منذ أكثر من أربعين سنة كان العمانيون يعملون في البحرين في أعمال مختلفة كالزراعة والحراسة إلى غير ذلك من الأعمال التي اقتصرت الآن على الآسيويين, وكانت تلك الفترة تمثل الذروة في البساطة لأهل البحرين الذين كانت أعمالهم إما في البحر أو الزراعة.
وفي قرية كرانة وفي مزرعةٍ يطلق عليها إسم (لصبيخة) وهي مزرعة كثيفة الأشجار , وارفة الظلال , تكاد تكون مظلمةً حتى في وضح النهار, تقع غرب قرية كرانة ,
وهي أصبحت الآن تعرف بإسم (دولاب سيدمحمود),تحدها من جهة الشمال مزرعة(الصنو) ومن الشمال الغربي مقبرة جدالحاج للأطفال, ومن جهة الشرق مزرعة (الجوهري), ومن جهة الجنوب مزرعة(الغربي).
في هذه المزرعة حدثت هذه القصة التي ربما يستغرب منها القارئ , استغراباً يدعوه ربما لتكذيبها أو الخوف الشديد من أحداثها..
كان في هذه المزرعة (عماني) يعمل مزارعاً وحارساً في نفس الوقت , قد بنى له (عشةً)ً صغيرةً عبارة عن سعف النخيل وجذوعه, يأوي اليها في الشتاء , لعله يجد فيها الدفأ من قسوة البرد القارص, وفي الصيف ينام إلى جاب بابها المتواضع يتمتع بنسيم الحقول البارد.
في تلك الليلة وكان ذلك في منتصف الشتاء , وعندما أنهى عمله , أخذ صاحبنا (العماني)مكانه المعتاد إلى جانب عشته الصغير
وأمسك(بنارجيلته)التي يعتبرها المؤنس الوحيد له في تلك المزرعة الموحشة بظلامها وكثرة نباح كلابها.
كان كلما امتلأ رأسه بدخان (نارجيلته) تغنى بأناشيد كان يعرفها تعبيراً عن فرحته وغبطته بهذه السعادة التي مافوقها سعادة.
كانت عشته تقابل جهة الشرق , أي أن مقبرة جدالحاج للأطفال كانت خلف عشته بمسافة لا تتجاوز الثلاثة كيلوات. في هذه الأثناء أحس صاحبنا بشئٍ غريب!!!!
الكلاب التي كانت تملأ المكان بنباحها لم تعد تصدر صوتا... المكان الصاخب باصوات الجنادب ونباح الكلاب , أصبح مكاناً هادئاً سوى من صوت الريح التي تحرك الأشجار بشكلٍ يجعل من ناظرها يمتلأ خوفاً ورعبا.. وفجأة... صوت همهمة رجالٍ يأتي من مكانٍ ليس ببعيد...
كأنه صوت تهليلٍ لجنازة...
عندها تنفس صاحبنا الصعداء وقال في نفسه لابد أنها أصوات المشيعين في مقبرة جدالحاج يحملها الريح إلى أذني.. قال ذلك والخوف لازال يسيطر على أطرافه التي كانت ترتجف من شدة البرد ومن الخوف الذي بدأ يسيطر على الأجواء. ولكن... الصوت لايزال يأتي...
والأدهى من ذلك أنه يقترب شيئاً فشيئاً من عشته!!!!
وضع العماني المسكين (نارجيلته) على الأرض قائماً على قدميه يحاول أن يهدأ من روعه, ولكن دون جدوى , فالصوت قد أصبح قريباً منه إلى درجة أنه أخذ يسمع أصوات الأقدام تخط على الأرض.. ماذا يفعل هذا الوحيد الحائر لوحده في هذه المزرعة... ؟؟؟؟
دخل إلى عشته بسرعةٍ واغلق الباب على نفسه , واخذ ينتظر مصيره الذي ربما تراءى له جلياً أمام عينه... والصوت الصاخب للمشيعين أصبح على باب عشته التي ضاقت بدقات قلبه المتعب.. لا إله إلا الله .. سلم الميت يرحمك الله....
هلل ياغافل....
كل هذه الأصوات كانت تفصلها عنه فقط بضع سعفات تكاد أن تحترق بحرارة جسده المنهك من الخوف. فجأة , سكت المشيعون عن التهليل....
إلى أن سمع أحدهم يقول هل ندخل الميت إلى داخل العشة ؟؟ عندما سمع صاحبنا هذه الكلمات وقع على الأرض مغشيّاً عليه من شدة الخوف , ولم يفق إلا بعد أن طلعت شمس الصباح الذي كان يظنه لن يأتي أبدا..
ومنذ تلك الليلة رفض العماني المسكين أن ينام لوحده في تلك المزرعة المسكونة, وأقسم أن يعود إلى بلده إن لم يضيفوه في أحد بيوتهم ليلا ..