطلب كماله، لا فرق في ذلك بين الموجودات السفلية المنتمية إلى عالم المادة، والعلوية الروحانية، حيث تسير بأجمعها إلى غاياتها الكمالية. وأعظم مقصد لها هو الحقّ تعالى، فهو غاية الغايات ومقصد المقاصد ونهاية النهايات. وقد أشارت العديد من الآيات الشريفة إلى هذه الحقيقة وأمّا سبب التوجّه نحو الله تعالى، فهو لأجل معرفته وعبادته بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ .
- تعريف السير والسلوك ؟
إنّ الوصول إلى المقصد الأعلى يقتضي اجتياز المنازل والمراحل والمقامات، وهذا ما يسمّى، في لسان العرفاء بالسير والسلوك وقد عرفوا السير والسلوك فقالوا.
السلوك هو العلم والبرنامج الذي يُبْحث فيه عن كيفية منازل السير نحو القرب الإلهي وخصائصه4. والسلوك بهذا المعنى هو طيّ الطريق، أمّا السير كما يعبّر صاحب لبّ اللباب عبارة عن مشاهدة آثار وخصائص المنازل والمراحل أثناء الطريق .
وقيل في تعريف السلوك أيضاً إنّه: هيئة نفسية روحية للترقّي والتكامل، والانتقال في الأصول والمقامات...
وبعبارة مختصرة يمكن القول: إنّ السلوك عبارة عن الطريقة التي ينتهجها الشخص للوصول إلى المقصد والغاية, أي الله تعالى. فكلّ عارف إذا كان يعمل لأجل القرب من الله والفناء فيه، فلا بدّ أن يتّبع طريقة محددة توصله إلى المقصود، وليس إلى سواه.
وبما أنّ العرفاء يعتقدون بأنّ كافّة الموجودات تسير نحو التكامل، وتتّبع طريقاً معيّنًا في الوصول إليه، فليس السير والسلوك مختصّاً بالإنسان، بل كافة المخلوقات تتوجّه إليه، وتطلب الوصول إليه.
- حقيقة السلوك عند العرفاء ؟
يبيّن العرفاء أنّ السلوك هو الطريقة التي يقطع بها السالك المسير للوصول إلى الحقّ تعالى، ويضيفون بأنّ هذا السلوك هو في الحقيقة سلوك معنوي، أي إنّه يتمّ بواسطة النفس وليس البدن، ويوضّحون أنّ سلوك النفس ومسيرها يقع ضمن أربع مراحل أطلقوا عليها الأسفار الأربعة، أي الرحلات الأربع، وهي:
الأوّل: السير إلى الله من منازل النفس والوصول إلى الأفق المبين. هنا يفترض أن ينسى الإنسان الظاهر المادي، وينطلق نحو الباطن المعنوي المختزن فيه.
الثاني: السير في الله بالاتّصاف بصفاته، والتحقّق بأسمائه، والوصول إلى الأفق الأعلى، وهو نهاية الحضرة الواحدية.
الثالث: الترقّي إلى عين الجمع والحضرة الأحدية، وهو المسمّى عندهم بقاب قوسين.
الرابع: هو مقام زوال الاثنينية، والبقاء بالله بعد الفناء فيه.
- شروط السلوك ؟
تحدّث العرفاء عن مجموعة من الشروط التي يجب توافرها ليتمكّن العارف من السلوك نحو الحقّ تعالى، وأبرز هذه الشروط:
المناسبة بين الحقّ والخلق
يقصد العرفاء من المناسبة مطلق العلاقة والارتباط بين شيئين، وهي أمر ضروري بين المحبّ والمحبوب. والمناسبة أعمّ من المجانسة، وتتحقّق بمحض الارتباط. يعتقد أنّ العقل السليم يحكم بأنّه لو لم يكن بين الحقّ والخلق مناسبة أصلاً، لم يمكن تصوّر محبّة بينهما، وإذا كانت المحبة قائمة لم يكن بدٌ من وجود مناسبة بأيّ شكل وقعت، وعلى أيّ نحو تحقّقت .
والمناسبة لا بدّ أن تحصل من جانب الخلق، لا من جانب الخالق, لاستحالة أن يحصل التبدّل في ذاته، هذا الإنسان الذي يجب أن ينزّه نفسه ويحصّنها لتصبح في مقام التناسب مع الخالق.
