الأنبياء وقومهم
الحمدُ للهِ ثمَّ الحمدُ للهِ، والصّلاةُ والسّلامُ الأتمّانِ الأكمَلانِ على سيّدِنَا مُحمدٍ سَيِدِ وَلَدِ عَدْنان، الصّلاةُ والسّلامُ عليكَ يا سيّدي يا رسولَ اللهِ يا من شُهِرْتَ بِوَصْفِ النبوَّةِ بينَ الملأِ الأعلى قبلَ أنْ تَكْتَمِلَ خِلْقَةُ ءادمَ عليهِ السّلامُ.
الصّلاة والسّلامُ عليكَ يا سيّدي يا رسولَ اللهِ يا مَنْ تَوَسّلَ بِكَ أبونا ءادمُ إلى اللهِ، الصّلاةُ والسّلامُ عليكَ يا سيّدي يا رسولَ اللهِ يا مَنْ بَعَثَكَ اللهُ رَحْمةً للعالمينَ هَادِياً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً مُؤيَّداً بالمعْجِزاتِ الظّاهِراتِ الباهِراتِ كَمَا قَالَ الإمامُ الشّافِعيُّ المُطّلِبِيُّ: "ما أَعْطَى اللهُ نبيّاً من أنْبِيَائِهِ مُعْجِزَةً إلاّ وَأَعْطَى مُحَمّداً مِثْلَهَا أو أَعْظَمَ مِنْهَا"، الحمْدُ للهِ الذي جَعَلَنَا مُسْلِمِينَ ، أحْمَدُكَ ربّي أنْ جَعَلْتَنَا في أُمَّةِ سَيّدِ الأنبياءِ والمُرسلينَ وَصَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلى حَبِيبِهِ المُصْطفى الهادِي أحمدَ الأمينِ، أمّا بعدُ أيُّها الأحِبّةُ المُؤمِنونَ أُوصي نَفْسِي وإيّاكُمْ بِتَقْوى اللهِ العَظِيمِ، يَقُولُ اللهُ تعالى في القرءانِ الكريمِ: {قُلْ هَلْ يَسْتوي الذينَ يَعْلَمُونَ والذينَ لا يَعْلَمُونَ} وَيَقُولُ الرّسُولُ صَلّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمِ: {مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقّهْهُ في الدّينِ}، أخي المُسْلِمُ، إنَّ اللهَ تعالى رَحِمَنَا بِبِعْثةِ أنبيائِهِ عَلَيهِمُ الصّلاةُ والسّلامُ ولا يَسْتَغْني الإنْسانُ بِعَقْلِهِ عن بِعْثَةِ الأنبياءِ وَأَنَّى لنَا أن نَعْرِفَ بِوُجُودِ الجَنّةِ أوِ النّارِ مِنْ غَيْرِ طريقِ الأنبياءِ وأنّى لنَا أن نَعْرِفَ كُلَّ المُحَرَّماتِ وكُلَّ الواجِباتِ بِغَيْرِ طرِيقِ الأنبياءِ ثمَّ الأنبياءُ عَلَيْهِمُ الصّلاةُ والسّلامُ بلّغوا الناسَ كُلَّ ما أَمَرَهُمُ اللهُ أن يُبَلّغُوهُ للنّاسِ، ما قَصَّرَ نَبِيٌّ في الدَّعوةِ إلى اللهِ ولا أخفى نبيٌّ شيئاً ممّا أَمَرَهُ اللهُ أن يُبَلّغَهُ للنّاسِ وَلا تَكَاسَلَ نَبِيٌّ وَلا تَقَاعَدَ نَبِيٌّ وَلا تَقَاعَسَ عَنِ الاشْتِغالِ بالأمرِ بالمعروفِ والنّهْيِ عنِ المُنكَرِ الذي بهِ حَيَاةُ الدّينِ ثُمّ إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى جَعَلَ مِنْ بَرَكَةِ طَلَبِ العِلْمِ وحُضُورِ مَجَالِسِ العِلْمِ أنْ يَصِيرَ المرْءُ المُتَعَلّمُ فَطِنَاً ذَكِيّاً لَبِيباً ذا فَهْمٍ لا يَتَلاعَبُ بِهِ الشّيْطانُ وَلا تَتَلاعَبُ بِهِ شَيَاطِينُ الإنْسِ.
