ربما كان يشعر بالحمى في تلك الليلة، وربما كانت بقايا تعب النهار تسيطر عليه وتجعل من نومه كابوساً مزعجا... لكنه بالتأكيد كان في كامل وعيه عندما وقعت هذه الحادثة... كان السيد عيسى السيد يوسف في ذلك الوقت صبياً صغيرا, يقع بيته (بيت والده) في شمال قرية كرانة, بالقرب من المأتم الشمالي والى جانب خباز سيد شرف. خلف بيتهم تقع مزرعة كبيرة وكثيفة الأشجار وربما تكون مظلمة حتى والشمس في كبد السماء، هذه المزرعة يطلق عليها إسم(الخراب). في تلك الليلة كان السيد عيسى نائماً في البيت, وكان الشتاء قد فرض جواً من السكون والصمت في الشوارع, خصوصاً أن تلك الفترة كانت الكهرباء لم تكن وصلت الى القرية بعد. الظلام يكاد يطبق المكان لولا بصيصٌ من نور القمر الذي لم يكن مكتملا, بل وإنه لا يكاد يشرق لوجود تلك الغيوم المتراكمة... الى جانب هذا الظلام؛ كان الصمت والسكون يسيطر على المنطقة, حتى حفيف الأشجار يبدو صاخباً ويسمع من مسافة ليس قليلة. انتبه السيد عيسى من نومه في منتصف الليل على أصوات (المواعين) تقرع أذنيه وتلح عليه بالإستيقاظ... هل أمي مستيقظة الى هذا الوقت المتأخر؟؟؟ وماذا تفعل الآن إن كانت مستيقظة؟؟؟ هل أخرج لأرى ماهي القصة؟؟؟ ...هذه الأسئلة كانت كلها تدور في رأس السيدعيسى في هذه اللحظات الخاطفة... لكنه أخذ القرار بسرعة وأمسك بقبضة الباب. كان يخاف أن يصدر الباب صريره المعتاد_ لأن الخوف كان قد بدأ يسيطر على تفكيره_لم يغلق الباب وراءه بل تركه مفتوحاً تحسباً لأي طارئ... توجه الى المطبخ بهدوء يكاد أن يخمد أنفاسه التي كانت تخرج بسرعةٍ وصعوبة. ماإن دخل المطبخ حتى وقعت عيناه على منظرٍ طالما ألفه من قبل... كانت أمه واقفةً بجانب رف (المواعين) تقلب في تلك الأواني بشكلٍ غريبٍ نوعاً ما، لكنه هدّأ من روعه، وبدون أن ينطق ببنت شفة, رجع الى الحجرة وأخذ يلف جسمه بذلك اللحاف الذي شعر به كحجر أمه الدافئ.... في الصباح الباكر... نهض السيد عيسى من نومه نشيطاً لا يشعر بأي تعب ولا نصب, إلا أنه توجه الى أمه مسرعاً لكي يسألها عن سبب تأخرها في النوم البارحة.... ...أماه.. متى نمتِ البارحة ؟ كانت البسمة ترتسم على وجهه المتلألأ بالحيوية والنشاط....... لكن الإجابة سرعان ماغيرت تلك النظرات المتألقة، لترسم انكساراً يخفي وراءه خوفاً اضطر لأن يحمله لوحده...( لقد نمت البارحة قبل أن تنام ياولدي واستيقظت على صوت ديك جيراننا صباحا) كانت هذه إجابة أمه بكل برود. أراد السيد عيسى أن يخبر أمه بما شاهده البارحة، لكنه خاف أن تقول عنه أنه كان يحلم، وخاف كذلك أن نتنتشر قصته بين الناس فيعيرونه بالخوف والجبن. لذل فضل الصمت وعدم التكلم... لكن... سرعان ما غابت شمس الشتاء التي لا تكاد تشرق... وأقبل الليل بصمته الرهيب... كان الهواء بارداً وقوياً, يكاد يقتلع الأشجار من جذورها. في هذه الأجواء كان صاحبنا يتذكر مارآه في الليلة السابقة، وهو يتلحف بلحافه الذي كان الأنيس الوحيد له في تلك الليلة الليلاء... وشيئاً فشيئاً أخذ النوم يتسلل الى عينيه من دون أن يحس بذلك... فجأة... أصوات( المواعين) تملأ البيت، ولكن بشكلٍ أكبر، انتبه السيد عيسى من نومه فزعاً مرعوبا... كان يظن أنه حلمُ مزعج. ولكنه صُدم عندما تأكد أن الصوت حقيقيٌ ومصدرهُ ذلك المطبخ الذي كان يقع في زاويةٍ معزولة عن باقي البيت... نهض السيد عيسى واقفاً على قدميه المتثاقلتين... قلبه الصغير لا يتحمل كل هذه النبضات المتلاحقة!!! بعد تخاذلٍ وتثاقلٍ أمسك بقبضة الباب الباردة, فتح الباب لتأتيه نسمةٌ أثلجت ماكن يتدفق من دمٍ الى وجهه الشاحب... توجه الى المطبخ.... نفس المشهد في الليلة السابقة.... من كان يظن أنها أمها تقلب في (المواعين ) بشكلٍ عشوائي.... بعد أن استجمع كامل قواه، استطاع أن يخرج هذه الحروف من بين أسنانه التي كانت تتصارع من الخوف... ...... أماه...... كانت المرأة تعطيه ظهرها فقط, لم يكن يرى ملامح وجهها... ..... أماه..... ولكن لا جواب ولا التفات, بل إنها زادت من عبثها بتلك الأواني في تجاهلٍ لوجوده....... بصعوبةٍ استدار السيد عيسى قاصداً حجرة أمه ليخبرها بالأمر الذي لم يكن في استطاعته تحمله لوحده... ما إن وصل الى باب حجرة أمه حتى رأى تلك المرأة تمر من أمامه في صمتٍ اقشعر له بدنه وطار منه قلبه... فتحت باب البيت وخرجت من دون أن تغلقه, لكنها التفتت اليه بوجهها الغائر المعالم سوى من عينين كعيني القطط... وابتسمت ابتسامةً خطفت ماكان في وجه السيدعيسى من لونٍ وإن كان شاحبا... هنا صرخ السيدعيسى صرخةً انتبه لها كل من كان في البيت، بل وحتى جيرانهم انتبهوا وأسرعوا لمعرفة الخبر!!! كان السيد عيسى ملقىً على الأرض وهو فاقد الوعي، يكاد يكون ميتاً لبرودة جسمه ونغير لونه... منذ تلك الحادثة لم يتركه أهله ينام لوحده، بل مع أمه في نفس الحجرة... لا يزال السيد يتذكر تلك الحاثة رغم مرور أكثر من خمسين عاماً عليها....
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
X
جنية تظهر له على شكل أمه :
مملكة القصص الواقعية
-
ربما كان يشعر بالحمى في تلك الليلة، وربما كانت بقايا تعب النهار تسيطر عليه وتجعل من نومه كابوساً مزعجا... لكنه بالتأكيد كان في كامل وعيه عندما وقعت هذه الحادثة... كان السيد عيسى السيد يوسف في ذلك الوقت صبياً صغيرا, يقع بيته (بيت والده) في شمال قرية كرانة, بالقرب من المأتم الشمالي والى جانب خباز سيد شرف. خلف بيتهم تقع مزرعة كبيرة وكثيفة الأشجار وربما تكون مظلمة حتى والشمس في كبد السماء، هذه المزرعة يطلق عليها إسم(الخراب). في تلك الليلة كان السيد عيسى نائماً في البيت, وكان الشتاء قد فرض جواً من السكون والصمت في الشوارع, خصوصاً أن تلك الفترة كانت الكهرباء لم تكن وصلت الى القرية بعد. الظلام يكاد يطبق المكان لولا بصيصٌ من نور القمر الذي لم يكن مكتملا, بل وإنه لا يكاد يشرق لوجود تلك الغيوم المتراكمة... الى جانب هذا الظلام؛ كان الصمت والسكون يسيطر على المنطقة, حتى حفيف الأشجار يبدو صاخباً ويسمع من مسافة ليس قليلة. انتبه السيد عيسى من نومه في منتصف الليل على أصوات (المواعين) تقرع أذنيه وتلح عليه بالإستيقاظ... هل أمي مستيقظة الى هذا الوقت المتأخر؟؟؟ وماذا تفعل الآن إن كانت مستيقظة؟؟؟ هل أخرج لأرى ماهي القصة؟؟؟ ...