وقد حدّد العرفاء المناسبة من وجهين:
الأول: أنّ الكثرة والتغيّر وكلّ ما يحيط بالعبد من خصائص لا يؤدّي إلى إيجاد تغيير في الحقّ تعالى.
الثاني: أن يتّصف العبد بصفات الحقّ، ويتحقّق بأسمائه كلّها. وقد أشار العرفاء إلى إمكان تحقّق الأمرين معًا. فلا بدّ للعارف من التعالي والترفّع عن حدود البشرية إلى صقع عالم القدس وحضرة التجرّد المحض على أساس أنّ المحبّ يجب أن يعمل كلّ جهده للوصول إلى المحبوب، ولا بدّ لذلك من الاتّصاف بصفات المحبوب وكمالاته
- قمع هوى النفس ؟
إنّ هوى النفس هو الذي يجعل النفس تميل نحو شهواتها ومقتضياتها الطبيعية البدنية، وإذا مالت النفس إلى ذلك جذبت القلب إليها، فيموت وتنعدم حياته الحقيقية العلمية بالجهل. وأمّا إذا تمكّن السالك من إزالة النفس عن الميل للهوى، انصرف القلب إلى عالم القدس والنور والحياة الذاتية التي لا تقبل العدم والموت أصلاً. وإلى ذلك أشارت الآية الشريفة: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَ﴾. أنّ إماتة النفس وأبعادها عن الهوى هو الذي يعبّر عنه بالتوبة، بمعنى أنّ من تاب فقد قتل نفسه وأماتها بالموت الإرادي الاختياري بقمع الهوى والشهوة .
- الشيخ والمرشد ؟
يعتقد العرفاء أنّ السلوك لا يستقيم إلا إذا تمّ بمساعدة شيخ ومرشد، باعتباره أنّه الإنسان الكامل في الرؤية العرفانية، والسبب في ذلك أنّه مطّلع على الحقائق وعارف بالمقامات وكيفية قطعها والانتقال من واحد إلى آخر، وأنّه يمتلك القدرة على تعريف السالك وإيقافه في المواقف وإيصاله إلى المطالب من دون تعب ولا عناء، وهو الذي يعرف أيسر الطرق وأسهلها في الوصول وبه يَطْمئِنُ السالك إلى وصوله .
يقول اهل المعرفة: "أما لو قصد السالك الطالب الغاية بنفسه، ومن دون معاونة شيخ، فإنّه يحتاج إلى معاناة. وربما سلك طرقًا متعدّدة لم يستطع أن يميّز الأصلح بينها، وربّما سلك طريقاً معتقدًا صلاحه فبان له بعد جهد ومزاولة أنّه لا يؤدّي إلى شيء فسلك غيره، فإن وصل فلا بدّ أن يكون ذلك بعد جهد وعناء، وربّما لم يوصله شيء ممّا سلكه من طرق إلى مقصوده".
- رفع الحجب ؟
إذا كان لا بدّ للسالك من السير نحو الكمال فقد يعترض طريقه بعض الحجب التي تمنعه عن رؤية المحبوب الحقيقي, إذ عدم رؤيته يمنع الشهود القلبي. لذلك لا يمكن للعارف الوصول إلا إذا رفع الحجب. ويقصد العرفاء من الحجب والموانع، الأخلاق الذميمة كلّها وقبائح الصفات والملكات الرديئة. وأمّا وسائل الإزالة فكثيرة عندهم، ومن أبرزها: ترويض النفس على الفضائل، وتعويدها على محاسن السلوك وجميل الصفات، وكبح جماح النفس وقمع هواها، وكذلك العزلة والخلوة والعمل بمقتضى التكاليف الشرعية والتزامها.
هذه مقدمة موجزة لبعض طلاب هذا الطريق وهي من ضمن سلسلة متكاملة البنيان .
وهي بأسلوب مرن يصلح للثقافة العامة
مع خالص دعائي ومنياتي
واعلم أن جميع ما يحل ببني آدم من مصائب ناشئ من الإرث الشيطاني. فهو أصل الفتنة، وربما تشير الآية الكريمة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}، في بعض مراحلها ومستوياتها إلى الجهاد الأكبر، وقتال أساس الفتنة وهو الشيطان وجنوده. ولهؤلاء فروع وجذور في أعماق قلوب بني الإنسان كافة، وعلى كل إنسان أن يجاهد حتى لا تكون فتنة داخل نفسه وخارجها، فإذا حقَّق هذا الجهادُ النصرَ؛ صلحت الأمور كافة وصلح الجميع .
