بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المتقين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم إلى يوم الدين... وبعد:
الإسلام هو الدين الحق، والنعمة التامة، والشِّرْعة والمنهاج الذي رضيه الله لخير أمة أخرجت للناس، قال الله تعالى: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا » [المائدة:3]، والإسلام رسالة عالمية موجهة إلى البشرية كلها، قال الله تعالى: « تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا » [الفرقان:1]، ولفظ العالمين يتناول جميع المكلفين من الإنس والجن، ويفيد أنه رسول للخلق إلى يوم القيامة، يقول ابن كثير رحمه الله: «خص الله النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء، ويستقل على الغبراء، كما قال صلى الله عليه وسلم: بُعثت إلى الأحمر والأسود». وقال صلى الله عليه وسلم: «أُعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي». فذكر منهن: أنه «كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة». [تفسير ابن كثير ج3/424].
ولذلك فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من عبدٍ إلا الإسلام، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: « وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ » [آل عمران:85]، والآية أفادت أن الدين ليس إلا الإسلام، وأن غيره لا يكون مقبولاً عند الله، وصاحبه من الخاسرين في الدنيا والآخرة؛ بتأسفه وتحسره على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح، وحرمان الثواب، وحصول العقاب في الدار الآخرة.
وقد عقد الإمام مسلم في صحيحه بابًا حول هذا المعنى، قال فيه: «باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته». ثم ساق تحته حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار».
والمعنى: أن كل من كان موجودًا في زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة يجب عليه الدخول في طاعته، قال النووي رحمه الله: «وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهًا على من سواهما؛ وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابًا، فغيرهم ممن لا كتاب له أولى، والله أعلم». [شرح النووي على مسلم 2/188].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على هداية الخلق إلى الحق، ودعوة جميع الناس إليه، مع الرحمة والشفقة عليهم، وقد أمره الله تعالى بالدعوة إلى هذا الدين، والإعراض عن السفهاء المشركين، قال الله تعالى: « فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ » [الحجر:94]، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بتلبية أمر ربه خير قيام، رغبةً في إسلام الناس ونجاتهم.
يقول الدكتور أكرم العمري: «وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على الاستبقاء على حياة قريش، ويأمل في إسلامهم، وإفادة الدعوة منهم، فالناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وقريش من أكثر العرب فصاحة وذكاء وخبرة ومكانة، وابتغاؤها للإسلام فيه خير عظيم للدولة والدعوة، كما برهنت الأيام، وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يتحسر عليهم؛ لعناد قريش وفنائها في الحرب مع المسلمين، فيقول: «يا ويح قريش، أكلتهم الحرب، ماذا لو خلوا بيني وبين الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟! والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله حتى يُظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة». [السيرة النبوية الصحيحة 2/438].
ومع كل هذا الحرص لم يقبل جمع من المشركين هذه الهداية، وأبوا الانصياع لصوت الحق ونداء الفطرة، وأعلنوا حربًا شديدة على التوحيد وأهله، وأوغلوا في إيذاء المؤمنين والتضييق عليهم، وصبوا عليهم ألوانًا من الأذى والضرر.
وتحدثنا كتب التاريخ والسير عن وسائل العنف والتنكيل بالمؤمنين كصهيب وبلال، وياسر، وخباب وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
كما أكثر مشركو قريش من الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، ووسموه بسمات باطلة؛ كالسحر والجنون، وضربوا عليه وعلى أتباعه حصارًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا، فكانوا لا يبايعونهم ولا ينكاحونهم، واستمر ذلك الحصار ثلاث سنوات كاملة، ومع كل ذلك فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على هدايتهم واستنقاذهم من ظلمات الشرك والجاهلية، شديد الأسف على كفرهم وبغيهم، كما قال القرآن عنه: « فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا » [الكهف:6]، وقال تعالى له: « فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ » [فاطر:8]، والمعنى: لا تُهلك نفسك حزنًا على ضلالهم وعدم اتباعهم لك، ودخولهم في دينك الذي أُرسلت به.