هذه الأسئلة كانت كلها تدور في رأس السيدعيسى في هذه اللحظات الخاطفة... لكنه أخذ القرار بسرعة وأمسك بقبضة الباب. كان يخاف أن يصدر الباب صريره المعتاد_ لأن الخوف كان قد بدأ يسيطر على تفكيره_لم يغلق الباب وراءه بل تركه مفتوحاً تحسباً لأي طارئ... توجه الى المطبخ بهدوء يكاد أن يخمد أنفاسه التي كانت تخرج بسرعةٍ وصعوبة. ماإن دخل المطبخ حتى وقعت عيناه على منظرٍ طالما ألفه من قبل... كانت أمه واقفةً بجانب رف (المواعين) تقلب في تلك الأواني بشكلٍ غريبٍ نوعاً ما، لكنه هدّأ من روعه، وبدون أن ينطق ببنت شفة, رجع الى الحجرة وأخذ يلف جسمه بذلك اللحاف الذي شعر به كحجر أمه الدافئ.... في الصباح الباكر... نهض السيد عيسى من نومه نشيطاً لا يشعر بأي تعب ولا نصب, إلا أنه توجه الى أمه مسرعاً لكي يسألها عن سبب تأخرها في النوم البارحة.... ...أماه.. متى نمتِ البارحة ؟ كانت البسمة ترتسم على وجهه المتلألأ بالحيوية والنشاط....... لكن الإجابة سرعان ماغيرت تلك النظرات المتألقة، لترسم انكساراً يخفي وراءه خوفاً اضطر لأن يحمله لوحده...( لقد نمت البارحة قبل أن تنام ياولدي واستيقظت على صوت ديك جيراننا صباحا) كانت هذه إجابة أمه بكل برود. أراد السيد عيسى أن يخبر أمه بما شاهده البارحة، لكنه خاف أن تقول عنه أنه كان يحلم، وخاف كذلك أن نتنتشر قصته بين الناس فيعيرونه بالخوف والجبن. لذل فضل الصمت وعدم التكلم... لكن... سرعان ما غابت شمس الشتاء التي لا تكاد تشرق... وأقبل الليل بصمته الرهيب... كان الهواء بارداً وقوياً, يكاد يقتلع الأشجار من جذورها. في هذه الأجواء كان صاحبنا يتذكر مارآه في الليلة السابقة، وهو يتلحف بلحافه الذي كان الأنيس الوحيد له في تلك الليلة الليلاء... وشيئاً فشيئاً أخذ النوم يتسلل الى عينيه من دون أن يحس بذلك... فجأة... أصوات( المواعين) تملأ البيت، ولكن بشكلٍ أكبر، انتبه السيد عيسى من نومه فزعاً مرعوبا... كان يظن أنه حلمُ مزعج. ولكنه صُدم عندما تأكد أن الصوت حقيقيٌ ومصدرهُ ذلك المطبخ الذي كان يقع في زاويةٍ معزولة عن باقي البيت... نهض السيد عيسى واقفاً على قدميه المتثاقلتين... قلبه الصغير لا يتحمل كل هذه النبضات المتلاحقة!!! بعد تخاذلٍ وتثاقلٍ أمسك بقبضة الباب الباردة, فتح الباب لتأتيه نسمةٌ أثلجت ماكن يتدفق من دمٍ الى وجهه الشاحب... توجه الى المطبخ.... نفس المشهد في الليلة السابقة.... من كان يظن أنها أمها تقلب في (المواعين ) بشكلٍ عشوائي.... بعد أن استجمع كامل قواه، استطاع أن يخرج هذه الحروف من بين أسنانه التي كانت تتصارع من الخوف... ...... أماه...... كانت المرأة تعطيه ظهرها فقط, لم يكن يرى ملامح وجهها... ..... أماه..... ولكن لا جواب ولا التفات, بل إنها زادت من عبثها بتلك الأواني في تجاهلٍ لوجوده....... بصعوبةٍ استدار السيد عيسى قاصداً حجرة أمه ليخبرها بالأمر الذي لم يكن في استطاعته تحمله لوحده... ما إن وصل الى باب حجرة أمه حتى رأى تلك المرأة تمر من أمامه في صمتٍ اقشعر له بدنه وطار منه قلبه... فتحت باب البيت وخرجت من دون أن تغلقه, لكنها التفتت اليه بوجهها الغائر المعالم سوى من عينين كعيني القطط... وابتسمت ابتسامةً خطفت ماكان في وجه السيدعيسى من لونٍ وإن كان شاحبا... هنا صرخ السيدعيسى صرخةً انتبه لها كل من كان في البيت، بل وحتى جيرانهم انتبهوا وأسرعوا لمعرفة الخبر!!! كان السيد عيسى ملقىً على الأرض وهو فاقد الوعي، يكاد يكون ميتاً لبرودة جسمه ونغير لونه... منذ تلك الحادثة لم يتركه أهله ينام لوحده، بل مع أمه في نفس الحجرة... لا يزال السيد يتذكر تلك الحاثة رغم مرور أكثر من خمسين عاماً عليها....مواضيع ذات صلة