إن الغاية التي من أجلها سعى وجاهد جميع الأنبياء والرسل، وكذا الأولياء والأوصياء والصالحون، لا تخرج في حقيقتها عن هدفية واحدة تربية الإنسان وهدايته في مسيرته من عالم التراب إلى عالم الملكوت الأعلى بهدف يتمثَّل في تشكيل المجتمع وإعداد بيئة لا يعبد فيها غير الله تعالى، فتزيل أنوارُ العبودية والإخلاص والإيمان بالغيب، ظلمةَ الأهواء النفسانية والشهوات الدنيوية، وتضيء أنظارَ البشرية بنور جمال الحقّ في عالم الوجود، وتعيد حاكمية التوحيد وأبعاده المتعالية في مختلف العلاقات والنشاطات الإنسانية. ومثل هذا لا يتيسَّر إلَّا بتزكية النفس، الشيء الذي يجهله حكام الشرق والغرب، ويتعطَّش إليه عالم اليوم المنهك حيث يكون الإنسان متحرّكًا تحرُّكًا عموديًّا في طريق السير والسلوك إلى الحق تعالى، بغاية الوصول إلى مقام لا يرى في الوجود غيره تعالى .
إن العرفان ليس إلَّا ذلك السعي المخلص من العبد في دنياه من أجل التحرُّر من صنميّة الذّات وقهرية النفس، وممكن ان نسميه ، بالهجرة من النفس إلى الله، حيث يعزم الإنسان على الخروج من بيت النفس وظلمانيتها، وينطلق صادقًا مهاجرًا إلى الله ورسوله، متحرّرًا من أسر الدّنيا والطبيعة وسيطرة النفس والشهوات والغرائز، ومن أنانيته الضيقة، إلى مراتب ما يعرف عند العرفانيين بـ«الموت المطلق» التي لا يعود فيها شيء من أنفسهم .
ويتحقَّق الابتعاد عن بيت النفس أو بئرها العميقة التي تجعل الإنسان لا يرى إلَّا نفسه، ولا يقيم وزنًا إلَّا لها، ولا يفكر إلَّا فيها. بما يجعل منها أعدى الأعداء وهي أسوأ من كل الأعداء وأكبر من كل الأوثان بل هي أم الأوثان؛ لأن الإنسان يعبدها أكثر من سائر الأوثان ويتوجَّه إليها أكثر من سائر الأوثان، وما لم يحطم هذا الوثن فلا يستطيع أن يصبح إلهيًّا؛ إذ لا يمكن الجمع بين الله وبين الوثن، ولا يمكن الجمع بين الأنانية والإلهية .
فيجب على الانسان أن يركّز على ضرورة الانتباه إلى هذا الخطر الكبير، وضرورة المعرفة الدقيقة والواعية بأقرب الأعداء إلى الإنسان، وهي النفس التي بين الجنب، والعمل على مراقبتها وتتبّع أساليبها المتنوِّعة في الإيقاع بالإنسان والسقوط به في مدارك الجهالة والظلمانية والغفلة ، معتمدين على منهجية وسلوك طريق الحق دون الاعتماد على ذات الانسان واهوائه .
فكيف للإنسان العادي أن يدَّعي الاستقلالية والاعتماد على ذاته في السير إلى الله وسلوك طريق العرفان الخاص من دون هداية وترشيد دقيق وواضح من الأئمة العارفين العالمين بأسرار ذلك؟! مثلما أن كثيرًا من العلوم والمعارف المادية نبغ فيها الإنسان وأعطى فيها الشيء الكثير وحقَّق إنجازات لم تكن متوقَّعة ولا محتملة، لكنها لم تصبَّ سوى في طريق النقيصة والشرور المنافيين لحقيقة الكمال وغاياته المرجوة.
يمكن أن نختزل جميع معاني العرفان وكل مدلولاته وأبعاده، وجميع تفاصيله، مهما اختلفت المنطلقات والدراسات المنظور منها إليه، سيان إن كانت مدرسية تعريفية تبسيطية، أو كانت أكاديمية معمّقة وتخصُّصية، تبحث في تفاصيل العرفان ومصاديقه. فجميع المعاني يمكن أن تؤول إلى حقيقة معرفة الله التي تتوفَّر في ظلِّها سعادة الدنيا والآخرة .
