الواقعتين ليسا محض خيال..بل إنهما حدثا بالفعل وتم إثباتهما تاريخيا
جمعية الموتى لندن .. تعج بالمنازل القديمة ؟
نحن الآن في (لندن) و(لندن) كأي مدينة أخرى تعج بالمنازل القديمة التي يفوح من بين جنباتها عبق التاريخ..
ومن المعتاد أن تتحول تلك البيوت بمرور الزمن إلى مزارات سياحية أو تترك مهجورة ليرتع فيها الصدأ والعطن كيفما شاءا..هذا فضلا عن بعض البيوت التي لم تزل مسكونة إلى الآن سواء من طائفة الفقراء والمشردين أو ممن آلت إليهم ملكية تلك البيوت إرثا فلم يشاءوا أن يهدمونها حرصا على تراث عائلاتهم من الاندثار..
وسط تلك البيوت يقف بيتا قديما مثلها..عمره يربو عن الثلاثمائة سنة..
بيت قديم ولكنه عادي..عادي جدا إن شئتم الدقة..صحيح أن بابه ضيق وسلالمه مظلمة وأبوابه تصدر صريرا حال فتحها وتفوح منه الروائح الكريهة وتغطي الأتربة المتراكمة على مر السنين كل شبر فيه..
ولكن هذا لعمري هو ديدن كل البيوت القديمة..فلا جديد يذكر في هذا الشأن..
ولكن لماذا يخشى الناس هذا البيت دونا عن بقية البيوت التي حوله؟..
لماذا يحرصون على إصدار تعليمات صارمة لأطفالهم بعدم اللهو بجوار هذا البيت أو ولوجه؟..
لماذا يمتنع المشردين عن المبيت فيه؟..
الجميع بالتأكيد يعرف الإجابة..ولكن يفاجئك صمتهم عندما تسألهم عن سر هذا البيت..
فقط تتسع عيونهم في خوف ظاهر وترتفع أكفهم منذرة وألسنتهم تصرخ فيك قائلة:
(إلا هذا البيت..ابتعد عنه كأنما يطاردك ألف شيطان..لقد قمنا بواجبنا وحذرناك..وأنت حر في اختيار قدرك)
وعندما تسألهم (لماذا لم تقم السلطات بإزالة هذا البيت وهدمه ومحو أثره طالما أن الناس يخشونه إلى هذا الحد؟؟)
تجدهم يبتسمون ابتسامة شفقة مغلفة بالغموض ثم يقولون لك:
(يا لك من مسكين..وهل تظن أنهم لم يحاولوا من قبل؟؟..إن محاولات هدم هذا المنزل الملعون مستمرة منذ عهد الملك (جورج الثاني) وكلما هم أحدهم بتنفيذ الفكرة تجده يتراجع في آخر لحظة بشكل لا يثير الدهشة فقط وإنما يثير المزيد من الخوف من هذا البيت أيضا)
هذا هو ما حدث مع السير(كيلي كوش) أستاذ الأدب الإنجليزي المعروف..والذي جمع قصة هذا البيت وغيره في كتابه الشهير (خرافات مفيدة) والذي أصدره في مايو عام 1940..
يقول السير (كوش):
(صدمتني إجابات الناس المبهمة في البداية..ولكن هذا ما زادني إلا إصرارا وتصميما على المضي قدما لمعرفة سر هذا البيت)..
وبالفعل ذهب السير (كوش) إلى أرشيف جامعة (كامبردج)..وظل يبحث إلى أن عثر على تاريخ ذلك البيت..
من ثم ذهب مجددا إلى البيت وقد قرر أمرا خطيرا..
قرر أن يبيت في هذا البيت ليلة بمفرده..ليرى ويسمع ويدون بنفسه كل شيء..
يقول السير (كوش) عندما وصلت إلى البيت وأخبرت الحارس العجوز بما أنتويه..انتفض من الدهشة واتسعت عيناه وهو يقول:
(أأنت مجنون لتقدم على هذا الفعل الأخرق؟؟)
فلم أرد إلا بابتسامة هادئة جعلت الرجل يقوم ضاربا كفا بكف ليقودني إلى مدخل البيت وهو يتمتم:
(إن هذا العالم ملئ بالمجانين..لا ريب في ذلك) ؟
وفر وطواطين الى الداخل هربا من الضوء المقتحم وعندما فتح الحارس الباب الصدئ الذي بدا وكأن أحدا لم يفتحه منذ مئات السنين بالفعل أصدر الباب صريرا مزعجا وتهاوت علينا بعض الأتربة والأحجار الصغيرة..وفر وطواطين للداخل هربا من الضوء المقتحم..
وزكمت أنفينا الروائح العطنة..عندها قال لي حارس البيت بنبرة سخرية:
(أنت مازلت شابا شجاعا باحثا عن الحقيقة..ولكنك تبدو متهورا ككل الشباب..أنت حر..ولكن قبل أن أتركك أريد أن أسألك سؤالا يا ولدي:ما هو نوع الزهور التي تحب أن أضعها على قبرك؟؟)
فيضحك السير (كوش) ضحكة يداري بها الرجفة التي تعتريه ويقول:
(أي نوع يا سيدي)
ويبتعد الحارس متمتما ببضع كلمات خافتة لم يسمعها (كوش) وإن كان قد خمن معناها..ولكنه لم يلتفت إليها إذ يمم وجهه شطر المدخل وارتقى السلم الضيق ودخل المنزل..
فماذا رأى؟؟..
وماذا سمع؟؟..
وماذا عرف؟؟..
هذا ما سنعرفه الآن ونحن نقلب في صفحات كتابه (خرافات مفيدة)..فهيا بنا..
تجد جمعيات تمارس انشطة غريبة جدا ؟
يقول السير (كوش):
من عادة الناس في (لندن) أن يكونوا جمعيات لكل رغبة خاصة بهم حتى لا يتهمهم أحد بالجنون أو بأنهم عنصر هدام في المجتمع..وحتى يستطيعوا ممارسة رغباتهم تلك دونما رقيب أو سخرية من أحد المتطفلين..
وهذه الجمعيات قديمة قدم الدهر..وتشمل كل ما يمكن أن يخطر على البال..
فتجد جمعيات تمارس أنشطة غريبة جدا..
فهناك جمعية جامعي أغطية الزجاجات..وهناك جمعية جامعي الزجاجات الفارغة..وهناك جمعية النوم وحيدا حتى الموت ..وهناك جمعية محبي النوم في فراش الآخرين..إلى غير ذلك من المسميات والرغبات العجيبة..
وقد اصطلح الجميع على تركهم يمارسون حرياتهم الشخصية طالما كانوا بعيدين عن إيذاء الآخرين أو إلحاق الضرر بهم..فحريتهم الشخصية تلك يكفلها القانون..بل وتحميهم الشرطة أثناء احتفالاتهم وتجمعاتهم درءا للفضوليين..
ومعروف للجميع أماكن تجمع شباب تلك الجمعيات التي تكون إما منزل أحدهم أو ناد خاص..
وكذلك طقوس احتفالاتهم وماذا يأكلون وماذا يشربون أثنائها..كل ذلك معروف..
ومن وجد في إحدى تلك الجمعيات ما يوافق هواه فله أن ينضم إليها مباشرة..
لذلك فلكل إنسان هناك جمعية يمارس من خلالها هواياته ويفرغ طاقاته المكبوتة ..
كل هذا يبدو جميلا في مجتمع ديمقراطي تبدو فيه الصورة وردية وتمارس فيه الحريات الشخصية على أوسع نطاق تحت شعارأنت حر ما لم تضر)..
في عام 1730 قرر سبعة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الثانية والعشرين والثلاثين تكوين جمعية من تلك الجمعيات وسموها (جمعية السبعة الدائمين أحياء أو ميتين)..
وقد اعتاد هؤلاء السبعة على أن يتلاقوا في هذا البيت يوم 2 نوفمبر من كل عام وهو (يوم الأرواح) طبقا للمعتقد الشعبي السائد آنذاك في (أوروبا)
هؤلاء السبعة لم يكن لهم هدف محدد..ولم يكن لهم برنامج معين يناقشونه فيما بينهم..
فاجتماعاتهم تقتصر على الأكل وشرب الخمر والغناء والرقص ولعن كل المقدسات وكل الأديان من أولها إلى آخرها..
وفي ساعة متأخرة من الليل يهدأ الجميع ويعودون إلى بيوتهم على أن يلتقوا مجددا عشية اليوم التالي لتكرار ما فعلوه في يومهم هذا..وتستمر الاجتماعات لمدة سبعة أيام متعاقبة..وفي نهاية الأسبوع يتفرق الجمع الصاخب على أن يتواعدوا على الاجتماع مجددا عشية يوم 2 نوفمبر من العام التالي وهكذا دواليك..
ومن الغريب أن هؤلاء الشباب كانوا يحتفظون بسجل ضخم يدونون فيه محاضر جلساتهم..وعندما عثرت عليه اندهشت بشدة..فكيف كان هؤلاء السكارى يدونون كل شيء يحدث بينهم بمنتهى الدقة والأناقة الظاهرة في ذلك السجل..
فهاكم لائحة الجمعية الداخلية التي تتصدر أولى صفحات السجل وتنص على أن:
1- تتكون الجمعية من سبعة أعضاء..أحياء أو موتى..فالذي يموت منهم يظل عضوا..فإذا مات جميع الأعضاء انحلت الجمعية ولم يعد لها وجود..
2- الأعضاء دائمون وغير مقبول انفصالهم عن الجمعية فيما بعد..
3- لا تقبل الجمعية أي عضو جديد
4- تجتمع الجمعية سنويا في يوم 2 نوفمبر من كل عام ومن يتخلف عن الحضور لأي سبب يوقع عليه بقية الأعضاء ما شاءوا من عقوبات..
5- في حالة إصابة جميع الأعضاء بالجنون المطبق وإيمانهم التام بأنه لا فائدة من الكلام أو عندما يفقدون أي رغبة في الحوار فيما بينهم فعليهم أن يصمتوا إلى الأبد ويتحول اسم الجمعية إلى (جمعية الأدباء الصامتين حتى الموت)
وهاكم مثلا الحوار الذي دار بينهم في أول اجتماعاتهم بتاريخ 2 نوفمبر 1730
يقول رئيس الجمعية (آلان ديرمو) وهو فرنسي من (باريس):
(لقد قررنا أن نجتمع هنا اليوم..ثم ماذا بعد؟؟..لابد أن تكون هناك حكمة..لابد أن يكون هناك سبب وجيه لاجتماعنا هذا)..