ولما لم يرجع المشركون عن غيهم وضلالهم وبغيهم، أذن الله للمؤمنين في القتال؛ وذلك لتعبيد الناس لله وتوحيده سبحانه وحده دون سواه، وإقامة دينه وشرعه، كما قال الله تعالى: « وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » [الأنفال:39]، قال الطبري في تفسير الآية: «فقاتلوهم حتى لا يكون مشرك، ولا يُعبد إلا اللهُ وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض، وهو الفتنة، ويكون الدين كله لله، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره». [تفسير الطبري 9/162].
ومن هنا كان من أخص خصائص الجهاد في الإسلام أنه في سبيل الله، فالمؤمن يجاهد لله وفي سبيله، لا يسعى في ذلك لمكسبٍ أو منصب أو مغنم، ولعلنا نلاحظ أن كلمة الجهاد في القرآن الكريم تقترن غالبًا بـ«في سبيل الله»، قال الله تعالى: « وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا » [النساء:75]، وقال تعالى: «وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ الله» [البقرة:218]، وأكدت السنة هذا المعنى في أحاديث كثيرة، منها ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يُخرجه إلا الجهادُ في سبيله وتصديق كلماته بأن يُدخله الجنة، أو يُرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة». [البخاري 7457].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل حميةً، ويقاتل شجاعةً، ويقاتل رياءً، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله». [البخاري 7458].
ومع هذا المقصد والهدف السامي للجهاد في الإسلام، كان المسلمون يعرضون الدعوة إلى الإسلام أولاً قبل الشروع في القتال؛ لأنهم يرغبون في هداية البشر وعودتهم إلى الله، وحتى تُقام الحجة على العباد، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلماته شاهدةٌ بذلك، ففي مسند أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا حتى يدعوهم». [مسند أحمد 1/231].
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدروا، ولا تمثُلُوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم وكُفّ عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم». [مسلم: 1731].
وهذه الكلمات تبين بجلاء ووضوح أن القتال في الإسلام لا يكون إلا بعد الإعذار والإنذار، وعرض الدعوة على المخالفين رغبةً في الدخول في الدين، وصيانة للأنفس والممتلكات، فإن أبوا إلا الحرب والقتال فيكون ذلك باختيارهم لا باختيارنا، وهم الذين ألجأونا إليه، ثم إذا وقعت الحرب بعد ذلك كانت حربًا رحيمة في التعامل مع المخالفين حتى في ميدان المعركة؛ حيث يُمنع فيها قتل الشيوخ والنساء والأطفال والرهبان، أو التمثيل بقتيل، أو قطع شجر أو حرق زرع، وقد اعترف بعضهم بعظمة الإسلام في ذلك، فقال الدكتور «جوستاف لوبون»: «لم يعرف العالم فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب». [حضارة العرب: 720].
وهذه كلمة حق، وشهادة صدق لهذا الدين وأتباعه، ولذلك فإني أوجّه للعالم نداءين في هذا المقام:
الأول: لأمة الإسلام، داعيًا إياهم إلى التمسك بهذا الدين، والاعتزاز بالانتساب إليه، والعمل بأحكامه وشرائعه، والدفاع عنه في وجه أعدائه، ودعوة جميع الناس إليه بالقول والعمل.
والثاني: دعوة صادقة إلى كل من لم يدخل في الإسلام بضرورة الدخول فيه، فهو الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد سواه، وهو الذي يحفظ كرامة الإنسان، ويحقق لأتباعه السعادة في الدارين، وإن شقاء البشرية اليوم لهو بسبب البعد عنه، فلا تخافوا منه، وادخلوا فيه: « وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ » [لقمان:22].
وختامًا أقول: الإسلام أهدى سبيلاً، وأقوم طريقًا، فهلموا إليه أفرادًا وجماعات.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.