لذا فإن سلوك طريق المعرفة الروحية وطريق العرفان يجب أن يكون مؤسسًا ومحكومًا ومستندًا في تفاصيله إلى معارف الوحي بما هو قرآن وسنة والائمة الهداة السبيل الأوحد الذي يحقّق الإحاطة بتمام التكامل للإنسانية والآفاق الممكنة لها، وهو أمر لا يحيط به وبتفاصيله العقل البشري الفطري المحدود، ولا العقل التجريبي ولا العقول الأخرى .
- العرفان العملي (السير والسلوك) ؟
يعتقد العرفاء أنّ لكلّ موجود من الموجودات حركة بها يطلب كماله، لا فرق في ذلك بين الموجودات السفلية المنتمية إلى عالم المادة، والعلوية الروحانية، حيث تسير بأجمعها إلى غاياتها الكمالية. وأعظم مقصد لها هو الحقّ تعالى، فهو غاية الغايات ومقصد المقاصد ونهاية النهايات. وقد أشارت العديد من الآيات الشريفة إلى هذه الحقيقة وأمّا سبب التوجّه نحو الله تعالى، فهو لأجل معرفته وعبادته بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ .
- تعريف السير والسلوك ؟
إنّ الوصول إلى المقصد الأعلى يقتضي اجتياز المنازل والمراحل والمقامات، وهذا ما يسمّى، في لسان العرفاء بالسير والسلوك وقد عرفوا السير والسلوك فقالوا.
السلوك هو العلم والبرنامج الذي يُبْحث فيه عن كيفية منازل السير نحو القرب الإلهي وخصائصه4. والسلوك بهذا المعنى هو طيّ الطريق، أمّا السير كما يعبّر صاحب لبّ اللباب عبارة عن مشاهدة آثار وخصائص المنازل والمراحل أثناء الطريق .
وقيل في تعريف السلوك أيضاً إنّه: هيئة نفسية روحية للترقّي والتكامل، والانتقال في الأصول والمقامات...
وبعبارة مختصرة يمكن القول: إنّ السلوك عبارة عن الطريقة التي ينتهجها الشخص للوصول إلى المقصد والغاية, أي الله تعالى. فكلّ عارف إذا كان يعمل لأجل القرب من الله والفناء فيه، فلا بدّ أن يتّبع طريقة محددة توصله إلى المقصود، وليس إلى سواه.
وبما أنّ العرفاء يعتقدون بأنّ كافّة الموجودات تسير نحو التكامل، وتتّبع طريقاً معيّنًا في الوصول إليه، فليس السير والسلوك مختصّاً بالإنسان، بل كافة المخلوقات تتوجّه إليه، وتطلب الوصول إليه.
- حقيقة السلوك عند العرفاء ؟
يبيّن العرفاء أنّ السلوك هو الطريقة التي يقطع بها السالك المسير للوصول إلى الحقّ تعالى، ويضيفون بأنّ هذا السلوك هو في الحقيقة سلوك معنوي، أي إنّه يتمّ بواسطة النفس وليس البدن، ويوضّحون أنّ سلوك النفس ومسيرها يقع ضمن أربع مراحل أطلقوا عليها الأسفار الأربعة، أي الرحلات الأربع، وهي:
الأوّل: السير إلى الله من منازل النفس والوصول إلى الأفق المبين. هنا يفترض أن ينسى الإنسان الظاهر المادي، وينطلق نحو الباطن المعنوي المختزن فيه.
الثاني: السير في الله بالاتّصاف بصفاته، والتحقّق بأسمائه، والوصول إلى الأفق الأعلى، وهو نهاية الحضرة الواحدية.
الثالث: الترقّي إلى عين الجمع والحضرة الأحدية، وهو المسمّى عندهم بقاب قوسين.
الرابع: هو مقام زوال الاثنينية، والبقاء بالله بعد الفناء فيه.
- شروط السلوك ؟
تحدّث العرفاء عن مجموعة من الشروط التي يجب توافرها ليتمكّن العارف من السلوك نحو الحقّ تعالى، وأبرز هذه الشروط:
المناسبة بين الحقّ والخلق
يقصد العرفاء من المناسبة مطلق العلاقة والارتباط بين شيئين، وهي أمر ضروري بين المحبّ والمحبوب. والمناسبة أعمّ من المجانسة، وتتحقّق بمحض الارتباط. يعتقد أنّ العقل السليم يحكم بأنّه لو لم يكن بين الحقّ والخلق مناسبة أصلاً، لم يمكن تصوّر محبّة بينهما، وإذا كانت المحبة قائمة لم يكن بدٌ من وجود مناسبة بأيّ شكل وقعت، وعلى أيّ نحو تحقّقت .