يرد عليه أحد الحاضرين قائلا:
(ليس من الضروري أن يكون هناك سبب وجيه لأي شيء..فليس هناك سبب وجيه لكي تكون أنت أنت أو تكون موجودا..ولا أنا ولا أي شخص آخر..أليس هذا صحيحا؟؟)..
ويقول آخر:
(إذن فقد اجتمعنا هنا دون سبب!!)..
فيلتقط (ديرمو) طرف الحديث قائلا:
(ليس من الضروري أن يكون لكل شيء سببا..لقد اجتمعنا..وجلسنا..وها نحن أولاء نتناقش سويا..فقط لأننا بحاجة إلى الكلام..لأننا إذا لم نتكلم متنا..وواضح أننا لا نريد أن نموت..لقد ارتدينا ملابس ثقيلة خوفا من البرد..وأكلنا اتقاء للجوع..وشربنا بحثا عن دفء يسري في أوصالنا الباردة..وغنينا ورقصنا وضحكنا حتى لا يقضي علينا اليأس..وروى كل منا قصة غرامه اعتزازا برجولته الغضة..واضح أننا نريد كل الذي فعلناه وهذا يكفي)..
ثم وقعوا بأسمائهم على محضر الجلسة وانصرفوا..
والملاحظ أن محاضر الجلسات قد توقفت نهائيا يوم 2 نوفمبر عام 1766..وجاءت توقيعات الأعضاء في غاية الأناقة والوضوح..
إلى هنا وكل شيء يبدو عاديا..ولكن ما سأذكره لكم الآن نقلا عن السجلات الحكومية الرسمية سيثير دهشتكم بشدة..وعندها ستعرفون السر...
طعنه بالسيف في بطنه فظل ينزف ؟
في يوم 30 أكتوبر من عام 1763..ثبت من السجلات الحكومية في (باريس) وفاة (آلان ديرمو) نتيجة اشتباكه مع أحد خصومه الذي طعنه بالسيف في بطنه فظل ينزف لدقائق فاضت روحه بعدها..
إذن فرئيس الجمعية قد مات قبل موعد انعقاد الاجتماع السنوي في تلك السنة بثلاثة أيام..
ولكن بالرجوع إلى محاضر جلسات الجمعية..التي انعقدت يوم 2 نوفمبر 1763 نجد أن الأعضاء قد اجتمعوا كعادتهم..وغنوا ورقصوا وأكلوا وشربوا ثم جلسوا وتناقشوا كعادتهم أيضا..ثم وقعوا بإمضاءاتهم السبعة على محضر الجلسة وانصرفوا..
وبالاطلاع على ما دار في هذا المحضر نجد أن (ديرمو) كتب يقول:
(إنني ملتزم باللائحة الداخلية للجمعية..فالعضو يظل عضوا بها حيا أو ميتا)..
فسأله أحد الأعضاء:
(وهل هذا معقول؟؟)..
فرد عليه (ديرمو) قائلا:
(طبعا معقول..أعطني شيئا معقولا واحدا في هذه الدنيا وسأجد فيه شيئا لامعقولا)..
ولأول مرة بعد إغلاق محضر الجمعية وتوقيع جميع الأعضاء السبعة عليه وانصرافهم في الواحدة صباحا..يعودون لإضافة هامش أسفل توقيعاتهم يقرون فيه بوفاة رئيس الجمعية وأن عليهم انتخاب رئيس جديد..
ثم يوقع السبعة مرة أخرى أسفل الهامش بتوقيت الثانية والنصف صباحا..
فكيف عرف بقية الأعضاء الستة بوفاة (ديرمو) في (باريس) وهم يجتمعون في (لندن) في عصر كان نقل الأخبار فيه يحتاج لأيام وربما لأسابيع حيث لم تكن هناك أي وسيلة اتصالات ولا حتى التليفون ذاته..
ثم وهذا هو السؤال الأهم..كيف يكون (ديرمو) معهم بعد وفاته؟؟ وإن لم يكن هو فمن أو ما الذي كان معهم؟؟ وكيف لم يلاحظوا أي فرق بينه وبين (ديرمو)..
وبالعودة إلى السجل وجدت أن (ديرمو) قد أعلن في محضر اجتماع يوم 3 نوفمبر 1763 أنه قد أصبح عضوا ميتا..وأنه لم يعد يصلح لرئاسة الجمعية..وأجري تصويت بين الأعضاء وتم انتخاب الأستاذ (بلاسيس) مدرس الأدب الإنجليزي كرئيس جديد للجمعية...
والغريب أن خط (ديرمو) لم يتغير بل ظل الخط الأنيق نفسه المكتوب في المحاضر السابقة..
وعلى هذا تنتفي شبهة أن أحدهم قد انتحل شخصيته...
ليس هذا فحسب..فالأغرب لم يأت بعد..
في 2 نوفمبر من العام التالي اجتمع الأعضاء السبعة كاملين في ذات المكان..
وفي محضر الاجتماع أعلن السيد (إدوارد ماكفيل) وهو أحد أعضاء الجمعية وكان ضابط بالحرس الملكي الإنجليزي..
أعلن هذا العضو أنه قد أصبح عضوا ميتا نتيجة سقوطه من على صهوة جواده من فوق قمة أحد التلال قبل الاجتماع السنوي بأربعة أشهر تقريبا..
وبالعودة للسجلات الحكومية ثبت هذا فعلا بتاريخ 5 يوليو 1764
وبالعودة إلى سجل اجتماعات الجمعية..كان من الواضح كما تتوقعون أنه ذات التوقيع وذات الخط..
وأكمل الخمسة الباقون اجتماعهم بصورة عادية..ولكنهم بالطبع أصيبوا بالرعب عندما اكتشفوا أنهم كانوا يأكلون ويشربون ويرقصون مع اثنين من الموتى..وعندما انتهى الاجتماع كانوا قد اتخذوا قرارا في محضر تلك الجلسة بعدم العودة لعقد الاجتماعات وتصفية تلك الجمعية..ووقع الخمسة الباقين أحياء على ذلك..
ولكن في اليوم التالي وطيلة باقي أيام الأسبوع حضر الجميع..واستمرت محاضر الجلسات واستمر توقيع الأعضاء السبعة عليها كما هو..ولم يتغير شيء..
وفي العام التالي حضر الجميع في نفس الموعد السنوي..وأعلن عضو ثالث أنه أصبح ميتا..واستمرت اجتماعات السبعة..وفي نهاية الأسبوع أعلن عضو رابع أنه قد أصبح ميتا..
وبعده بشهرين توفي الخامس وبعد وفاته بثلاثة شهور توفي السادس..
العضو الوحيد الباقي على قيد الحياة .
وفي يوم 2 نوفمبر عام 1766 ذهب إلى ذات البيت العضو الوحيد الباقي على قيد الحياة..والعجيب انه كان الأستاذ (بلاسيس) نفسه..وكان في نيته أن يرقص ويغني ويأكل ويشرب لوحده ثم يحطم كل شيء ويشعل النار في المنزل..ثم يغادره إلى غير رجعة..
وذهب..وجلس وفتح السجل وكتب:
أنا العضو الوحيد الباقي حيا..لقد قررت أن أنهي كل شيء..وأن أحرق الوثائق التي تدل على هذا العمل الجنوني الذي لا أعرف كيف حدث..لم أكن أرغب في المجيء إلى هذا المكان مرة أخرى..ولم أدر كيف جئت..إنني أرى طريقا فأمشي..وأقف أمام الباب فينفتح..وأضع قدمي على أولى درجات السلم فيحملني السلم إلى أعلى..وأدخل غرفة الاجتماعات وأجلس على مقعد فيندفع بي إلى الأمام لأجد السجل مفتوحا ومدونا به تاريخ اليوم..وأمد يدي إلى القلم فيسبقني الأخير إلى الورق..وأكتب ما كتبت وأوقع باسمي لأفاجأ بأن الستة إمضاءات الأخرى للأعضاء المتوفين قد تراصت الواحدة بجوار الأخرى أسفل إمضائي..إنهم معي..إني أراهم وأتحدث معهم..إنهم يلهون معي كعادتهم دائما..ها هو (ديرمو) يربت على كتفي ويدعوني للرقص..وها هو (ماكفيل) يقدم لي كأس الشراب..إنهم يقهقهون ويرقصون في سعادة ويدعونني لمشاركتهم..ولكنني آسف لكم جميعا..فسأحرق وأدمر كل شيء)..
انتهى كلام الأستاذ (بلاسيس) بتوقيت الثامنة وعشرين دقيقة كما دون هو بنفسه..
ولكنه لم يستطع فعل أي شيء..
فقد بقي السجل وأدوات الطعام وكئوس الشراب وأثاث الغرفة والبيت بكامله لم يمس..
والأكثر غرابة أن المحضر الأخير جاء فيه بعد نهاية كلام الأستاذ (بلاسيس) ما يلي:
(لقد حضر جميع الأعضاء في موعدهم السنوي واكتمل العدد القانوني..وعلى رئيس الجمعية أن يعلن نفسه عضوا ميتا)
وأعلن الأستاذ (بلاسيس) أنه قد أصبح عضوا ميتا..
وأعلن جميع الأعضاء أنهم قد أصبحوا كلهم موتى..
ووقع جميع الأعضاء على محضر الجلسة بتوقيت الحادية عشرة وأربعين دقيقة..
والثابت من أقوال شهود العيان أن الأستاذ (بلاسيس) قد غادر البيت إلى منزله في حوالي التاسعة وكان ساهما مضطرب الفكر زائغ النظرات محموما..ومات على فراشه في منزله في حوالي العاشرة مساء قبل وصول الطبيب الذي استدعته زوجته ليقوم بالكشف عليه ومعرفة ما دهاه...
وفي 2 نوفمبر من كل عام ولمدة أسبوع يسمع الناس ضوضاء وأصوات احتفالات وأشخاص يعربدون في هذا البيت ويعيثون فيه فسادا كل ليلة..فإذا دخلوا لاستقصاء الأمر هدأ كل شيء ولم يجدوا أثرا لأي شيء..
وإحقاقا للحق فإنني لم أر أو أسمع طيلة الليل ما يريب..بل غلبني النوم قرب الفجر فنمت ملئ جفني..ولم أستيقظ إلا والشمس في كبد السماء..
