المتحابون في الله
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين وصلى الله على محمّدٍ الطّاهِر الأمِين وعلى ءاله الطّيّبِين وصَحابَتِه الكِرام الميامِين
أمّا بَعدُ فإنّ اللهَ تَبارك وتعالى قال:"ألا إنّ أَولياءَ اللهِ لا خَوفٌ عَليهِم ولا هُم يحزَنُون"
وروِّينا في صَحيحِ ابنِ حِبان مِن حديثِ أَبي هريرةَ رضيَ الله عنهُ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنّ مِن عِبادِ اللهِ عِبادًا لَيسُوا بأنبياءَ يَغبِطُهُمُ النّبِيُّونَ والشّهداء"قَالُوا مَن هُم لعَلَّنا نحِبُّهُم، قال "قَومٌ تحَابُّوا بنُورِ اللهِ لَيسَ بَينَهُم أَرحَامٌ ولا أَنسَابٌ وجُوهُهُم نُورٌ عَلى مَنابِرَ مِن نُورٍ"ثم قَرأ{ألا إنَّ أَولياءَ اللهِ لا خَوفٌ عَليهِم ولا هُم يَحزَنُون}
ورُوّينا في صحيحِ ابنِ حِبّان مِن حديثِ مُعاذِ بنِ جَبل رضي اللهُ عنه قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ عن رَبِّه: حَقَّتْ مَحَبَّتي عَلى المتَزاوِرِينَ فيّ وحَقَّتْ مَحَبَّتي على المتَحَابِّينَ فيّ وحَقَّتْ مَحبَّتي على المتَناصِحينَ فيّ وحَقَّت مَحبَّتي على المتَباذِلينَ فيّ، وجُوهُهم نُورٌ على مَنابِرَ مِن نُورٍ يَغبِطُهُمُ الأنبياءُ والشُّهَداءُ والصِّدِّيقُونَ لا يَخافُونَ إذَا خَافَ النّاسُ ولا يَحزَنُونَ إذَا حَزِنَ النّاسُ"
ووَردَ في حَديثٍ صَحيحٍ ءاخَرَ رواه الحاكم في بَيانِ صِفَةِ مَرتَبتِهم أنهم تصَافَوا فيمَا بَينَهُم، وأنهم يَنتَقُونَ أطَايِبَ الكَلامِ كمَا يَنتَقِي ءاكِلُ التّمرِ أطَايِبَهُ"كمَا وَردَ ذَلكَ في حَديثٍ رَواهُ الطّبرانيّ ، هؤلاءِ أَولياءُ اللهِ تحَابُّوا بنُورِ اللهِ أي مِن أَجْلِ اللهِ،لَيسَ بَينَهُم أَرحَامٌ تَجمَعُهُم ولا أَنسَابٌ تَجمَعُهُم إنما تَحابُّوا لِوَجْهِ اللهِ، وصَفَهُمُ الرّسُولُ بهذا وبأنهم يختَارُونَ مِنَ الكَلامِ أطْيَبَ الكَلام أي مَا فيهِ فَائدةٌ، أي يَترُكونَ اللّغوَ والغَشّ والمداهَنةَ،لا يتَعامَلُونَ بالمداهنَةِ،مَا هيَ المدَاهَنة؟هيَ تحسِينُ البَاطِل وتَزيِينُه كما يَفعَلُ الرّجُل معَ الرّجُل لأنّه صَدِيقُه أو لأنّهُ قَريبُه أو لأنّه يَرأَسُه، بل يتَعامَلُونَ مُعامَلَةً صَافِيةً في دِينِ اللهِ لا يُخالِطُها غَشّ ولا مُداهَنةٌ، مِن شَأنهِم أنهم لا يُداهِنُ بَعضُهم بعضًا لأنّ هؤلاء الجامِع لهم الذي جمَعَ بَينَهُم هو التّعَاوُنُ في مَرضَاةِ الله، ليسَ هَمُّهم التّعاوُن للوُصولِ إلى مَطْمَعٍ دُنيَوِيّ، ليسَ همُّهم المعصيةُ أي مسَاعَدةُ الأقرباءِ على الظُّلم.
فيُفهَمُ مِن قَولِه صَلّى اللهُ علَيهِ وسَلّم:تحَابُّوا بِنُورِ اللهِ" أَنّهُ لَيسَ سَبَبُ التّحَابِّ بَينَهُم مَالٌ ولا وظِيفَةٌ ولا قَرابَةٌ ولا تمَادُحٌ أي مُقَابَلَةُ المدحِ بالمدحِ مِن أَجلِ حُظُوظِ أَنفُسِهم،وأُخِذَ مِن هَذا الحدِيثِ أنهم لا يَكتُم بَعضُهم بَعضًا مَا فِيهِ النُّصحُ لهم بلْ يُخلِصُ بَعضُهم لبَعضٍ النُّصحَ لأنّ الإنسَانَ إذَا كانَ همُّه مَرضَاةَ اللهِ يَكونُ محَلُّ نظَرهِ إرضَاءَ اللهِ فمِن شَأنهِم أَنهم لا يُزَيِّنُ بَعضُهم البَاطِلَ لبَعضٍ مُراعَاةً للخَاطِر كمَا يَفعَلُ هؤلاءِ الذينَ تَجمَعُهم المطَامِعُ الدُّنيَويةُ فَإنهم يَتبَادَلُونَ التّعاونَ على الظُّلمِ والمعصِيةِ، هَذا يُراعِي خَاطِرَ هَذا لما فيهِ مَعصِيَةُ اللهِ وهَذا يُراعِي خَاطرَ ذَاكَ لما فيه مَعصِيةُ اللهِ،كذَلكَ يَفعَلُ صُوفِيّةُ الرِّجْسِ صُوفِيّةُ الكَذِبِ والخِيانَةِ، صُوفِيّةُ التّدجِيلِ فإنّ بَعضَهُم يُدَاهِنُ بعضًا، وهؤلاء صُوفِيةُ الرِّجسِ زادُوا تمويهًا على النّاسِ يُوهِمُونَ النّاسَ أَنهم يتَحَابُّونَ في تَقوى اللهِ وهُم يتَحابُّونَ مِن أَجلِ تَأيِيدِ باطِلهمُ الذي يجتَمِعونَ علَيهِ، يُعَاونُ بَعضُهُم بَعضًا،لذَلكَ تَجِدُونهم إذا خَاصَمَهُم أحَدٌ وشَاجَر إنسَانًا غَيرَه يَأتي الآخَرُونَ لمسَاعَدَتِه على باطِله،على ظُلْمِه، يتَسَاعَدُونَ على نُصْرَةِ ضَلالِه والبَاطلِ الذي يَجمَعُهم، ويَدَّعُونَ معَ ذَلكَ أَنهم أَهلُ الذِّكرِ وأهلُ الطّريقةِ، أهلُ الذِّكرِ هُم هؤلاء الذينَ وصَفَهُمُ الرسولُ أنهم تحَابُّوا مِن أَجلِ الله لا مِن أَجلِ عَصَبِيّةٍ ولا قَرابةٍ ولا مَال ولا صَداقَةٍ بل كانَ تَعاونُهُم على التّحقُّق مِن طَاعةِ اللهِ يتَجَنّبُونَ اللّغوَ أي الكلامَ الفَاسِدَ ويَنتَقُونَ الكلامَ الحسَنَ الذي فيهِ طَاعةٌ للهِ كمَا يَنتَقِي ءاكِلُ التّمرِ أَطَايِبَهُ، التّمرُ يُجمَعُ مِنهُ الجَيّدُ والرّدِيءُ فآكِلُ التّمرِ يَنتَقِي مِن بَينِ الحَبّاتِ الحَبّاتِ الجَيِّدَة،كذلكَ أَهلُ الذِّكرِ يَنتَقُونَ الكلامَ الحسَنَ ويَترُكُونَ الكلامَ الرّدِيء، ليسَ أهلُ الطّريقةِ مَن يتَعاوَنُونَ لتَأيِيدِ الهَوى الذي يَنتَسِبُونَ إليهِ،ولكنّ هَواهُم يُسَمُّونَهُ باسمِ الدّينِ طَرِيقَةً وتَصَوُّفًا،وهوَ ليسَ مِنَ التّصَوُّف بشَىءٍ، ولا هوَ مِنَ الذِّكرِ الذي يَنبَغِي أن يُتعَاوَنَ عَليهِ، فأَحيانًا يُخرِّبُونَ ظَاهرَ الذِّكرِ وأَحيانًا يخرِّبُونَ بَاطِنَهُ، فهؤلاءِ ليسَ لهم حَظٌّ مما وَرَدَ في هَذا الحدِيثِ مِن أَنهم يكونُونَ يومَ القِيامةِ عَلى مَنابرَ مِن نُورٍ ووجُوهُهُم نُورٌ لا يكونُونَ على وجُوهِهم كآبةٌ، بل تَكونُ وجُوهُهم مُكفَهِرّةً، إنما الذينَ يَكُونُونَ على وجُوهِهم نُورٌ هُم الذينَ يجتَمِعُونَ للتّعَاوُنَ على طَاعةِ اللهِ لأنّ التّعَاونَ لهُ أَثَرٌ على قُوّةِ العَزِيمةِ إذا كانَ القَصدُ طَاعة الله.
ثمّ هؤلاءِ الذينَ يتَعامَلُونَ بالغَشِّ يَدَّعُونَ أَنهم صُوفِيّةٌ وهُم يتَعاوَنُونَ على البِدعَةِ والضّلالةِ المخَالِفَةِ لمِا جَاءَ بهِ الرّسولُ يكُونُونَ يومَ القِيامَةِ أَعدَاءً لبَعضِهمُ البَعض قالَ اللهُ تعَالى:الأخِلاءُ بَعضُهم لبَعضٍ عَدُوّ إلا المتّقِين"
أمّا هؤلاءِ اللهُ تَعالى أَكرَمَهُم في الآخِرَةِ بأنْ جَعلَهُم يجلِسُونَ عَلى مَنابِرَ مِن نُورٍ يَومَ القِيامَةِ ووُجُوهُهم مِن نُور ممتَلِئينَ سُرورًا ورِضًى، يُجمَعُونَ قَبلَ دخُولِ الجنَّةِ يَومَ القِيامةِ فيَكُونُونَ بمظهَرٍ حسَنٍ،الأنبياءُ الذينَ هُم أَفضَلُ خَلقِ الله عندَ ربهم والشُّهداءُ يَغبِطُونَ هؤلاءِ الأولياء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنّ مِن عِبادِ اللهِ عِبادًا لَيسُوا بأَنبياءَ"
اشتَاقَ الصّحابةُ لمعرفَةِ صِفاتِ هؤلاءِ فطَلبُوا مِن رسولِ اللهِ أن يُبَيِّنَ لهم صِفاتهِم فقَالُوا يا رسُولَ اللهِ مَن هُم لعَلَّنَا نُحِبُّهم فقال لهم:إنهُم قَومٌ تحَابُّوا بنُورِ الله"أي مِن أَجْلِ اللهِ ومِن أَجلِ طَاعَتِه، ولا يَغُشُّ بَعضُهم بَعضًا كمَا يَفعَلُ صُوفِيّةُ الرِّجْسِ، صُوفِيّةُ الرِّجسِ أَحَدُهم يظَلُّ الشّخصُ تحتَ يَدِه بحُجّةِ أنّه مُريدُه فلا يتعَلّمُ مِنهُ شَيئًا مِن أُمُورِ العقِيدةِ ولا مِن أمُور الفِقه فيَعِيشُ في ظُلمةٍ ولو كانَ ظَاهرُه الجِسمَانيّ جمِيلا كمَا قالَ القَائلُ:
جمَالُ الوَجهِ مَع قُبحِ النُّفُوسِ
كقِندِيلٍ علَى قَبرِ المجُوسِي
أولئكَ مَا صَدَقُوا اللهَ،انتَسَبُوا إلى الذِّكرِ ولم يَصْدُقُوهُ في ذِكْرِه،بل ذكَرُوه بنِيّةٍ تَعُودُ إلى الدّنيا والتّآنُس بالأصواتِ والحَركاتِ فمِنهُم مَن يَكونُ أُنسُهُ بهذِه الأصواتِ والأنَاشِيدِ المَوزُونَةِ ومِنهُم مَن يَكونُ أُنسُهم بمجَرّد الكَثرةِ مِن أَجلِ الذِّكرِ،مَن لم يَعرِفِ اللهَ لا يَعرِفُ حَقِيقَةَ الذِّكرِ، مَن يَعتَقِدُ في اللهِ أنّهُ جِسم نُورانيّ أو أنّ لهُ رأسًا هَذا ما عَرفَ اللهَ،هَذا كيفَ يكونُ لهُ ذِكرٌ مَقبُولٌ،كيفَ يَكونُ ذِكْرُه مُقَرِّبًا لهُ إلى الله،إنما ذِكْرُ اللهِ بَعدَ مَعرفةِ اللهِ،ثم إنّ اللهَ تَعالى ذَكَر عن أحوالِ أولئكَ أنهم لا يخَافُونَ إذَا خَافَ النّاسُ، أي في القَبرِ لَيسَ عَليهِم خَوفٌ ولا وَحْشَةٌ ولا ضِيقٌ، وكذلكَ يَومَ القِيامةِ، أمّا الآخَرِينَ فلَهُم خَوفَانِ خَوفٌ في القَبرِ وخَوفٌ في الآخِرةِ قالَ عليهِ الصّلاةُ والسلام:لا يخافُونَ إذا خَافَ النّاسُ ولا يحزنُونَ إذَا حزِنَ النّاسُ"لأنهم خَافُوا اللهَ في الدُّنيا كمَا يَنبغِي، تَركُوا الكلامَ الخبِيثَ خَوفًا مِنَ اللهِ وسَارَعُوا إلى الفَرائضِ خَوفًا مِنَ اللهِ فكانَت لهم هذِه المِيْزَةُ أنهم لا يخَافُونَ إذا خَافَ النّاسُ ولا يحزَنُونَ إذَا حَزِنَ النّاسُ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمين وصلى الله على محمّدٍ الطّاهِر الأمِين وعلى ءاله الطّيّبِين وصَحابَتِه الكِرام الميامِين
أمّا بَعدُ فإنّ اللهَ تَبارك وتعالى قال:"ألا إنّ أَولياءَ اللهِ لا خَوفٌ عَليهِم ولا هُم يحزَنُون"
وروِّينا في صَحيحِ ابنِ حِبان مِن حديثِ أَبي هريرةَ رضيَ الله عنهُ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنّ مِن عِبادِ اللهِ عِبادًا لَيسُوا بأنبياءَ يَغبِطُهُمُ النّبِيُّونَ والشّهداء"قَالُوا مَن هُم لعَلَّنا نحِبُّهُم، قال "قَومٌ تحَابُّوا بنُورِ اللهِ لَيسَ بَينَهُم أَرحَامٌ ولا أَنسَابٌ وجُوهُهُم نُورٌ عَلى مَنابِرَ مِن نُورٍ"ثم قَرأ{ألا إنَّ أَولياءَ اللهِ لا خَوفٌ عَليهِم ولا هُم يَحزَنُون}
ورُوّينا في صحيحِ ابنِ حِبّان مِن حديثِ مُعاذِ بنِ جَبل رضي اللهُ عنه قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ عن رَبِّه: حَقَّتْ مَحَبَّتي عَلى المتَزاوِرِينَ فيّ وحَقَّتْ مَحَبَّتي على المتَحَابِّينَ فيّ وحَقَّتْ مَحبَّتي على المتَناصِحينَ فيّ وحَقَّت مَحبَّتي على المتَباذِلينَ فيّ، وجُوهُهم نُورٌ على مَنابِرَ مِن نُورٍ يَغبِطُهُمُ الأنبياءُ والشُّهَداءُ والصِّدِّيقُونَ لا يَخافُونَ إذَا خَافَ النّاسُ ولا يَحزَنُونَ إذَا حَزِنَ النّاسُ"
ووَردَ في حَديثٍ صَحيحٍ ءاخَرَ رواه الحاكم في بَيانِ صِفَةِ مَرتَبتِهم أنهم تصَافَوا فيمَا بَينَهُم، وأنهم يَنتَقُونَ أطَايِبَ الكَلامِ كمَا يَنتَقِي ءاكِلُ التّمرِ أطَايِبَهُ"كمَا وَردَ ذَلكَ في حَديثٍ رَواهُ الطّبرانيّ ، هؤلاءِ أَولياءُ اللهِ تحَابُّوا بنُورِ اللهِ أي مِن أَجْلِ اللهِ،لَيسَ بَينَهُم أَرحَامٌ تَجمَعُهُم ولا أَنسَابٌ تَجمَعُهُم إنما تَحابُّوا لِوَجْهِ اللهِ، وصَفَهُمُ الرّسُولُ بهذا وبأنهم يختَارُونَ مِنَ الكَلامِ أطْيَبَ الكَلام أي مَا فيهِ فَائدةٌ، أي يَترُكونَ اللّغوَ والغَشّ والمداهَنةَ،لا يتَعامَلُونَ بالمداهنَةِ،مَا هيَ المدَاهَنة؟هيَ تحسِينُ البَاطِل وتَزيِينُه كما يَفعَلُ الرّجُل معَ الرّجُل لأنّه صَدِيقُه أو لأنّهُ قَريبُه أو لأنّه يَرأَسُه، بل يتَعامَلُونَ مُعامَلَةً صَافِيةً في دِينِ اللهِ لا يُخالِطُها غَشّ ولا مُداهَنةٌ، مِن شَأنهِم أنهم لا يُداهِنُ بَعضُهم بعضًا لأنّ هؤلاء الجامِع لهم الذي جمَعَ بَينَهُم هو التّعَاوُنُ في مَرضَاةِ الله، ليسَ هَمُّهم التّعاوُن للوُصولِ إلى مَطْمَعٍ دُنيَوِيّ، ليسَ همُّهم المعصيةُ أي مسَاعَدةُ الأقرباءِ على الظُّلم.
فيُفهَمُ مِن قَولِه صَلّى اللهُ علَيهِ وسَلّم:تحَابُّوا بِنُورِ اللهِ" أَنّهُ لَيسَ سَبَبُ التّحَابِّ بَينَهُم مَالٌ ولا وظِيفَةٌ ولا قَرابَةٌ ولا تمَادُحٌ أي مُقَابَلَةُ المدحِ بالمدحِ مِن أَجلِ حُظُوظِ أَنفُسِهم،وأُخِذَ مِن هَذا الحدِيثِ أنهم لا يَكتُم بَعضُهم بَعضًا مَا فِيهِ النُّصحُ لهم بلْ يُخلِصُ بَعضُهم لبَعضٍ النُّصحَ لأنّ الإنسَانَ إذَا كانَ همُّه مَرضَاةَ اللهِ يَكونُ محَلُّ نظَرهِ إرضَاءَ اللهِ فمِن شَأنهِم أَنهم لا يُزَيِّنُ بَعضُهم البَاطِلَ لبَعضٍ مُراعَاةً للخَاطِر كمَا يَفعَلُ هؤلاءِ الذينَ تَجمَعُهم المطَامِعُ الدُّنيَويةُ فَإنهم يَتبَادَلُونَ التّعاونَ على الظُّلمِ والمعصِيةِ، هَذا يُراعِي خَاطِرَ هَذا لما فيهِ مَعصِيَةُ اللهِ وهَذا يُراعِي خَاطرَ ذَاكَ لما فيه مَعصِيةُ اللهِ،كذَلكَ يَفعَلُ صُوفِيّةُ الرِّجْسِ صُوفِيّةُ الكَذِبِ والخِيانَةِ، صُوفِيّةُ التّدجِيلِ فإنّ بَعضَهُم يُدَاهِنُ بعضًا، وهؤلاء صُوفِيةُ الرِّجسِ زادُوا تمويهًا على النّاسِ يُوهِمُونَ النّاسَ أَنهم يتَحَابُّونَ في تَقوى اللهِ وهُم يتَحابُّونَ مِن أَجلِ تَأيِيدِ باطِلهمُ الذي يجتَمِعونَ علَيهِ، يُعَاونُ بَعضُهُم بَعضًا،لذَلكَ تَجِدُونهم إذا خَاصَمَهُم أحَدٌ وشَاجَر إنسَانًا غَيرَه يَأتي الآخَرُونَ لمسَاعَدَتِه على باطِله،على ظُلْمِه، يتَسَاعَدُونَ على نُصْرَةِ ضَلالِه والبَاطلِ الذي يَجمَعُهم، ويَدَّعُونَ معَ ذَلكَ أَنهم أَهلُ الذِّكرِ وأهلُ الطّريقةِ، أهلُ الذِّكرِ هُم هؤلاء الذينَ وصَفَهُمُ الرسولُ أنهم تحَابُّوا مِن أَجلِ الله لا مِن أَجلِ عَصَبِيّةٍ ولا قَرابةٍ ولا مَال ولا صَداقَةٍ بل كانَ تَعاونُهُم على التّحقُّق مِن طَاعةِ اللهِ يتَجَنّبُونَ اللّغوَ أي الكلامَ الفَاسِدَ ويَنتَقُونَ الكلامَ الحسَنَ الذي فيهِ طَاعةٌ للهِ كمَا يَنتَقِي ءاكِلُ التّمرِ أَطَايِبَهُ، التّمرُ يُجمَعُ مِنهُ الجَيّدُ والرّدِيءُ فآكِلُ التّمرِ يَنتَقِي مِن بَينِ الحَبّاتِ الحَبّاتِ الجَيِّدَة،كذلكَ أَهلُ الذِّكرِ يَنتَقُونَ الكلامَ الحسَنَ ويَترُكُونَ الكلامَ الرّدِيء، ليسَ أهلُ الطّريقةِ مَن يتَعاوَنُونَ لتَأيِيدِ الهَوى الذي يَنتَسِبُونَ إليهِ،ولكنّ هَواهُم يُسَمُّونَهُ باسمِ الدّينِ طَرِيقَةً وتَصَوُّفًا،وهوَ ليسَ مِنَ التّصَوُّف بشَىءٍ، ولا هوَ مِنَ الذِّكرِ الذي يَنبَغِي أن يُتعَاوَنَ عَليهِ، فأَحيانًا يُخرِّبُونَ ظَاهرَ الذِّكرِ وأَحيانًا يخرِّبُونَ بَاطِنَهُ، فهؤلاءِ ليسَ لهم حَظٌّ مما وَرَدَ في هَذا الحدِيثِ مِن أَنهم يكونُونَ يومَ القِيامةِ عَلى مَنابرَ مِن نُورٍ ووجُوهُهُم نُورٌ لا يكونُونَ على وجُوهِهم كآبةٌ، بل تَكونُ وجُوهُهم مُكفَهِرّةً، إنما الذينَ يَكُونُونَ على وجُوهِهم نُورٌ هُم الذينَ يجتَمِعُونَ للتّعَاوُنَ على طَاعةِ اللهِ لأنّ التّعَاونَ لهُ أَثَرٌ على قُوّةِ العَزِيمةِ إذا كانَ القَصدُ طَاعة الله.