والمناسبة لا بدّ أن تحصل من جانب الخلق، لا من جانب الخالق, لاستحالة أن يحصل التبدّل في ذاته، هذا الإنسان الذي يجب أن ينزّه نفسه ويحصّنها لتصبح في مقام التناسب مع الخالق.
وقد حدّد العرفاء المناسبة من وجهين:
الأول: أنّ الكثرة والتغيّر وكلّ ما يحيط بالعبد من خصائص لا يؤدّي إلى إيجاد تغيير في الحقّ تعالى.
الثاني: أن يتّصف العبد بصفات الحقّ، ويتحقّق بأسمائه كلّها. وقد أشار العرفاء إلى إمكان تحقّق الأمرين معًا. فلا بدّ للعارف من التعالي والترفّع عن حدود البشرية إلى صقع عالم القدس وحضرة التجرّد المحض على أساس أنّ المحبّ يجب أن يعمل كلّ جهده للوصول إلى المحبوب، ولا بدّ لذلك من الاتّصاف بصفات المحبوب وكمالاته
- قمع هوى النفس ؟
إنّ هوى النفس هو الذي يجعل النفس تميل نحو شهواتها ومقتضياتها الطبيعية البدنية، وإذا مالت النفس إلى ذلك جذبت القلب إليها، فيموت وتنعدم حياته الحقيقية العلمية بالجهل. وأمّا إذا تمكّن السالك من إزالة النفس عن الميل للهوى، انصرف القلب إلى عالم القدس والنور والحياة الذاتية التي لا تقبل العدم والموت أصلاً. وإلى ذلك أشارت الآية الشريفة: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَ﴾. أنّ إماتة النفس وأبعادها عن الهوى هو الذي يعبّر عنه بالتوبة، بمعنى أنّ من تاب فقد قتل نفسه وأماتها بالموت الإرادي الاختياري بقمع الهوى والشهوة .
- الشيخ والمرشد ؟
يعتقد العرفاء أنّ السلوك لا يستقيم إلا إذا تمّ بمساعدة شيخ ومرشد، باعتباره أنّه الإنسان الكامل في الرؤية العرفانية، والسبب في ذلك أنّه مطّلع على الحقائق وعارف بالمقامات وكيفية قطعها والانتقال من واحد إلى آخر، وأنّه يمتلك القدرة على تعريف السالك وإيقافه في المواقف وإيصاله إلى المطالب من دون تعب ولا عناء، وهو الذي يعرف أيسر الطرق وأسهلها في الوصول وبه يَطْمئِنُ السالك إلى وصوله .
يقول اهل المعرفة: "أما لو قصد السالك الطالب الغاية بنفسه، ومن دون معاونة شيخ، فإنّه يحتاج إلى معاناة. وربما سلك طرقًا متعدّدة لم يستطع أن يميّز الأصلح بينها، وربّما سلك طريقاً معتقدًا صلاحه فبان له بعد جهد ومزاولة أنّه لا يؤدّي إلى شيء فسلك غيره، فإن وصل فلا بدّ أن يكون ذلك بعد جهد وعناء، وربّما لم يوصله شيء ممّا سلكه من طرق إلى مقصوده".
- رفع الحجب ؟
إذا كان لا بدّ للسالك من السير نحو الكمال فقد يعترض طريقه بعض الحجب التي تمنعه عن رؤية المحبوب الحقيقي, إذ عدم رؤيته يمنع الشهود القلبي. لذلك لا يمكن للعارف الوصول إلا إذا رفع الحجب. ويقصد العرفاء من الحجب والموانع، الأخلاق الذميمة كلّها وقبائح الصفات والملكات الرديئة. وأمّا وسائل الإزالة فكثيرة عندهم، ومن أبرزها: ترويض النفس على الفضائل، وتعويدها على محاسن السلوك وجميل الصفات، وكبح جماح النفس وقمع هواها، وكذلك العزلة والخلوة والعمل بمقتضى التكاليف الشرعية والتزامها.
هذه مقدمة موجزة لبعض طلاب هذا الطريق وهي من ضمن سلسلة متكاملة البنيان .
وهي بأسلوب مرن يصلح للثقافة العامة
مع خالص دعائي ومنياتي