لذلك فأنا لا أجد تفسيرا لما يرويه الناس في كل مكان..وأنا الآن في غاية الحيرة..
لا أستطيع تكذيب ما سمعت وما يرويه الناس..ولكني لا أستطيع إثباته بالفعل..
ربما لأنني اخترت ليلة خاطئة فلم يحدث شيء..
ربما كان علي اختيار ليلة الثاني من نوفمبر أو أي ليلة في غضون أسبوع بعدها كما كان أعضاء الجمعية يجتمعون سنويا..
حتما هذا هو التفسير الصحيح لعدم حدوث شيء..
لذلك قررت أن أقضي ليلة الثاني من نوفمبر القادم في هذا البيت وحدي مرة أخرى..ربما أرى ما يميط اللثام عن هذا اللغز..
وعد الحر دين عليه
في يوم صحو من أيام صيف عام 1693 عاد السير الشاب (تريسترام) ذو الثلاثة والثلاثون ربيعا إلى قصره الضخم في (دبلن) في (أيرلندا) وسأل مشرفة القصر عن زوجته السيدة (نيكولا) فأخبرته أنها طريحة الفراش فهرع إليها جزعا وجلس بجوارها وقد هاله شحوبها وسألها بصوت مرتجف:
ماذا ألم بك اليوم عزيزتي؟
أجابته زوجته بصوت مجهد:
لا تخش شيئا عزيزي..أنا بخير..ولكن أرجو منك لطفا ألا تسألني عن هذا الشريط الأسود الذي لففته حول ذراعي اليوم ولن أخلعه طيلة حياتي..
فأجابها مهدئا:
لك هذا عزيزتي ولكن هل أستدعي الطبيب؟
فقالت بنبرة حزن:
لا عليك..أنا بخير ولكني اليوم في حزن عظيم..فقد توفي اللورد (تايرون) منذ ثلاثة أيام..مات بالتحديد يوم الأربعاء الماضي في الرابعة عصرا..
ضحك زوجها وقال:
وكيف عرفت؟؟ عهدي بك متحررة التفكير..مقبلة على كل متع الحياة..فماذا دهاك اليوم؟؟
فقالت الزوجة:
لقد مات اللورد..هذا مؤكد..إنني أشعر بهذا..أنت تعلم أننا ولدنا سويا في عام واحد ونشأنا وتربينا سويا..كنا أخوين..بل توأمين..وكانت صلتنا عميقة..وأنت تعرف هذا الرباط الروحي الذي كان بيننا...
يرد الزوج قائلا:
دعك من هذه الوساوس ولا تصدقي تلك الخرافات..هيا فسآمر الخدم بإعداد الخيول وسآخذك في نزهة في الغابة لعل هواءها المنعش أن يذهب عنك ما يعتريك..
فقالت الزوجة:
أخشى أنني لن أستطيع الاستجابة لطلبك..فعندي خبر سيسعدك بالتأكيد..إنني حامل...
افتر ثغر الزوج عن ابتسامة واسعة..وقام من فوره مناديا كل الخدم قائلا:
لا خيول بعد اليوم..إن سيدتكم ستلزم الفراش طيلة الشهور القادمة..فنحن ننتظر حادثا سعيدا...
فقالت الزوجة:
والمولود سوف يكون ذكرا..
ولم يشأ الزوج أن يعلق على كلام زوجته وإن أخذته الدهشة للحظات ثم عاد للضحك ناسبا الأمر لرغبة زوجته الداخلية..وانغمس كل من في القصر في الضحك والرقص والغناء ابتهاجا بسيدتهم..
وانطلق الزوج يداعب زوجته ويعدها بمزيد من البنين والبنات والأحفاد..
كان هذا حين جاء أحد الخدم يعلن أن رسالة قد جاءت من قصر اللورد (تايرون) في (لندن)..
كانت الرسالة من سكرتير اللورد..وعندما قرأها السير (تريسترام) شحب وجهه..كانت رسالة مقتضبة يعلن فيها السكرتير عن وفاة اللورد يوم الأربعاء في الرابعة عصرا...
ولكنه لم يتوقف أمام الأمر كثيرا بل عاد لابتهاجه وسروره بوليده المرتقب..
وبعد شهور أنجبت السيدة (نيكولا) طفلها الأول..وكان ذكرا..سماه والده (ماركوس)
وبعد ست سنوات بالتحديد..توفي السير (تريسترام)..
قررت الارملة الشابة ان لا تتزوج
وقررت الأرملة الشابة ألا تتزوج وأن تعتزل الحياة في قصرها وتتفرغ لتربية طفلها..ذلك على الرغم من أنها كانت في ريعان الشباب..حيث كانت في الرابعة والثلاثين من عمرها..وكانت تتمتع بجمل أخاذ..
ولكن حتى الكنيسة اعتزلتها..ولم تكن تذهب لحضور الصلوات بها..
وفجأة بعد بضع سنوات قررت (نيكولا) أن تستأنف حياتها بصورة طبيعية..فكانت تذهب إلى الكنيسة لحضور الصلوات بانتظام..وانبهر الناس بجمالها ورقتها..وكان من الطبيعي أن يتوافد عليها الخطاب ما بين نبلاء أو طامعين في ثرائها..وكان من الطبيعي أن تميل لأحدهم..ثم تتزوجه رغم كونه أصغر منها سنا..
واتضح لها سوء اختيارها لأن زوجها كان طامعا في مالها..فعاشت معه ويلات وكابدت بسببه عذابات عديدة..
إلى أن حملت منه وأنجبت له ابنه..فهدأت عاصفة نفسه..وهام بها حبا..واستمرت الحياة بلا منغصات..ومضت السنون..وعندما أتمت السيدة (نيكولا) الحادية والخمسين من العمر أرادت أن تحتفل بعيد ميلادها..ولكنها أرادته احتفالا ليس كأي احتفال..فقد كانت تحتفل بشيء آخر..كانت حامل..وكانت هي وزوجها في قمة السعادة..
لذلك دعت كل المعارف والأقارب والأصدقاء..واستدعت ابنها (ماركوس) من (لندن) حيث كان يدرس..وطلبت منه ومن ابنتها بل وحتى الخدم والوصيفات أن يدعوا كل معارفهم وأصدقائهم..أرادته احتفالا عظيما..وكانت في قمة السعادة وضحكاتها المجلجلة تسبقها على غير عادتها الرصينة..وبدت للجميع كأنها ارتدت شابة..وسعد الجميع لسعادتها..فقد كانت عطوفة رءوفة بالكل..
حتى كبير أساقفة (لندن) دعته ليباركها..
وجاء كبير الأساقفة..ودخل عليها جناحها ليباركها..ونهضت لاستقباله هاشة باشة..فقال لها باسما:
أنا سعيد برؤيتك يا ابنتي الصغيرة..كل عام وأنت بخير..
فقالت ضاحكة:
صغيرة!!..كم أنت مجامل يا أبتاه..أنا لم أعد صغيرة..
فقال الأب:
لا تبدو عليك سنك يا ابنتي..فأنت جميلة الوجه..شابة الروح..ومن يراك اليوم لا يمكن أن يتخيل أنك أتممت لتوك الخمسين من العمر..
ضحكت السيدة (نيكولا) وقالت:
بل في الواحدة والخمسين يا أبتاه..ألم أقل لك أنك مجامل..
فقال الأب:
بل أنا أعني ما أقول فأنت الآن في الخمسين من العمر..لقد حضرت تعميدك بنفسي..
فقالت (نيكولا) وقد غاض وجهها واضطربت ضحكتها:
بل في الخمسين يا أبتاه فقد ولدت مع اللورد (تايرون) رحمه الله في عام واحد..عام 1665
فقال الأب:
لا يا ابنتي..لقد ولدت بعد ذلك بعام واحد..ولدت سنة 1666..بعد أيام من الحريق الشهير الذي شب في (لندن) والذي كاد يفني المدينة كلها وقتها..
وامتقع وجه السيدة (نيكولا) وتهاوت على فراشها..ولكنها تماسكت وعاونها الأب على الوقوف وقالت:
يا أبي..لقد حكمت الآن بموتي..سوف أموت اليوم..لا شك في هذا..أرجوك أن تخرج الآن وتستدعي ابني وابنتي بسرعة..أرجوك فليس لدي وقت كاف..
وخرج كبير الأساقفة..واستدعى الابن والابنة..ودخل الاثنان على والدتهما وهي طريحة الفراش لا تقوى على النهوض..فطلبت منهما أن يغلقا الباب جيدا حتى لا يدخل أحد ثم يقتربا ويستمعا لقصتها..ومضت تقول:
ليس لدي متسع من الوقت..لأنني سوف أموت اليوم..أرجو أن تستمعا إلى قصتي..
تعلمان أنني واللورد (تايرون) كنا صديقين ..بل أخوين توأمين وتربينا سويا وكان يشرف على تربيتنا أستاذ من أساتذة الفلسفة..وكان متحررا كافرا..لا يؤمن بالله ولا بأي دين..ولا بأي ثوابت مطلقا..كان يرى أننا نعيش في هذه الدنيا.. ثم نموت كما تموت الكلاب..ثم بعدها..لا شيء.. لا حساب..لا قيامة..لا ثواب ولا عقاب..بل لا إله من الأساس..لذلك فليس لنا غير هذه الحياة..ومن الأفضل أن نعيشها كما يحلو لنا..ونحن أحرار في حياتنا نفعل فيها ما نشاء وقتما نشاء..
وقد حاول الرجل غرس تلك الأفكار في عقولنا..ولكن رغم أننا كنا أطفالا يتم تلقيننا بدون أن نفقه شيئا..إلا أن فطرتنا السوية كانت تأبى تلك الأفكار..لذلك فقد حرصنا على الصلاة والتقرب إلى الله سرا..واتفقنا سويا أن الذي يموت منا أولا يجب أن يعود ليقول للآخر ما الذي رآه في العالم الآخر..وهل نحن على صواب أم أستاذنا ومربينا؟؟..وأيهما أفضل..الكفر أم الإيمان؟؟؟..
وتعاهدنا على ذلك..وأقسمنا بكل عزيز وغال لدينا..
ثم كبرنا..وافترقنا..فتزوجت السير (تريسترام) وانتقل اللورد (تايرون) ليعيش في (لندن) وانقطعت أخباره ولم أعد أراه..
وفي إحدى الليالي كنت نائمة وحدي حيث كان أبوك يا ولدي يبيت بالخارج في مهمة خاصة بأعماله..وفجأة شعرت بوجود رجل في الحجرة واقفا بجوار فراشي..ففتحت عيني خائفة وإذا بي أرى اللورد جالسا على طرف السرير بجواري..ونظرت إلى اللورد (تايرون) غاضبة وهتفت به بانزعاج:
كيف أتيت إلى هنا؟
فقال بابتسامة هادئة وصوت بدا وكأنه يخرج من جب عميق:
جئتك لتنفيذ الاتفاق السابق والعهد الذي قطعناه على نفسينا..
قلت باضطراب:
لا أفهم..
فقال وابتسامته الهادئة تتسع:
هل نسيت أننا اتفقنا في طفولتنا وتعاهدنا أن الذي يموت منا أولا يعود ليقول للآخر ما الذي رآه في العالم الآخر؟
فقلت بدهشة:
نعم..نعم..أذكر ذلك جيدا
فقال:
وأنا مت يوم الأربعاء في الرابعة عصرا..وجئت أخبرك بكل ما تريدين معرفته..
فانعقد لساني من الدهشة للحظات..ثم إن لهفتي فاقت دهشتي فانطلقت أقول له:
وما الذي رأيته وعرفته؟؟..
فقال بهدوء:
إن الإيمان بالله هو الطريق القويم..وإن هناك إلها..وإنه لا إله إلا الله..وإن الخير حق..والحب حق..والعطف والرحمة حق..وإن الدنيا زائلة..وإن هناك حياة أخرى أروع وأجمل مما تتصورين..
أما عنك أنت فأنت حامل منذ شهر في طفل ذكر..وسيسميه زوجك (ماركوس) وأنك ستعترضين على الاسم لرغبتك في تسميته باسمي..
وزوجك سيموت بعد ستة أعوام..
وستعتزلين الناس..ثم تتزوجين من شاب يصغرك في السن..يذيقك صنوف العذاب إلى أن تنجبي له طفلة فيتغير وتعيشين معه سعيدة إلى أن تموتين يوم عيد ميلادك الخمسين وفي بطنك جنينا..
فسألته:
وهل أستطيع منع ذلك؟؟..
فقال:
ومن ذا الذي يستطيع منع القدر؟؟..
فقلت:
وهل أنت سعيد في حياتك الأخرى؟؟
فقال:
بالتأكيد والحمد لله وإلا لما كنت أستطيع أن آتي إليك..
فقلت:
ولكن كيف لي أن أعرف أن الذي أراه الآن حقيقة وليس مجرد حلم أو وهم؟؟
فقال:
ألم أخبرك بأنني مت يوم الأربعاء في تمام الرابعة؟..ألا يكفيك هذا؟؟
فقلت:
لا يكفيني..إنني أعرف ناسا كثيرين يحلمون بمثل هذه الأحلام ويرون في أحلامهم العجب العجاب..
فقال:
إذن سأمسك سيخين من حديد تلك النافذة وأجدلهما كالضفيرة..وهذا ما لا يستطيع عمله البشر..
فقلت باندفاع:
بل يستطيع النائم أن يفعل أكثر من ذلك..لقد قرأت عن القوى الخارقة التي يتمتع بها النائمون دون أن يدروا بوجودها لديهم
فقال وقد اتسعت ابتسامته:
عهدي بك دوما عنيدة..لذلك سأترك على ذراعك أثرا لا يمحى..ولكن أرجو ألا يراه أحد ما دمت حية..
ثم لمس ذراعي بأصابعه التي كانت كالرخام البارد..وبالفعل تركت أصابعه على ذراعي خمس علامات حمراء..
وطلب مني أن أربط يدي بشريط أسود سيتركه لي على النافذة..ثم ودعني واختفى..
وعندما قمت مشدوهة إلى النافذة وجدت سيخين منها وقد تم جدلهما كالضفيرة وقد التف حولهما هذا الشريط الأسود..فأخذته ولففته حول ذراعي لأداري به أثر يد اللورد كما طلب مني..ثم جلست في فراشي مذهولة مهمومة حتى دخل علي والدكما في الصباح بعد عودته..
بعدها أنجبناك يا ولدي..وقد وجدت ما يدفعني لأن أطلب من والدك أن نسميك (تايرون) ولكنه كان قد قرر أن يسميك (ماركوس) بالفعل..ليس هذا فحسب..بل لقد توفي أبوك بعد ست سنوات في التوقيت الذي حدده اللورد بالضبط..مما أصابني بالرعب وأنا أستعيد كلمات اللورد في تلك الليلة..
تذكرت أنه قال لي أنك ستتزوجين من رجل يصغرك..لذلك اعتزلت الناس وامتنعت عن الحياة الاجتماعية..بل وحتى الكنيسة لفترة..رغبة مني في عدم تحقق النبوءة..كنت خائفة للغاية..وكنت أحب الحياة وأرغب في أن أعيش طويلا..
ولكن غمرني شعور رهيب بالتقصير في حق الله..فكيف امتنع عن الذهاب للكنيسة ثم أدعي الإيمان وأطلب من الله المغفرة؟؟..
كنت أبكي وأصلي في صمت وأقول:
يا الله..يا أقوى الأقوياء..يا أرحم الرحماء..اغفر لي تقصيري في حقك..إنني ضعيفة وأنت العظيم..ولا أعرف من عظمتك إلا أقل القليل..ولا ذنب لي في ذلك..فعقلي أصغر من أن يعي عظمتك وقدرتك..
إنني نملة على جبلك الشاهق..إنني شمعة في شمسك المبهرة..ارحم ضعفي وتقصيري يا رب..
هكذا كنت أصلي وأتعبد يوميا لله..ولكن هذا لم يمح شعوري الرهيب بالتقصير..فقررت الذهاب للكنيسة حتى لا أكون مقصرة..
وفي الكنيسة رأيت أبوك يا ابنتي..كان شابا وسيما يصغرني بأربعة أعوام..ووقعنا فى هوى بعضنا من أول نظرة..وتعاهدنا على الزواج..وتزوجته رغما عني..فقد كنت أتهرب منه حتى لا نتزوج..ولكنه كان يحاصرني..وأخيرا تزوجنا..
وعندما تزوجنا كنت أتهرب منه في الفراش حتى لا أحمل..
وكنت أقول له يكفينا ابننا (ماركوس)..
فكان يقول إنني أحب (ماركوس) لا شك في هذا ولكنه ابنك أنت..وأنا أرغب في أن يكون لي مولود منك..أخ أو أخت لماركوس..
عندها كنت أتمنع عليه فكان يشتاط غضبا ويذيقني من صنوف العذاب ألوانا..حتى لقد اتهمني بأنني على علاقة بآخر..وهددني بالطلاق والفضيحة..
فلم يكن هناك بد من أن أستجيب له..وحملت فيك يا ابنتي وأنجبتك..
تماما كما قال اللورد (تايرون)..وأيقنت تماما صحة مقولته حين قال:
من ذا الذي يستطيع منع القدر؟؟..
وعلى هذا جلست أنتظر ساعتي..وعندما أتممت عامي الخمسين ترقبت النهاية..ولكن مر اليوم دون أن يحدث شيء..وظننت أن نبوءة اللورد لن تتحقق..وكانت سعادتي لا توصف..
وقبل أيام علمت أنني حامل في مثل سني هذا..ففاقت سعادتي السحاب..
وقررت أن أحتفل بعيد ميلادي الحادي والخمسين احتفالا ضخما..كيف لا وقد كنت أشعر أنني قد ولدت من جديد..
إلى أن جاءني كبير الأساقفة..وعلمت منه عام ميلادي الحقيقي..وعلمت أنني كنت مخطئة في حساباتي طيلة هذه السنين..
لقد ولدت عام 1666 وليس 1665 كما كنت أظن..
واليوم أتممت الخمسين من عمري..
أنا لا أحتفل بعيد ميلادي..بل أحتفل بوفاتي..سأموت اليوم وفي بطني هذا الجنين..
وأجهشت السيدة بالبكاء فاندفع إليها ابناها واحتضناها وقال (ماركوس):
اهدئي يا أمي..إن اليوم عيد ميلادك..والناس كلهم ينتظرونك..أرجو منك أن تنزلي معنا لهم الآن..وسيكون لدينا متسع من الوقت لكل شيء..
في حين قالت الابنة وهي تبكي:
كثير على النفس هذا الذي قلتيه يا أماه..سوف نسافر معا بعد نهاية الاحتفال..سننتقل إلى منزل آخر.. مدينة أخرى..بل دولة أخرى..لن نتركك تعيشين في هذا القصر يا أماه..إن الحياة فيه قد تركت أثرا عميقا في نفسك..
قالت الأم التي لم يبد أنها قد سمعت حرفا مما قاله ابناها:
والآن يا ابناي قد حانت لحظة الوداع..شيء واحد فقط أرجوه منكما..
فكا هذا الرباط الأسود وشاهدا معا أثر أصابع اللورد لتعلما أنني لم أكن كاذبة..
فتقدم الشاب والفتاة وفكا الرباط وبالفعل رأيا الآثار واضحة..
فابتسمت الأم في ارتياح وسهمت ببصرها وقالت بصوت ضعيف:
بقي شيء هام نسيت أن أقوله لكما..
مبروك يا ولدي (ماركوس)..سوف تتزوج (باتريشيا) ابنة اللورد (تايرون)
والآن..اخرجا الآن واستدعيا خادمتي الخاصة..
وخرج الابنان..واستدعيا الخادمة..ودخلت الخادمة ونزل الابنان إلى الضيوف..
كان في نيتهما أن يقولا إن تعبا طارئا ألم بأمهما..وأنها ستكون بخير وتهبط للترحيب بضيوفها بعد قليل
ولكن سبقتهما صرخة الخادمة المولولة:
ماتت سيدتي..ماتت سيدتي..
وفي جنازة السيدة (نيكولا) كان ابنها (ماركوس) يسير وبجواره شابة حسناء..وكان يقول لها:
كنت أنتوي مفاتحة أمي في أمر زواجنا هذه المرة كما اتفقنا..كنت أظن أنها لم تكن تعلم بأمر حبنا..ولكن الحقيقة أنها كانت تعلم..والدك أيضا كان يعلم..وقد باركا زواجنا..
وتقول الفتاة في ذهول: والدي كان يعلم..لم أفهم!!!
