يعتبر موضوع الرايات والأعلام بأنواعها المختلفة في التاريخ العسكري الإسلامي من المواضيع الطريفة والشاقة في آن واحد طريفة لأنها تعتبر عن طبيعة الفرق وشخصياتها، وطموح زعمائها، ولعله في كثير من الأحيان، يمدنا بدلالات عما يختلج في نفوس أتباع هؤلاء من آمال يحلمون بتحقيقها في المستقبل(1).
وموضوع الرايات من جهة أخرى شاق، وشائك في نفس الوقت، ولا يزال الغموض يكتنفه، لقلة وندرة الأخبار التي تمدنا تفسير سبب اختيار لون دون آخر، أو توضح رمزيته. ولعل غموض الروايات ونذرتها، هي السبب في قلة استقصاء الباحثين في الموضوع من ناحية، وإلى تباين وتضارب آراء الباحثين الذين اهتموا بدراسة هذا الموضوع من ناحية ثانية، وهناك ملاحظة مهمة في هذا الشأن، وهي أن الفرق والدعوات الإسلامية، تبنت ألوانا معينة لشعاراتها تميزا لها عن غيرها من الفرق الأخرى. ومن أجل أن تبرر اختيارها لهذا اللون أو ذاك، وضعت أحاديث أو اخترعت روايات فحواها، أن الرسول (ص) استعمل هذا اللون راية له أو فضل ذلك على غيره. فقد روي أن اللون الأسود والأبيض كانا من ألوان رايات الرسول (ص) وكما ذكر أن الرسول (ص) فضل كذلك الأصفر والأخضر.
"الراية" و "اللواء" لفظان مترادفان يعنيان شيئا واحدا وهما قديمان قدم الحرب نفسها، لأنهما صاحباها من البداية وعاشا في خضمها منذ أول اشتباك وقع بين جمعين، وكانت الغاية من استعمالها جمع الشمل وتوحيد الكلمة، هذا فضلا عن أنهما الرمز الذي يلاذ به ويلتف حوله، فإذا رفعا رفعت الرؤوس وغلا في النفوس الاندفاع للمعركة. وعلى الرغم من كونهما خرقا على عصي أو رماح، فهما أهيب في القلوب وأهول في الصدور وأعظم في العيون(2).
وقد سجل التاريخ في ثناياه نماذج من قصص البطولة النادرة لأولئك الأبطال الذين حملوا محافظين بها على الرغم من الأخطار التي تحدق بهم، يدافعون عنها بكل ضراوة ويبذلون دونها الأرواح فتتهاوى جثتهم تحت أرماحها لتظل الراية خفاقة ويبقى اللواء مرفوعا(3)، لذلك كانت أنظار المقاتلين إلى صاحب الراية، لأن سقوطه يعني سقوطها، فإذا وقع أصابهم الذعر وتملكهم الفزع والخوف وغشيتهم رهبة الهزيمة. ولقد كان للعرب قبل الإسلام رايات مختلفة، ترفع وقت الحرب لتنظم القاتل تحتها وتتجمع حولها، فهي شارة القيادة ورمز الجيش.
وقد تضمن الشعر الجاهلي إشارات كثيرة إلى الراية واللواء والعلم والعقاب والعصبة والخال(4)، كما خلفت كتب التاريخ واللغة والحديث بهذه التسميات (المصطلحات)، بيد أن الشيء الذي يستوقف الباحث في هذه المسألة هو الخلط الشديد والواضح في استعمالها، والملابسات التي تكتنفها، ويبدو أن منشأ هذه الظاهرة اللغوي، لم تكن قصرا على القدماء فحسب، بل امتدت عدواها حتى بالنسبة للمعاصرين، والباحثين المحدثين، بحيث لا نجد في بحوثهم ودراستهم تحديدا أو توضيحا للفرق بينهما(5). نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما أورده "ابن منظور" في كتابه : (لسان العرب) في مادة "لوى"(6)، أن اللواء العلم والجمع ألوية وألويات، جمع الجمع قال : جمع النواصي ألوياتها، وفي الحديث لواء الحمد بيدي يوم القيامة. اللواء : الراية ولا يمسكها إلا صاحب الجيش قال الشاعر :
غداة تسابلت من كل أوب
كتائب عاقدين لخم لوايا
قال وهي لغة لبعض العرب نقول : احتميت احتمايا، والألوية، كما عرفوها "الرازي" في معجمه (الصحاح) هي : "المطارد وهي دون الأعلام والبنود"(7) وفي الحديث لكل غادر لواء يوم القيامة، أي العلامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء شهرة مكان الرئيس. أما "ابن سبيدة" في معجمه (المخصص) فقد ذكر بأن الغاية : الراية وقد غييت غاية، عملتها، وأغييتها، نصبتها، والعلم الراية والجمع أعلام وكذلك العقاب وهي أنثى وقيل هي العلم الضخم(8) وأشار القلقشندي في (صبح الأعشى في صناعة الإنشاء) إلى أن الأعلام هي الرايات التي خلف فوق السلطان(9). وتجدر الإشارة بهذا الصدد، إلى أن هناك نصوصا كثيرة تناولت هذا الموضوع، لكن المجال لا يتسع لذكرها جميعا لذلك نكتفي بهذا القدر الذي لمسنا فيه مدى الخلط بين هذه المصطلحات والغموض الذي يحيط بكل كلمة من كلماتها.
لعبت الرايات منذ القدم دورا في تاريخ الشعوب والأمم، لاسيما فيما يتعلق بحياتها في الحرب والسلم، حيث كانت "تعقدها في مواطن الحرب والغزوات لعهد النبي (ص) ومن بعده الخلفاء"(10).
كانت الراية أو اللواء، هي الرمز الأساس لفرق الجيش الإسلامي، ولذلك كان يحملها القائد أو الأمير المباشر للمعركة أو مساعده، وغالبا ما كان يعهد بحمل الراية إلى من عرف بالشجاعة وروح التضحية وهو قبل المعركة يرشد الجند إلى المسالك، أما في الحرب فيضمن التفاف الجيش حوله، وجرت العادة أن الطرف المعادي يوجه ضرباته إلى حامل الراية قبل غيره، حتى يثبط من عزيمة الجيش ويعمل بذلك على اختلاف صفوفه(11). لأن ذلك يحدث زعزعة في النفوس وإحباطا في المعنويات.