ثمّ هؤلاءِ الذينَ يتَعامَلُونَ بالغَشِّ يَدَّعُونَ أَنهم صُوفِيّةٌ وهُم يتَعاوَنُونَ على البِدعَةِ والضّلالةِ المخَالِفَةِ لمِا جَاءَ بهِ الرّسولُ يكُونُونَ يومَ القِيامَةِ أَعدَاءً لبَعضِهمُ البَعض قالَ اللهُ تعَالى:الأخِلاءُ بَعضُهم لبَعضٍ عَدُوّ إلا المتّقِين"
أمّا هؤلاءِ اللهُ تَعالى أَكرَمَهُم في الآخِرَةِ بأنْ جَعلَهُم يجلِسُونَ عَلى مَنابِرَ مِن نُورٍ يَومَ القِيامَةِ ووُجُوهُهم مِن نُور ممتَلِئينَ سُرورًا ورِضًى، يُجمَعُونَ قَبلَ دخُولِ الجنَّةِ يَومَ القِيامةِ فيَكُونُونَ بمظهَرٍ حسَنٍ،الأنبياءُ الذينَ هُم أَفضَلُ خَلقِ الله عندَ ربهم والشُّهداءُ يَغبِطُونَ هؤلاءِ الأولياء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إنّ مِن عِبادِ اللهِ عِبادًا لَيسُوا بأَنبياءَ"
اشتَاقَ الصّحابةُ لمعرفَةِ صِفاتِ هؤلاءِ فطَلبُوا مِن رسولِ اللهِ أن يُبَيِّنَ لهم صِفاتهِم فقَالُوا يا رسُولَ اللهِ مَن هُم لعَلَّنَا نُحِبُّهم فقال لهم:إنهُم قَومٌ تحَابُّوا بنُورِ الله"أي مِن أَجْلِ اللهِ ومِن أَجلِ طَاعَتِه، ولا يَغُشُّ بَعضُهم بَعضًا كمَا يَفعَلُ صُوفِيّةُ الرِّجْسِ، صُوفِيّةُ الرِّجسِ أَحَدُهم يظَلُّ الشّخصُ تحتَ يَدِه بحُجّةِ أنّه مُريدُه فلا يتعَلّمُ مِنهُ شَيئًا مِن أُمُورِ العقِيدةِ ولا مِن أمُور الفِقه فيَعِيشُ في ظُلمةٍ ولو كانَ ظَاهرُه الجِسمَانيّ جمِيلا كمَا قالَ القَائلُ:
جمَالُ الوَجهِ مَع قُبحِ النُّفُوسِ
كقِندِيلٍ علَى قَبرِ المجُوسِي
أولئكَ مَا صَدَقُوا اللهَ،انتَسَبُوا إلى الذِّكرِ ولم يَصْدُقُوهُ في ذِكْرِه،بل ذكَرُوه بنِيّةٍ تَعُودُ إلى الدّنيا والتّآنُس بالأصواتِ والحَركاتِ فمِنهُم مَن يَكونُ أُنسُهُ بهذِه الأصواتِ والأنَاشِيدِ المَوزُونَةِ ومِنهُم مَن يَكونُ أُنسُهم بمجَرّد الكَثرةِ مِن أَجلِ الذِّكرِ،مَن لم يَعرِفِ اللهَ لا يَعرِفُ حَقِيقَةَ الذِّكرِ، مَن يَعتَقِدُ في اللهِ أنّهُ جِسم نُورانيّ أو أنّ لهُ رأسًا هَذا ما عَرفَ اللهَ،هَذا كيفَ يكونُ لهُ ذِكرٌ مَقبُولٌ،كيفَ يَكونُ ذِكْرُه مُقَرِّبًا لهُ إلى الله،إنما ذِكْرُ اللهِ بَعدَ مَعرفةِ اللهِ،ثم إنّ اللهَ تَعالى ذَكَر عن أحوالِ أولئكَ أنهم لا يخَافُونَ إذَا خَافَ النّاسُ، أي في القَبرِ لَيسَ عَليهِم خَوفٌ ولا وَحْشَةٌ ولا ضِيقٌ، وكذلكَ يَومَ القِيامةِ، أمّا الآخَرِينَ فلَهُم خَوفَانِ خَوفٌ في القَبرِ وخَوفٌ في الآخِرةِ قالَ عليهِ الصّلاةُ والسلام:لا يخافُونَ إذا خَافَ النّاسُ ولا يحزنُونَ إذَا حزِنَ النّاسُ"لأنهم خَافُوا اللهَ في الدُّنيا كمَا يَنبغِي، تَركُوا الكلامَ الخبِيثَ خَوفًا مِنَ اللهِ وسَارَعُوا إلى الفَرائضِ خَوفًا مِنَ اللهِ فكانَت لهم هذِه المِيْزَةُ أنهم لا يخَافُونَ إذا خَافَ النّاسُ ولا يحزَنُونَ إذَا حَزِنَ النّاسُ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.