فيربت (ماركوس) على كتفها ويقول:
نعم والدك..إنها قصة عجيبة..سأرويها لك فيما بعد
بقلم : د. مؤمن احمد عباس
ك ا ب و س
جمعية الموتى لندن .. تعج بالمنازل القديمة ؟
نحن الآن في (لندن) و(لندن) كأي مدينة أخرى تعج بالمنازل القديمة التي يفوح من بين جنباتها عبق التاريخ..
ومن المعتاد أن تتحول تلك البيوت بمرور الزمن إلى مزارات سياحية أو تترك مهجورة ليرتع فيها الصدأ والعطن كيفما شاءا..هذا فضلا عن بعض البيوت التي لم تزل مسكونة إلى الآن سواء من طائفة الفقراء والمشردين أو ممن آلت إليهم ملكية تلك البيوت إرثا فلم يشاءوا أن يهدمونها حرصا على تراث عائلاتهم من الاندثار..
وسط تلك البيوت يقف بيتا قديما مثلها..عمره يربو عن الثلاثمائة سنة..
بيت قديم ولكنه عادي..عادي جدا إن شئتم الدقة..صحيح أن بابه ضيق وسلالمه مظلمة وأبوابه تصدر صريرا حال فتحها وتفوح منه الروائح الكريهة وتغطي الأتربة المتراكمة على مر السنين كل شبر فيه..
ولكن هذا لعمري هو ديدن كل البيوت القديمة..فلا جديد يذكر في هذا الشأن..
ولكن لماذا يخشى الناس هذا البيت دونا عن بقية البيوت التي حوله؟..
لماذا يحرصون على إصدار تعليمات صارمة لأطفالهم بعدم اللهو بجوار هذا البيت أو ولوجه؟..
لماذا يمتنع المشردين عن المبيت فيه؟..
الجميع بالتأكيد يعرف الإجابة..ولكن يفاجئك صمتهم عندما تسألهم عن سر هذا البيت..
فقط تتسع عيونهم في خوف ظاهر وترتفع أكفهم منذرة وألسنتهم تصرخ فيك قائلة:
(إلا هذا البيت..ابتعد عنه كأنما يطاردك ألف شيطان..لقد قمنا بواجبنا وحذرناك..وأنت حر في اختيار قدرك)
وعندما تسألهم (لماذا لم تقم السلطات بإزالة هذا البيت وهدمه ومحو أثره طالما أن الناس يخشونه إلى هذا الحد؟؟)
تجدهم يبتسمون ابتسامة شفقة مغلفة بالغموض ثم يقولون لك:
(يا لك من مسكين..وهل تظن أنهم لم يحاولوا من قبل؟؟..إن محاولات هدم هذا المنزل الملعون مستمرة منذ عهد الملك (جورج الثاني) وكلما هم أحدهم بتنفيذ الفكرة تجده يتراجع في آخر لحظة بشكل لا يثير الدهشة فقط وإنما يثير المزيد من الخوف من هذا البيت أيضا)
هذا هو ما حدث مع السير(كيلي كوش) أستاذ الأدب الإنجليزي المعروف..والذي جمع قصة هذا البيت وغيره في كتابه الشهير (خرافات مفيدة) والذي أصدره في مايو عام 1940..
يقول السير (كوش):
(صدمتني إجابات الناس المبهمة في البداية..ولكن هذا ما زادني إلا إصرارا وتصميما على المضي قدما لمعرفة سر هذا البيت)..
وبالفعل ذهب السير (كوش) إلى أرشيف جامعة (كامبردج)..وظل يبحث إلى أن عثر على تاريخ ذلك البيت..
من ثم ذهب مجددا إلى البيت وقد قرر أمرا خطيرا..
قرر أن يبيت في هذا البيت ليلة بمفرده..ليرى ويسمع ويدون بنفسه كل شيء..
يقول السير (كوش) عندما وصلت إلى البيت وأخبرت الحارس العجوز بما أنتويه..انتفض من الدهشة واتسعت عيناه وهو يقول:
(أأنت مجنون لتقدم على هذا الفعل الأخرق؟؟)
فلم أرد إلا بابتسامة هادئة جعلت الرجل يقوم ضاربا كفا بكف ليقودني إلى مدخل البيت وهو يتمتم:
(إن هذا العالم ملئ بالمجانين..لا ريب في ذلك) ؟
وفر وطواطين الى الداخل هربا من الضوء المقتحم وعندما فتح الحارس الباب الصدئ الذي بدا وكأن أحدا لم يفتحه منذ مئات السنين بالفعل أصدر الباب صريرا مزعجا وتهاوت علينا بعض الأتربة والأحجار الصغيرة..وفر وطواطين للداخل هربا من الضوء المقتحم..
وزكمت أنفينا الروائح العطنة..عندها قال لي حارس البيت بنبرة سخرية:
(أنت مازلت شابا شجاعا باحثا عن الحقيقة..ولكنك تبدو متهورا ككل الشباب..أنت حر..ولكن قبل أن أتركك أريد أن أسألك سؤالا يا ولدي:ما هو نوع الزهور التي تحب أن أضعها على قبرك؟؟)
فيضحك السير (كوش) ضحكة يداري بها الرجفة التي تعتريه ويقول:
(أي نوع يا سيدي)
ويبتعد الحارس متمتما ببضع كلمات خافتة لم يسمعها (كوش) وإن كان قد خمن معناها..ولكنه لم يلتفت إليها إذ يمم وجهه شطر المدخل وارتقى السلم الضيق ودخل المنزل..
فماذا رأى؟؟..
وماذا سمع؟؟..
وماذا عرف؟؟..
هذا ما سنعرفه الآن ونحن نقلب في صفحات كتابه (خرافات مفيدة)..فهيا بنا..
تجد جمعيات تمارس انشطة غريبة جدا ؟
يقول السير (كوش):
من عادة الناس في (لندن) أن يكونوا جمعيات لكل رغبة خاصة بهم حتى لا يتهمهم أحد بالجنون أو بأنهم عنصر هدام في المجتمع..وحتى يستطيعوا ممارسة رغباتهم تلك دونما رقيب أو سخرية من أحد المتطفلين..
وهذه الجمعيات قديمة قدم الدهر..وتشمل كل ما يمكن أن يخطر على البال..
فتجد جمعيات تمارس أنشطة غريبة جدا..
فهناك جمعية جامعي أغطية الزجاجات..وهناك جمعية جامعي الزجاجات الفارغة..وهناك جمعية النوم وحيدا حتى الموت ..وهناك جمعية محبي النوم في فراش الآخرين..إلى غير ذلك من المسميات والرغبات العجيبة..
وقد اصطلح الجميع على تركهم يمارسون حرياتهم الشخصية طالما كانوا بعيدين عن إيذاء الآخرين أو إلحاق الضرر بهم..فحريتهم الشخصية تلك يكفلها القانون..بل وتحميهم الشرطة أثناء احتفالاتهم وتجمعاتهم درءا للفضوليين..
ومعروف للجميع أماكن تجمع شباب تلك الجمعيات التي تكون إما منزل أحدهم أو ناد خاص..
وكذلك طقوس احتفالاتهم وماذا يأكلون وماذا يشربون أثنائها..كل ذلك معروف..
ومن وجد في إحدى تلك الجمعيات ما يوافق هواه فله أن ينضم إليها مباشرة..
لذلك فلكل إنسان هناك جمعية يمارس من خلالها هواياته ويفرغ طاقاته المكبوتة ..
كل هذا يبدو جميلا في مجتمع ديمقراطي تبدو فيه الصورة وردية وتمارس فيه الحريات الشخصية على أوسع نطاق تحت شعارأنت حر ما لم تضر)..
في عام 1730 قرر سبعة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الثانية والعشرين والثلاثين تكوين جمعية من تلك الجمعيات وسموها (جمعية السبعة الدائمين أحياء أو ميتين)..
وقد اعتاد هؤلاء السبعة على أن يتلاقوا في هذا البيت يوم 2 نوفمبر من كل عام وهو (يوم الأرواح) طبقا للمعتقد الشعبي السائد آنذاك في (أوروبا)
هؤلاء السبعة لم يكن لهم هدف محدد..ولم يكن لهم برنامج معين يناقشونه فيما بينهم..
فاجتماعاتهم تقتصر على الأكل وشرب الخمر والغناء والرقص ولعن كل المقدسات وكل الأديان من أولها إلى آخرها..
وفي ساعة متأخرة من الليل يهدأ الجميع ويعودون إلى بيوتهم على أن يلتقوا مجددا عشية اليوم التالي لتكرار ما فعلوه في يومهم هذا..وتستمر الاجتماعات لمدة سبعة أيام متعاقبة..وفي نهاية الأسبوع يتفرق الجمع الصاخب على أن يتواعدوا على الاجتماع مجددا عشية يوم 2 نوفمبر من العام التالي وهكذا دواليك..
ومن الغريب أن هؤلاء الشباب كانوا يحتفظون بسجل ضخم يدونون فيه محاضر جلساتهم..وعندما عثرت عليه اندهشت بشدة..فكيف كان هؤلاء السكارى يدونون كل شيء يحدث بينهم بمنتهى الدقة والأناقة الظاهرة في ذلك السجل..
فهاكم لائحة الجمعية الداخلية التي تتصدر أولى صفحات السجل وتنص على أن:
1- تتكون الجمعية من سبعة أعضاء..أحياء أو موتى..فالذي يموت منهم يظل عضوا..فإذا مات جميع الأعضاء انحلت الجمعية ولم يعد لها وجود..
2- الأعضاء دائمون وغير مقبول انفصالهم عن الجمعية فيما بعد..
3- لا تقبل الجمعية أي عضو جديد
4- تجتمع الجمعية سنويا في يوم 2 نوفمبر من كل عام ومن يتخلف عن الحضور لأي سبب يوقع عليه بقية الأعضاء ما شاءوا من عقوبات..
5- في حالة إصابة جميع الأعضاء بالجنون المطبق وإيمانهم التام بأنه لا فائدة من الكلام أو عندما يفقدون أي رغبة في الحوار فيما بينهم فعليهم أن يصمتوا إلى الأبد ويتحول اسم الجمعية إلى (جمعية الأدباء الصامتين حتى الموت)
وهاكم مثلا الحوار الذي دار بينهم في أول اجتماعاتهم بتاريخ 2 نوفمبر 1730
يقول رئيس الجمعية (آلان ديرمو) وهو فرنسي من (باريس):
(لقد قررنا أن نجتمع هنا اليوم..ثم ماذا بعد؟؟..لابد أن تكون هناك حكمة..لابد أن يكون هناك سبب وجيه لاجتماعنا هذا)..
يرد عليه أحد الحاضرين قائلا:
(ليس من الضروري أن يكون هناك سبب وجيه لأي شيء..فليس هناك سبب وجيه لكي تكون أنت أنت أو تكون موجودا..ولا أنا ولا أي شخص آخر..أليس هذا صحيحا؟؟)..
ويقول آخر:
(إذن فقد اجتمعنا هنا دون سبب!!)..
فيلتقط (ديرمو) طرف الحديث قائلا:
(ليس من الضروري أن يكون لكل شيء سببا..لقد اجتمعنا..وجلسنا..وها نحن أولاء نتناقش سويا..فقط لأننا بحاجة إلى الكلام..لأننا إذا لم نتكلم متنا..وواضح أننا لا نريد أن نموت..لقد ارتدينا ملابس ثقيلة خوفا من البرد..وأكلنا اتقاء للجوع..وشربنا بحثا عن دفء يسري في أوصالنا الباردة..وغنينا ورقصنا وضحكنا حتى لا يقضي علينا اليأس..وروى كل منا قصة غرامه اعتزازا برجولته الغضة..واضح أننا نريد كل الذي فعلناه وهذا يكفي)..
ثم وقعوا بأسمائهم على محضر الجلسة وانصرفوا..
والملاحظ أن محاضر الجلسات قد توقفت نهائيا يوم 2 نوفمبر عام 1766..وجاءت توقيعات الأعضاء في غاية الأناقة والوضوح..
إلى هنا وكل شيء يبدو عاديا..ولكن ما سأذكره لكم الآن نقلا عن السجلات الحكومية الرسمية سيثير دهشتكم بشدة..وعندها ستعرفون السر...
طعنه بالسيف في بطنه فظل ينزف ؟
في يوم 30 أكتوبر من عام 1763..ثبت من السجلات الحكومية في (باريس) وفاة (آلان ديرمو) نتيجة اشتباكه مع أحد خصومه الذي طعنه بالسيف في بطنه فظل ينزف لدقائق فاضت روحه بعدها..
إذن فرئيس الجمعية قد مات قبل موعد انعقاد الاجتماع السنوي في تلك السنة بثلاثة أيام..
ولكن بالرجوع إلى محاضر جلسات الجمعية..التي انعقدت يوم 2 نوفمبر 1763 نجد أن الأعضاء قد اجتمعوا كعادتهم..وغنوا ورقصوا وأكلوا وشربوا ثم جلسوا وتناقشوا كعادتهم أيضا..ثم وقعوا بإمضاءاتهم السبعة على محضر الجلسة وانصرفوا..
وبالاطلاع على ما دار في هذا المحضر نجد أن (ديرمو) كتب يقول:
(إنني ملتزم باللائحة الداخلية للجمعية..فالعضو يظل عضوا بها حيا أو ميتا)..
فسأله أحد الأعضاء:
(وهل هذا معقول؟؟)..
فرد عليه (ديرمو) قائلا:
(طبعا معقول..أعطني شيئا معقولا واحدا في هذه الدنيا وسأجد فيه شيئا لامعقولا)..
ولأول مرة بعد إغلاق محضر الجمعية وتوقيع جميع الأعضاء السبعة عليه وانصرافهم في الواحدة صباحا..يعودون لإضافة هامش أسفل توقيعاتهم يقرون فيه بوفاة رئيس الجمعية وأن عليهم انتخاب رئيس جديد..
ثم يوقع السبعة مرة أخرى أسفل الهامش بتوقيت الثانية والنصف صباحا..
فكيف عرف بقية الأعضاء الستة بوفاة (ديرمو) في (باريس) وهم يجتمعون في (لندن) في عصر كان نقل الأخبار فيه يحتاج لأيام وربما لأسابيع حيث لم تكن هناك أي وسيلة اتصالات ولا حتى التليفون ذاته..
ثم وهذا هو السؤال الأهم..كيف يكون (ديرمو) معهم بعد وفاته؟؟ وإن لم يكن هو فمن أو ما الذي كان معهم؟؟ وكيف لم يلاحظوا أي فرق بينه وبين (ديرمو)..
وبالعودة إلى السجل وجدت أن (ديرمو) قد أعلن في محضر اجتماع يوم 3 نوفمبر 1763 أنه قد أصبح عضوا ميتا..وأنه لم يعد يصلح لرئاسة الجمعية..وأجري تصويت بين الأعضاء وتم انتخاب الأستاذ (بلاسيس) مدرس الأدب الإنجليزي كرئيس جديد للجمعية...
والغريب أن خط (ديرمو) لم يتغير بل ظل الخط الأنيق نفسه المكتوب في المحاضر السابقة..
وعلى هذا تنتفي شبهة أن أحدهم قد انتحل شخصيته...
ليس هذا فحسب..فالأغرب لم يأت بعد..
في 2 نوفمبر من العام التالي اجتمع الأعضاء السبعة كاملين في ذات المكان..
وفي محضر الاجتماع أعلن السيد (إدوارد ماكفيل) وهو أحد أعضاء الجمعية وكان ضابط بالحرس الملكي الإنجليزي..
أعلن هذا العضو أنه قد أصبح عضوا ميتا نتيجة سقوطه من على صهوة جواده من فوق قمة أحد التلال قبل الاجتماع السنوي بأربعة أشهر تقريبا..
وبالعودة للسجلات الحكومية ثبت هذا فعلا بتاريخ 5 يوليو 1764
وبالعودة إلى سجل اجتماعات الجمعية..كان من الواضح كما تتوقعون أنه ذات التوقيع وذات الخط..
وأكمل الخمسة الباقون اجتماعهم بصورة عادية..ولكنهم بالطبع أصيبوا بالرعب عندما اكتشفوا أنهم كانوا يأكلون ويشربون ويرقصون مع اثنين من الموتى..وعندما انتهى الاجتماع كانوا قد اتخذوا قرارا في محضر تلك الجلسة بعدم العودة لعقد الاجتماعات وتصفية تلك الجمعية..ووقع الخمسة الباقين أحياء على ذلك..
ولكن في اليوم التالي وطيلة باقي أيام الأسبوع حضر الجميع..واستمرت محاضر الجلسات واستمر توقيع الأعضاء السبعة عليها كما هو..ولم يتغير شيء..
وفي العام التالي حضر الجميع في نفس الموعد السنوي..وأعلن عضو ثالث أنه أصبح ميتا..واستمرت اجتماعات السبعة..وفي نهاية الأسبوع أعلن عضو رابع أنه قد أصبح ميتا..
وبعده بشهرين توفي الخامس وبعد وفاته بثلاثة شهور توفي السادس..
العضو الوحيد الباقي على قيد الحياة .
وفي يوم 2 نوفمبر عام 1766 ذهب إلى ذات البيت العضو الوحيد الباقي على قيد الحياة..والعجيب انه كان الأستاذ (بلاسيس) نفسه..وكان في نيته أن يرقص ويغني ويأكل ويشرب لوحده ثم يحطم كل شيء ويشعل النار في المنزل..ثم يغادره إلى غير رجعة..
وذهب..وجلس وفتح السجل وكتب:
أنا العضو الوحيد الباقي حيا..لقد قررت أن أنهي كل شيء..وأن أحرق الوثائق التي تدل على هذا العمل الجنوني الذي لا أعرف كيف حدث..لم أكن أرغب في المجيء إلى هذا المكان مرة أخرى..ولم أدر كيف جئت..إنني أرى طريقا فأمشي..وأقف أمام الباب فينفتح..وأضع قدمي على أولى درجات السلم فيحملني السلم إلى أعلى..وأدخل غرفة الاجتماعات وأجلس على مقعد فيندفع بي إلى الأمام لأجد السجل مفتوحا ومدونا به تاريخ اليوم..وأمد يدي إلى القلم فيسبقني الأخير إلى الورق..وأكتب ما كتبت وأوقع باسمي لأفاجأ بأن الستة إمضاءات الأخرى للأعضاء المتوفين قد تراصت الواحدة بجوار الأخرى أسفل إمضائي..إنهم معي..إني أراهم وأتحدث معهم..إنهم يلهون معي كعادتهم دائما..ها هو (ديرمو) يربت على كتفي ويدعوني للرقص..وها هو (ماكفيل) يقدم لي كأس الشراب..إنهم يقهقهون ويرقصون في سعادة ويدعونني لمشاركتهم..ولكنني آسف لكم جميعا..فسأحرق وأدمر كل شيء)..
انتهى كلام الأستاذ (بلاسيس) بتوقيت الثامنة وعشرين دقيقة كما دون هو بنفسه..
ولكنه لم يستطع فعل أي شيء..
فقد بقي السجل وأدوات الطعام وكئوس الشراب وأثاث الغرفة والبيت بكامله لم يمس..
والأكثر غرابة أن المحضر الأخير جاء فيه بعد نهاية كلام الأستاذ (بلاسيس) ما يلي:
(لقد حضر جميع الأعضاء في موعدهم السنوي واكتمل العدد القانوني..وعلى رئيس الجمعية أن يعلن نفسه عضوا ميتا)
وأعلن الأستاذ (بلاسيس) أنه قد أصبح عضوا ميتا..
وأعلن جميع الأعضاء أنهم قد أصبحوا كلهم موتى..
ووقع جميع الأعضاء على محضر الجلسة بتوقيت الحادية عشرة وأربعين دقيقة..
والثابت من أقوال شهود العيان أن الأستاذ (بلاسيس) قد غادر البيت إلى منزله في حوالي التاسعة وكان ساهما مضطرب الفكر زائغ النظرات محموما..ومات على فراشه في منزله في حوالي العاشرة مساء قبل وصول الطبيب الذي استدعته زوجته ليقوم بالكشف عليه ومعرفة ما دهاه...
وفي 2 نوفمبر من كل عام ولمدة أسبوع يسمع الناس ضوضاء وأصوات احتفالات وأشخاص يعربدون في هذا البيت ويعيثون فيه فسادا كل ليلة..فإذا دخلوا لاستقصاء الأمر هدأ كل شيء ولم يجدوا أثرا لأي شيء..
وإحقاقا للحق فإنني لم أر أو أسمع طيلة الليل ما يريب..بل غلبني النوم قرب الفجر فنمت ملئ جفني..ولم أستيقظ إلا والشمس في كبد السماء..
لذلك فأنا لا أجد تفسيرا لما يرويه الناس في كل مكان..وأنا الآن في غاية الحيرة..
لا أستطيع تكذيب ما سمعت وما يرويه الناس..ولكني لا أستطيع إثباته بالفعل..
ربما لأنني اخترت ليلة خاطئة فلم يحدث شيء..
ربما كان علي اختيار ليلة الثاني من نوفمبر أو أي ليلة في غضون أسبوع بعدها كما كان أعضاء الجمعية يجتمعون سنويا..
حتما هذا هو التفسير الصحيح لعدم حدوث شيء..
لذلك قررت أن أقضي ليلة الثاني من نوفمبر القادم في هذا البيت وحدي مرة أخرى..ربما أرى ما يميط اللثام عن هذا اللغز..
وعد الحر دين عليه
في يوم صحو من أيام صيف عام 1693 عاد السير الشاب (تريسترام) ذو الثلاثة والثلاثون ربيعا إلى قصره الضخم في (دبلن) في (أيرلندا) وسأل مشرفة القصر عن زوجته السيدة (نيكولا) فأخبرته أنها طريحة الفراش فهرع إليها جزعا وجلس بجوارها وقد هاله شحوبها وسألها بصوت مرتجف:
ماذا ألم بك اليوم عزيزتي؟
أجابته زوجته بصوت مجهد:
لا تخش شيئا عزيزي..أنا بخير..ولكن أرجو منك لطفا ألا تسألني عن هذا الشريط الأسود الذي لففته حول ذراعي اليوم ولن أخلعه طيلة حياتي..
فأجابها مهدئا:
لك هذا عزيزتي ولكن هل أستدعي الطبيب؟
فقالت بنبرة حزن:
لا عليك..أنا بخير ولكني اليوم في حزن عظيم..فقد توفي اللورد (تايرون) منذ ثلاثة أيام..مات بالتحديد يوم الأربعاء الماضي في الرابعة عصرا..
ضحك زوجها وقال:
وكيف عرفت؟؟ عهدي بك متحررة التفكير..مقبلة على كل متع الحياة..فماذا دهاك اليوم؟؟
فقالت الزوجة:
لقد مات اللورد..هذا مؤكد..إنني أشعر بهذا..أنت تعلم أننا ولدنا سويا في عام واحد ونشأنا وتربينا سويا..كنا أخوين..بل توأمين..وكانت صلتنا عميقة..وأنت تعرف هذا الرباط الروحي الذي كان بيننا...
يرد الزوج قائلا:
دعك من هذه الوساوس ولا تصدقي تلك الخرافات..هيا فسآمر الخدم بإعداد الخيول وسآخذك في نزهة في الغابة لعل هواءها المنعش أن يذهب عنك ما يعتريك..
فقالت الزوجة:
أخشى أنني لن أستطيع الاستجابة لطلبك..فعندي خبر سيسعدك بالتأكيد..إنني حامل...
افتر ثغر الزوج عن ابتسامة واسعة..وقام من فوره مناديا كل الخدم قائلا:
لا خيول بعد اليوم..إن سيدتكم ستلزم الفراش طيلة الشهور القادمة..فنحن ننتظر حادثا سعيدا...
فقالت الزوجة:
والمولود سوف يكون ذكرا..
ولم يشأ الزوج أن يعلق على كلام زوجته وإن أخذته الدهشة للحظات ثم عاد للضحك ناسبا الأمر لرغبة زوجته الداخلية..وانغمس كل من في القصر في الضحك والرقص والغناء ابتهاجا بسيدتهم..
وانطلق الزوج يداعب زوجته ويعدها بمزيد من البنين والبنات والأحفاد..
كان هذا حين جاء أحد الخدم يعلن أن رسالة قد جاءت من قصر اللورد (تايرون) في (لندن)..
كانت الرسالة من سكرتير اللورد..وعندما قرأها السير (تريسترام) شحب وجهه..كانت رسالة مقتضبة يعلن فيها السكرتير عن وفاة اللورد يوم الأربعاء في الرابعة عصرا...
ولكنه لم يتوقف أمام الأمر كثيرا بل عاد لابتهاجه وسروره بوليده المرتقب..
وبعد شهور أنجبت السيدة (نيكولا) طفلها الأول..وكان ذكرا..سماه والده (ماركوس)
وبعد ست سنوات بالتحديد..توفي السير (تريسترام)..
قررت الارملة الشابة ان لا تتزوج
وقررت الأرملة الشابة ألا تتزوج وأن تعتزل الحياة في قصرها وتتفرغ لتربية طفلها..ذلك على الرغم من أنها كانت في ريعان الشباب..حيث كانت في الرابعة والثلاثين من عمرها..وكانت تتمتع بجمل أخاذ..
ولكن حتى الكنيسة اعتزلتها..ولم تكن تذهب لحضور الصلوات بها..
وفجأة بعد بضع سنوات قررت (نيكولا) أن تستأنف حياتها بصورة طبيعية..فكانت تذهب إلى الكنيسة لحضور الصلوات بانتظام..وانبهر الناس بجمالها ورقتها..وكان من الطبيعي أن يتوافد عليها الخطاب ما بين نبلاء أو طامعين في ثرائها..وكان من الطبيعي أن تميل لأحدهم..ثم تتزوجه رغم كونه أصغر منها سنا..
واتضح لها سوء اختيارها لأن زوجها كان طامعا في مالها..فعاشت معه ويلات وكابدت بسببه عذابات عديدة..
إلى أن حملت منه وأنجبت له ابنه..فهدأت عاصفة نفسه..وهام بها حبا..واستمرت الحياة بلا منغصات..ومضت السنون..وعندما أتمت السيدة (نيكولا) الحادية والخمسين من العمر أرادت أن تحتفل بعيد ميلادها..ولكنها أرادته احتفالا ليس كأي احتفال..فقد كانت تحتفل بشيء آخر..كانت حامل..وكانت هي وزوجها في قمة السعادة..
لذلك دعت كل المعارف والأقارب والأصدقاء..واستدعت ابنها (ماركوس) من (لندن) حيث كان يدرس..وطلبت منه ومن ابنتها بل وحتى الخدم والوصيفات أن يدعوا كل معارفهم وأصدقائهم..أرادته احتفالا عظيما..وكانت في قمة السعادة وضحكاتها المجلجلة تسبقها على غير عادتها الرصينة..وبدت للجميع كأنها ارتدت شابة..وسعد الجميع لسعادتها..فقد كانت عطوفة رءوفة بالكل..
حتى كبير أساقفة (لندن) دعته ليباركها..
وجاء كبير الأساقفة..ودخل عليها جناحها ليباركها..ونهضت لاستقباله هاشة باشة..فقال لها باسما:
أنا سعيد برؤيتك يا ابنتي الصغيرة..كل عام وأنت بخير..
فقالت ضاحكة:
صغيرة!!..كم أنت مجامل يا أبتاه..أنا لم أعد صغيرة..
فقال الأب:
لا تبدو عليك سنك يا ابنتي..فأنت جميلة الوجه..شابة الروح..ومن يراك اليوم لا يمكن أن يتخيل أنك أتممت لتوك الخمسين من العمر..
ضحكت السيدة (نيكولا) وقالت:
بل في الواحدة والخمسين يا أبتاه..ألم أقل لك أنك مجامل..
فقال الأب:
بل أنا أعني ما أقول فأنت الآن في الخمسين من العمر..لقد حضرت تعميدك بنفسي..
فقالت (نيكولا) وقد غاض وجهها واضطربت ضحكتها:
بل في الخمسين يا أبتاه فقد ولدت مع اللورد (تايرون) رحمه الله في عام واحد..عام 1665
فقال الأب:
لا يا ابنتي..لقد ولدت بعد ذلك بعام واحد..ولدت سنة 1666..بعد أيام من الحريق الشهير الذي شب في (لندن) والذي كاد يفني المدينة كلها وقتها..
وامتقع وجه السيدة (نيكولا) وتهاوت على فراشها..ولكنها تماسكت وعاونها الأب على الوقوف وقالت:
يا أبي..لقد حكمت الآن بموتي..سوف أموت اليوم..لا شك في هذا..أرجوك أن تخرج الآن وتستدعي ابني وابنتي بسرعة..أرجوك فليس لدي وقت كاف..
وخرج كبير الأساقفة..واستدعى الابن والابنة..ودخل الاثنان على والدتهما وهي طريحة الفراش لا تقوى على النهوض..فطلبت منهما أن يغلقا الباب جيدا حتى لا يدخل أحد ثم يقتربا ويستمعا لقصتها..ومضت تقول:
ليس لدي متسع من الوقت..لأنني سوف أموت اليوم..أرجو أن تستمعا إلى قصتي..
تعلمان أنني واللورد (تايرون) كنا صديقين ..بل أخوين توأمين وتربينا سويا وكان يشرف على تربيتنا أستاذ من أساتذة الفلسفة..وكان متحررا كافرا..لا يؤمن بالله ولا بأي دين..ولا بأي ثوابت مطلقا..كان يرى أننا نعيش في هذه الدنيا.. ثم نموت كما تموت الكلاب..ثم بعدها..لا شيء.. لا حساب..لا قيامة..لا ثواب ولا عقاب..بل لا إله من الأساس..لذلك فليس لنا غير هذه الحياة..ومن الأفضل أن نعيشها كما يحلو لنا..ونحن أحرار في حياتنا نفعل فيها ما نشاء وقتما نشاء..
وقد حاول الرجل غرس تلك الأفكار في عقولنا..ولكن رغم أننا كنا أطفالا يتم تلقيننا بدون أن نفقه شيئا..إلا أن فطرتنا السوية كانت تأبى تلك الأفكار..لذلك فقد حرصنا على الصلاة والتقرب إلى الله سرا..واتفقنا سويا أن الذي يموت منا أولا يجب أن يعود ليقول للآخر ما الذي رآه في العالم الآخر..وهل نحن على صواب أم أستاذنا ومربينا؟؟..وأيهما أفضل..الكفر أم الإيمان؟؟؟..
وتعاهدنا على ذلك..وأقسمنا بكل عزيز وغال لدينا..
ثم كبرنا..وافترقنا..فتزوجت السير (تريسترام) وانتقل اللورد (تايرون) ليعيش في (لندن) وانقطعت أخباره ولم أعد أراه..
وفي إحدى الليالي كنت نائمة وحدي حيث كان أبوك يا ولدي يبيت بالخارج في مهمة خاصة بأعماله..وفجأة شعرت بوجود رجل في الحجرة واقفا بجوار فراشي..ففتحت عيني خائفة وإذا بي أرى اللورد جالسا على طرف السرير بجواري..ونظرت إلى اللورد (تايرون) غاضبة وهتفت به بانزعاج:
كيف أتيت إلى هنا؟
فقال بابتسامة هادئة وصوت بدا وكأنه يخرج من جب عميق:
جئتك لتنفيذ الاتفاق السابق والعهد الذي قطعناه على نفسينا..
قلت باضطراب:
لا أفهم..
فقال وابتسامته الهادئة تتسع:
هل نسيت أننا اتفقنا في طفولتنا وتعاهدنا أن الذي يموت منا أولا يعود ليقول للآخر ما الذي رآه في العالم الآخر؟
فقلت بدهشة:
نعم..نعم..أذكر ذلك جيدا
فقال:
وأنا مت يوم الأربعاء في الرابعة عصرا..وجئت أخبرك بكل ما تريدين معرفته..
فانعقد لساني من الدهشة للحظات..ثم إن لهفتي فاقت دهشتي فانطلقت أقول له:
وما الذي رأيته وعرفته؟؟..
فقال بهدوء:
إن الإيمان بالله هو الطريق القويم..وإن هناك إلها..وإنه لا إله إلا الله..وإن الخير حق..والحب حق..والعطف والرحمة حق..وإن الدنيا زائلة..وإن هناك حياة أخرى أروع وأجمل مما تتصورين..
أما عنك أنت فأنت حامل منذ شهر في طفل ذكر..وسيسميه زوجك (ماركوس) وأنك ستعترضين على الاسم لرغبتك في تسميته باسمي..
وزوجك سيموت بعد ستة أعوام..
وستعتزلين الناس..ثم تتزوجين من شاب يصغرك في السن..يذيقك صنوف العذاب إلى أن تنجبي له طفلة فيتغير وتعيشين معه سعيدة إلى أن تموتين يوم عيد ميلادك الخمسين وفي بطنك جنينا..
فسألته:
وهل أستطيع منع ذلك؟؟..
فقال:
ومن ذا الذي يستطيع منع القدر؟؟..
فقلت:
وهل أنت سعيد في حياتك الأخرى؟؟
فقال:
بالتأكيد والحمد لله وإلا لما كنت أستطيع أن آتي إليك..
فقلت:
ولكن كيف لي أن أعرف أن الذي أراه الآن حقيقة وليس مجرد حلم أو وهم؟؟
فقال:
ألم أخبرك بأنني مت يوم الأربعاء في تمام الرابعة؟..ألا يكفيك هذا؟؟
فقلت:
لا يكفيني..إنني أعرف ناسا كثيرين يحلمون بمثل هذه الأحلام ويرون في أحلامهم العجب العجاب..
فقال:
إذن سأمسك سيخين من حديد تلك النافذة وأجدلهما كالضفيرة..وهذا ما لا يستطيع عمله البشر..
فقلت باندفاع:
بل يستطيع النائم أن يفعل أكثر من ذلك..لقد قرأت عن القوى الخارقة التي يتمتع بها النائمون دون أن يدروا بوجودها لديهم
فقال وقد اتسعت ابتسامته:
عهدي بك دوما عنيدة..لذلك سأترك على ذراعك أثرا لا يمحى..ولكن أرجو ألا يراه أحد ما دمت حية..
ثم لمس ذراعي بأصابعه التي كانت كالرخام البارد..وبالفعل تركت أصابعه على ذراعي خمس علامات حمراء..
وطلب مني أن أربط يدي بشريط أسود سيتركه لي على النافذة..ثم ودعني واختفى..
وعندما قمت مشدوهة إلى النافذة وجدت سيخين منها وقد تم جدلهما كالضفيرة وقد التف حولهما هذا الشريط الأسود..فأخذته ولففته حول ذراعي لأداري به أثر يد اللورد كما طلب مني..ثم جلست في فراشي مذهولة مهمومة حتى دخل علي والدكما في الصباح بعد عودته..
بعدها أنجبناك يا ولدي..وقد وجدت ما يدفعني لأن أطلب من والدك أن نسميك (تايرون) ولكنه كان قد قرر أن يسميك (ماركوس) بالفعل..ليس هذا فحسب..بل لقد توفي أبوك بعد ست سنوات في التوقيت الذي حدده اللورد بالضبط..مما أصابني بالرعب وأنا أستعيد كلمات اللورد في تلك الليلة..
تذكرت أنه قال لي أنك ستتزوجين من رجل يصغرك..لذلك اعتزلت الناس وامتنعت عن الحياة الاجتماعية..بل وحتى الكنيسة لفترة..رغبة مني في عدم تحقق النبوءة..كنت خائفة للغاية..وكنت أحب الحياة وأرغب في أن أعيش طويلا..
ولكن غمرني شعور رهيب بالتقصير في حق الله..فكيف امتنع عن الذهاب للكنيسة ثم أدعي الإيمان وأطلب من الله المغفرة؟؟..
كنت أبكي وأصلي في صمت وأقول:
يا الله..يا أقوى الأقوياء..يا أرحم الرحماء..اغفر لي تقصيري في حقك..إنني ضعيفة وأنت العظيم..ولا أعرف من عظمتك إلا أقل القليل..ولا ذنب لي في ذلك..فعقلي أصغر من أن يعي عظمتك وقدرتك..
إنني نملة على جبلك الشاهق..إنني شمعة في شمسك المبهرة..ارحم ضعفي وتقصيري يا رب..
هكذا كنت أصلي وأتعبد يوميا لله..ولكن هذا لم يمح شعوري الرهيب بالتقصير..فقررت الذهاب للكنيسة حتى لا أكون مقصرة..
وفي الكنيسة رأيت أبوك يا ابنتي..كان شابا وسيما يصغرني بأربعة أعوام..ووقعنا فى هوى بعضنا من أول نظرة..وتعاهدنا على الزواج..وتزوجته رغما عني..فقد كنت أتهرب منه حتى لا نتزوج..ولكنه كان يحاصرني..وأخيرا تزوجنا..
وعندما تزوجنا كنت أتهرب منه في الفراش حتى لا أحمل..
وكنت أقول له يكفينا ابننا (ماركوس)..
فكان يقول إنني أحب (ماركوس) لا شك في هذا ولكنه ابنك أنت..وأنا أرغب في أن يكون لي مولود منك..أخ أو أخت لماركوس..
عندها كنت أتمنع عليه فكان يشتاط غضبا ويذيقني من صنوف العذاب ألوانا..حتى لقد اتهمني بأنني على علاقة بآخر..وهددني بالطلاق والفضيحة..
فلم يكن هناك بد من أن أستجيب له..وحملت فيك يا ابنتي وأنجبتك..
تماما كما قال اللورد (تايرون)..وأيقنت تماما صحة مقولته حين قال:
من ذا الذي يستطيع منع القدر؟؟..
وعلى هذا جلست أنتظر ساعتي..وعندما أتممت عامي الخمسين ترقبت النهاية..ولكن مر اليوم دون أن يحدث شيء..وظننت أن نبوءة اللورد لن تتحقق..وكانت سعادتي لا توصف..
وقبل أيام علمت أنني حامل في مثل سني هذا..ففاقت سعادتي السحاب..
وقررت أن أحتفل بعيد ميلادي الحادي والخمسين احتفالا ضخما..كيف لا وقد كنت أشعر أنني قد ولدت من جديد..
إلى أن جاءني كبير الأساقفة..وعلمت منه عام ميلادي الحقيقي..وعلمت أنني كنت مخطئة في حساباتي طيلة هذه السنين..
لقد ولدت عام 1666 وليس 1665 كما كنت أظن..
واليوم أتممت الخمسين من عمري..
أنا لا أحتفل بعيد ميلادي..بل أحتفل بوفاتي..سأموت اليوم وفي بطني هذا الجنين..
وأجهشت السيدة بالبكاء فاندفع إليها ابناها واحتضناها وقال (ماركوس):
اهدئي يا أمي..إن اليوم عيد ميلادك..والناس كلهم ينتظرونك..أرجو منك أن تنزلي معنا لهم الآن..وسيكون لدينا متسع من الوقت لكل شيء..
في حين قالت الابنة وهي تبكي:
كثير على النفس هذا الذي قلتيه يا أماه..سوف نسافر معا بعد نهاية الاحتفال..سننتقل إلى منزل آخر.. مدينة أخرى..بل دولة أخرى..لن نتركك تعيشين في هذا القصر يا أماه..إن الحياة فيه قد تركت أثرا عميقا في نفسك..
قالت الأم التي لم يبد أنها قد سمعت حرفا مما قاله ابناها:
والآن يا ابناي قد حانت لحظة الوداع..شيء واحد فقط أرجوه منكما..
فكا هذا الرباط الأسود وشاهدا معا أثر أصابع اللورد لتعلما أنني لم أكن كاذبة..
فتقدم الشاب والفتاة وفكا الرباط وبالفعل رأيا الآثار واضحة..
فابتسمت الأم في ارتياح وسهمت ببصرها وقالت بصوت ضعيف:
بقي شيء هام نسيت أن أقوله لكما..
مبروك يا ولدي (ماركوس)..سوف تتزوج (باتريشيا) ابنة اللورد (تايرون)
والآن..اخرجا الآن واستدعيا خادمتي الخاصة..
وخرج الابنان..واستدعيا الخادمة..ودخلت الخادمة ونزل الابنان إلى الضيوف..
كان في نيتهما أن يقولا إن تعبا طارئا ألم بأمهما..وأنها ستكون بخير وتهبط للترحيب بضيوفها بعد قليل
ولكن سبقتهما صرخة الخادمة المولولة:
ماتت سيدتي..ماتت سيدتي..
وفي جنازة السيدة (نيكولا) كان ابنها (ماركوس) يسير وبجواره شابة حسناء..وكان يقول لها:
كنت أنتوي مفاتحة أمي في أمر زواجنا هذه المرة كما اتفقنا..كنت أظن أنها لم تكن تعلم بأمر حبنا..ولكن الحقيقة أنها كانت تعلم..والدك أيضا كان يعلم..وقد باركا زواجنا..
وتقول الفتاة في ذهول: والدي كان يعلم..لم أفهم!!!
فيربت (ماركوس) على كتفها ويقول:
نعم والدك..إنها قصة عجيبة..سأرويها لك فيما بعد
بقلم : د. مؤمن احمد عباس
ك ا ب و س