نبي الله إبراهيم عليه السلام ذو الحجة القوية واللسان الصادق
لقد كان إبراهيم عليه السلام دائباً في الدعوة إلى الله لا يفتأ يذكّر قومه وعشيرته بعبادة الله وحده لاشريك له وترك عبادة الأصنام.
دعا أباه للإيمان فأبى وامتنع، ثم دعا قومه وتنكروا لدعوته وسخروا من رسالته، ولكنه كان رحيماً رفيقاً وبراً تقياً فلم يتركهم في ضلالهم يعمهون دون دعوة وإرشاد ونصح وتوجيه إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، فعزم عليه السلام أن يمحو ويزيل عنهم تلك العقائد الباطلة، ويردهم إلى رشدهم وصوابهم ولو ناله ولحقه منهم من الأذى الشىء الكثير أو تعرضت حياته للخطر الجسيم.
ولقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذكياً صائب الرأي، وقد علم أن الحجة والبرهان اللفظيين وإن وضحا فلن ييأس أن يبين لهم حجة عقلية، لذلك عزم على أن يشرك أبصار القوم مع بصائرهم ويقرن حواسهم مع أفئدتهم لعلهم يرجعون عن غيهم لعلهم يدركون بأنفسهم تفاهة ما هم عليه من عبادة حجارة لا تنفع ولا تضر ولا تشفع ولا تسمع، ولا تغني عن عابديها شيئاً.
وكان لقوم إبراهيم عليه السلام يوم عيد كبير يخرجون فيه خارج المدينة، ولما اقترب وقت ذلك العيد ولم يصحبهم، وقد عزم من قبل وأسمع بعض القوم عزمه على تحطيم آلهتهم وتكسيرها، وذكر السقم والمرض، وفعل ذلك لِيَخْلُوَ له الجوُّ لِينَفِّذَ ما أراد للأصنام، وعندما ذهب القوم إلى عيدهم وخلا الجو لإبراهيم عليه السلام حطمها وكسرها بفأسه حتى جعلها جذاذاً، أي قطعاً صغيرة محطمة متناثرة هنا وهناك، وترك صنماً لم يكسره ليقيم الحجة به عليهم وعلّق في عنقه الفأس الذي كان قد حطم به تلك الأصنام، ورجع القوم من عيدهم وأسرعوا نحو المعبد المكان الذي فيه أصنامهم، ولكنهم ذهلوا وبهتوا من هول ما رأوا، لقد رأوا ما يعتقدون به أنه آلهتهم ركاماً وهشيماً متناثراً في أطراف المكان، يعلوها الذل والصغار والهوان، وصاحوا مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِـئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأنبياء:59].
وسكت الجميع وقتاً يسيراً وهم في غمرة الذهول والخشوع والتساؤلات التي تدور في أفئدتهم وعقولهم بشأن هذه التى يزعمون أنها آلهة وهي محطمة مكسرة مهانة مشوهة، ومن حطمها وتجرأ على ذلك؟ وهل ذلك أمر يصدق أن ما يزعمون أنها هي الآلهة لم تستطع حتى الدفاع عن نفسها؟ ثم انطلق صوت بعضهم عندما تذكروا توعد إبراهيم عليه السلام لأصنامهم بقوله: وَتَٱللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَـٰمَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57].
واستقر في نفوسهم بأن إبراهيم هو المحطم للأصنام وعزموا على أن يوقعوا عليه وبه أشد العذاب ويجعلوه عبرة لمن يعتبر جزاءً ما صنعت يداه، وقالوا: لابد أن يؤتى به على أعين الناس ليشهدوا مقالته واعترافه، فإن كان هو الذي فعل فسوف يلقى أشد العذاب، قال الله تعالى عما ورد على ألسنتهم: قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء:61- 68-69].
وفي اجتماعهم ذلك وبتلك الصفة في صعيد واحد أمنية كبيرة وعظيمة يتمناها إبراهيم عليه السلام ليبلِّغ دين الله عز وجل ويقيم الحجة على بطلان ما يعتقده القوم على مرأى ومسمع من الجميع، ولكي يريهم البرهان على فساد ما هم عليه عاكفون وابتدأ الحوار على رؤوس الأشهاد وتم عرض الأسئلة وكان أول سؤال قولهم: قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هَـٰذَا بِـئَالِهَتِنَا يإِبْرٰهِيمُ [الأنبياء:62].
ولقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام حكيماً آتاه الله الحجة والرشد والبرهان فسار بهم في الجدال إلى ناحية أخرى ليبلغ مقصده وهدفه ويبلغ رسالة ربه للناس مهما كانت النتائج، وجرّهم بطريقة الحكمة إلى جواب لم يقروا به وليقعوا فيما يتنصلون عنه ويبتعدون من الاعتراف به ليلزمهم الحجة لعلهم يرجعون إلى صوابهم فقال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْـئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ [الأنبياء:63].
وصفعهم بهذه الحجة الدامغة التي نبهتهم من غفلتهم وأيقظتهم من رقدتهم وأوقعتهم في الاعتراف بالحق وبطلان ما هم عليه وأقبل بعضهم على بعض كل يلوم صاحبه كما قال الله عنهم: فَرَجَعُواْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [الأنبياء:64]. وأصبحوا في حيرة من أمرهم وعقدت ألسنتهم وتنكست رؤوسهم وقالوا له: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـؤُلاء يَنطِقُونَ [الأنبياء:65].
أي أن تلك الأصنام لا ترد على سؤال ولا تسمع كلاماً فكيف تأمرنا بسؤالها فهي حجارة صماء جامدة عاجزة قاصرة عن معرفة ما يجري حولها مجردة من القدرة على دفع العدوان عليها، حينئذٍ ظهرت حجة إبراهيم عليه السلام واضحةً جلية وأتيحت له الفرصة لإلزامهم المنطق السوي السليم، ووبخهم على تمسكهم بباطلهم بعد أن اتضح الحق وسطع كالشمس في رابعة النهار.
وفي قوله عليه السلام ((بل فعله كبيرهم هذا)) الصدق الحقيقي وليس فيه كذب كما يظن البعض إذ أن أنبياء الله عليهم السلام كلهم منزهون عن الكذب وما قاله إبراهيم عليه السلام صدق من حيث الظاهر والباطن أي أن كبيرهم هذا الذي تعظمونه وتعبدونه من دون الله هو الذي حملني على أن أفتك بالصغار وأهين الكبير هذا، وفي قوله ((سلوهم إن كانوا ينطقون)) أقوى الحجج على أنهم لايستحقون العبادة فكانت واحدة من حججه الدامغة في رفض الكفر وفضحه بالدليل العقلي والبرهان النظري، ولايجوز إتهام إبراهيم ولا أي نبي من الأنبياء بالكذب الذي هو صفة ذميمة والأنبياء لايكذبون، قال تعالى فيما ورد على لسان إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قَالُواْ حَرّقُوهُ وَٱنصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ قُلْنَا يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَـٰهُمُ ٱلاْخْسَرِينَ [الأنبياء:66-70].
وهكذا إعتقاد المسلمين في أنبياء الله أجمعين أنهم أصحاب حجة وهدى ودليل وبرهان لاأصحاب شك أوتردد بل عصمهم ربهم تعالى عن الكفر والفجور منذ أن وجدوا في الحياة هم على الفطرة السمحة والمعرفة الصحيحة بالله تعالى وصفاته، قال الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام {وكلاً فضلنا على العالمين}.