وَقَدْ قَصَّ لَنَا القُرءانُ الكَريمُ في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُطْمَئِنّةً يَأتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والخَوْفِ بما كانوا يَصْنَعُون} قَصَّ اللهُ لَنَا في هَذِهِ الآيةِ حالَ أولئِكَ القَوْمِ الذينَ كانُوا يَتَوَسَّعُونَ في النّعِيمِ لماّ كَانُوا مُؤمِنِينَ فَلَمّا كَفَرُوا باللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى عَجَّلَ اللهُ عَلَيْهِمُ العِقَابَ في الدُّنْيا قَبْلَ الآخِرَةِ، انْتَقَمَ اللهُ مِنْهُمْ في الدُّنْيا قَبْلَ الآخِرَةِ فَابْتَلاهُمُ اللهُ تَعَالى بالجُوعِ والخَوْفِ بما كَانُوا يَصْنَعُونَ بما كَسَبَتْ أيْدِيهُمْ في الدُّنيا.
ألا فَلْنَتَّعِظْ ألا فَلْيَتَّعِظِ الأُمَرَاءُ والحُكّامُ والسّلاطِينُ والنّاسُ بِمَا قَصَّ اللهُ تَعَالى في هذِهِ الآيةِ الكَريمةِ فإنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا لا يَدُومُ لأحَدٍ وإنّما كُنْ في الدُّنيا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أو عابِرُ سبيلٍ وإنّما كُنْ في الدُّنيا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تحتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ ثُم راحَ وَتَرَكَهَا، لا تَرْكَنْ إلى دَرَاهِمَ من فِضَّةٍ ولا تخْلُدْ إلى دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ ولا تَنْسَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكَ وَأحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ.
أمّا قولُهُ تَعَالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيا} فَلَيْسَ معناهُ أنْ تَغْرَقَ في المحُرَّماتِ فَلَيسَ مَعناهُ أنْ تَتْرُكَ وَتَهْجُرَ الطّاعَاتِ فَلَيْسَ معناهُ أنْ تَقَعَ بالمحْظُورِ فَلَيسَ معناهُ أن تَنْغَمِسَ بالسّبْعِ الموبِقاتِ ثُمّ تقولُ: "إنْ شاءَ اللهُ قبلَ الموتِ أتُوبُ" ازْهَدْ في الدُّنيا وَأَقْبِلْ عَلَى أعْمالِ الآخِرَةِ فَكَمْ وَكَمْ مِنْ أُناسٍ ادَّعَوْا الوِلايَةَ والكَرَامَةَ حتّى أنَّ أَحَدَهُمْ نَصَبَ حَبْلاً على ضَفّتَيْ نهرٍ وهُو يدَّعي أنَّهُ من أهْلِ الوِلايَةِ، يُرِيدُ أنْ يَمْشِيَ عَلَى حَبْلٍ فَوْقَ الماءِ فَمَا كانَ مِنهُ بعْدَ أقلّ مِن خُطْوَةٍ واحِدَةٍ إلاّ أنْ وَقَعَ رَأساً على عَقِبٍ في الطّينِ والماءِ.
وقدْ قالَ سَيّدُنَا الشّافِعِيُّ المُطَّلِبِيُّ رضِيَ اللهُ عنهُ: "ما اتَخَذَ اللهُ وَلِيّاً جاهِلاً" فإذا أرَدْتَ أنْ تَكُونَ من أحْبَابِ اللهِ وأولِيَائِهِ وَأَصْفِيائِهِ.
فَمَا عَلَيْكَ إلاّ حُضُورُ مَجَالِسِ عِلمِ الدّينِ والتَّزَوُّدُ منها لآخِرَتِكَ فإنّ هؤلاءِ الذينَ يَعِيثُونَ في الأرضِ فَسَاداً مهْما عَاثُوا وَتَكَبَّرُوا وَتَجَبَّرُوا وَكَذَّبُوا اللهَ وَرُسُلَهُ فإنَّ اللهَ تعالى يُمْهِلُ وَلا يُهْمِلُ وَبيتُ الدُّودِ بانْتِظَارِهِمْ وَبَيْتُ الوَحْشَةِ بانْتِظَارِهِمْ، البَرْزَخُ في القبرِ أمَامَهُمْ فإلى أيْنَ المفرُّ والشّاعِرُ يَقُولُ: "القَبْرُ بابٌ وَكُلُّ النّاسِ دَاخِلُهُ"، قالَ اللهُ تَعَالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} هَذِهِ الدُّنيا دارُ عَمَلٍ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وءاياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ} وَلَئِنْ كانُوا في هذِهِ الدُّنيا في رَخاءٍ وَنَعِيمٍ فإيّاكَ أن تَظُنَّ أنّهُم في حالٍ مرضي عِنْدَ اللهِ وَلَئِنْ كانُوا في هذِهِ الدُّنْيا في تَوَسُّعٍ بالجاهِ والمالِ فَفِرْعَوْنُ قالَ: "وَهَذِهِ الأنْهارُ تجري مِنْ تَحْتي" وَفِرْعَوْنُ قَالَ: "أنَا رَبُّكُمُ الأعلى".
اللهُ تَعَالى قَصَمَ ظُهُورَ الجَبَابِرَةِ بالموتِ وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ فِرْعَوْنَ غَرَقاً وَتَنْتَظِرُهُم نارُ السَّمُومِ شَرَابُهُم فيها ماءُ الحَمِيمِ، طَعَامُهُم فيها شَجَرُ الزّقّومِ قُطِّعَتْ لَهُم ثِيابٌ من نارٍ في غُرَفٍ من نارٍ يُقَرَّبُ المُهْلُ إلى وُجُوهِهِم فَتَسْقُطُ فَرْوَةُ وُجُوهِهِمْ.وفي حَدِيثِ البُخاريّ وَمُسْلِمٍ والتّرمِذِي عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عَليهِ وَسَلّمَ قالَ: {نارُكُمْ هذِهِ التي تُوقِدُونَ (أي في الدُّنيا) جُزءٌ من سبْعينَ جزءاً من حرّ جَهَنَّمَ}.
أليسَ في الماضي مِنَ النّاسِ مَنْ أُلْقِيَ في النار لِتَذْويبِ الحديدِ والفُولاذِ فانصَهَرَ مَعَهُمْ.
هَذِهِ النّارُ كَلاَ شئ بالنّسْبَةِ إلى نارِ جَهَنَّمَ حيثُ الكَلاليبُ تَتَخَطَّفُ الكُفَّارَ إلى النّارِ وَلَئِنْ كانُوا في هَذِهِ الدُّنْيا أولي قُوّةٍ وَجَبَرُوتٍ فإنّ النّارَ مَوْعِدُ مَنْ ماتَ منهم على غَيْرِ الإيمانِ وَنَارُ الدُّنْيا جُزءٌ من سَبْعِينَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، اللهُ تعالى يُعْطِي الدُّنْيا لمن يُحِبُّ وَلمنْ لا يُحِبُّ وَلا يُعْطي الآخِرَةَ إلا لمن يُحِبُّ، هكَذا قالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ.
نَعيمُ القبرِ، نَعِيمُ الجَنَّةِ خاصٌّ بالمؤمِنينَ، قالَ اللهُ تعالى: {وفي عادٍ إذْ أرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ العَقِيمَ} ويقول أيضاً: {وفي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهُم تَمَتَّعُوا حَتَّى حينٍ فَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ وهُمْ يَنْظُرُونَ}.
فاعْلَمْ أنّ عَذَابَ رَبّكَ لشَدِيدٌ واعْلَمْ أنَّ بَطْشَ رَبّكَ لشَديدٌ فَخُذْ من دُنْيَاكَ لآخِرَتِكَ، تَزَوَّدْ مِنْ دُنْياكَ لآخِرَتِكَ كَأَنَّكَ تَمُوتُ غَداً، وَلَوْ كانتْ هذِهِ الدُّنيا دارَ نَعِيمٍ مُقِيمٍ لَكَانَ أَحْبابُ اللهِ أنْبِياؤُهُ أوْلى بِهَا مِنَ الكَثِيرينَ وَلَكِنَّ اللهَ تعالى وَعَدَهُمْ جَنَّةَ نَعِيمٍ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِرٍ، أقُولُ قَوْلي هذا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكُم.