كانت فرحة مبتسمة بين صويحباتها في فناء المدرسة .. تحدثهن و تمازحهن و تنطلق ضحكتها الخجولة تعبر عن سعادتها و فرحتها .. و فجأة صمتت .. وجمت ..
شردت عيناها إلى ذاك الضوء اللامع أمامها .. وشعرت برجفة تسري في جسدها الصغير و كأن ما حولها يدور بها ..
وذاك الوميض اللامع يجرّها إلى حيث لا تدري ..
وتهاوى إلى مسامعها هدير أمواج بحر هائجة وقرع أجراس في أعماقها ..
و شعرت بنفسها تهوي إلى ظلمة لا قرار لها .. فصرخت صرخة مزقت هدوء الصباح و انتفضت أطرافها و جحظت عيناها و تقوّس جسدها كأنها تصارع مجهولاً و سقطت على الأرض و هي تنتفض كعصفور غارت في عنقه سكين ..
صرخن من حولها الصغيرات فزعات مما إنتاب صديقتهن و هرولت إحداهنّ إلى العجوز الواقفة عند بوابة المدرسة و صرخت طالبة تموت هناك ..
ففزعت المراقبة لسماعها هذه الكلمات و هبّت من مكانها إلى حيث الصغيرة الملقاة أرضاً و قد تراقص جسدها و أطرافها فأدركت الأمر و أسرعت مبتعدة لثوان ثم عادت و بيدها سكين و اقتربت من الطالبة ثم جثت على ركبتيها لدى رأس الفتاة و رسمت بالسكين على الأرض دائرة حوله و غرستها بجانبه .. و ابتعدت خطوات إلى الوراء و هي تنظر إلى الطفلة المسكينة و قد مال لون جسدها إلى الزرقة ..
و تراخى جسد الفتاة و انتظمت أنفاسها و عاد لونها القمحي يصبغ جسدها .. وفجأة استيقظت من غفوة لا تدري مداها ..
وحملت نفسها على قدميها و بدأت تسير على غير هدى تترنح في دربها كجريح أطاحت به السيوف من كل صوب لا يدري أي درب يسلك .. فركضت إليها العجوز و أجلستها في مكان آمن ثم أحضرت ماء بارداً تغسل به وجهها و فاها ..
إلى أن استعادت وعيها و انحدرت الدموع تملأ عينيها فقد أدركت أنها كانت في غياهب رحلة مجهولة لا مرئية .. و لكن ..
إلى أين ؟ لا تدري.. كيف ؟
لا تعلم .. متى .. لا تعرف .. أمسكت بها العجوز تهدّئ من روعها و تلملم خصلات شعرها التي تبعثرت .. و من ثم أمسكت بيدها و قادتها إلى غرفة درسها ساكنة مطمئنة رغم بقايا الرعب التي لم ترحل بعد .. و انزلقت العجوز إلي مديرة المدرسة تبلغها الأمر فقالت :
( لقد أمسكت الجن بطالبة ) ..
ففغرت المديرة فاها و أزاحت نظارتها عن عينيها كأنها لا تصدق ما تسمعه ، فقالت وهي تتمنى أن تكون قد أخطأت فيما سمعت :
(ماذا تقولين يا امرأة ؟)
فأعادت العجوز قولها وهي تضع السكين على الطاولة التي أمامها كأنها شاهد إثبات فقالت
(قلت لك أن الجن أمسكت إحدى الطالبات الصغيرات و صرعتها .. ولكن .. اطمئني .. لقد عالجت الأمر بسرعة فقد أمسكت بهذه السكين و .. )
و قبل أن تكمل كلماتها أمسكت المديرة بالهاتف تطلب سيارة إسعاف و مرة أخرى تستدعي أبوي الطالبة .
لم يكن الطبيب قادراً على إخفاء الأمر عن الأبوين فقال و قد أخفى وجهه بين كفيه :
( إنه ورم في المخ )
و غاصت الأم في بحر من الآهات و الدموع غير قادرة على تصديق كلمات الطبيب .. كيف و قد أسرّت لها عجوز المدرسة بأمر الجن و الشياطين الساكنة في جسد ابنتها ؟!
أما الأب فقد آمن بقدر ابنته مع المرض و سلّم أمره إلى الله و من ثم رأى خير ابنته في التزام إرشادات الطبيب و نصائحه .
مرت الأيام تلو الأيام .. و الشهور خلف الشهور ..
ومضت قافلة العمر بالفتاة و غدت شابة تطلب يدها للزواج ..
كان أقصى حلم لديها هو أن تعيش بعيدة عن نظرات الشفقة و الحسرة التي تقابل بها ممن حولها كلما أفاقت من نوبة صرع .. كان حلمها أن تعيش بعيدة عن هذه العيون ..
أن تعيش خارج البلدة في بستان صغير يضمها و فارس حلمها بعيداً عن جميع العيون التي بكت عليها و تحسرت لها .. وكان لها ما أرادت .. فعلى الرغم من كثرة طالبيها إلا أن قلبها لم يخفق إلا لذلك الفتى القادم من أرض الكروم و البساتين و الذي يحمل بين جنبيه قلباً طيباً لم تدنسه المدنية بقذاراتها و عاهاتها ..
و أيقنت اليقين كله أن سعادتها لن تولد إلا إذا تزوجت هذا الشاب إبن الخضرة و الماء ..
و حقق الله حلمها و تزوجت بمن رغبت به و غادرت بلدتها وودعتها بدمعة ألم على من قتلوا سعادتها بنظراتهم و عيونهم .
سكنت و زوجها في منزل تحيط به الخضرة من كل صوب .. و بجانبه بئر ماء تسقى منها الخضرة كلما انقطع الغيث .. و بالقرب منه حظيرة صغيرة امتلأت بالطير و الدواب .. نعم .. هذا هو حلمها و قد وقف أمامها حقيقة لا زيف فيها ..
وهاهي سعادتها التي اغتالتها عيون المدينة تنتصب أمامها فرحاً حقيقيا .. و عاشت مع زوجها البستاني أياماً خالتها الدهر كله نسيت فيها شقائها الذي ظنته سرمدياً و الذي ولد في فناء المدرسة ..
ونسيت فيها دموع العطف التي كانت تراها من حولها كلما خرجت من دوامة الصرع .. و نسيت تلك العجوز التي أسرعت إليها تدركها في أول نوبة لها و التي همست في أذن والدتها عن الجن الذين عشقوها .
نسيت كل شيء ..
بل حاولت أن تنسى كل شيء سوى سعادتها التي تعيشها في حياتها الجديدة في هذه القرية الهادئة الوديعة .. كل الأمور سارت سيراً حسناً إلى أن جاءت تلك الليلة الرهيبة التي استيقظت فيها القرية من نومها في منتصف الليل على صوت الزوج الشاب وهو يصرخ و يستنجد رعباً و هلعاً في ركن من أركان عش الزوجية بينما زوجته على الأرض تتخبط في نوبة صرع مفاجئة .. فأخذ يبحث عن الباب هارباً و قد سقط قلبه بين قدميه و كأنه شعور بأن المكان مليء بالأشباح و الأرواح ..
و لما بدأ الليل يلملم ثوبه و يرحل و خيوط النور تسري في كل صوب كان الشاب في طريق عودته إلى منزله و قد امتلأت روحه بالغضب و الحنق و .. الغيرة .. فقد أسر إليه بعض عجائز أهله بأن الجن و الشياطين تقاسمه زوجته و آن شرفه كان يؤكل أمام عينيه الليلة الماضية و ما هذا بالذي يليق بشرف العائلة و كرامتها ..
فسألهم الخلاص فقالوا له مقولة الشاعر بأن الشرف الرفيع لا يسلم من الأذى حتى تراق على جوانبه الدماء ..
وانه لو أراق دم زوجته فربما تنقلب الجن على إحدى بنات العائلة ..
والحل يكمن في أن يقضي على الاثنين معاً .. و لكن كيف يقضي على شيء لا يراه ؟ قالوا له بأن الجن كائنات من نار و أن النار لا يقضي عليها سوى الماء.. و فطن الفتى لمرادهم .. فقرر العودة مضمراً في نفسه سوءاً .. فدخل بيته و رأى زوجته و قد اتخذت ركناً تنتحب فيه و تذرف الدمع على سعادة غادرتها للأبد .. فما اهتز قلبه و لا حرك ساكناً ..
مرت الأيام وهو يتحين الفرصة التي يحلو له الانتقام فيها و لم تكن هذه الفرصة بعيدة ففي مساء أحد الأيام افترشت الزوجة أرض البستان و أسندت رأسها إلى جذع شجرة و سافرت بأفكارها إلى تلك الأحلام التي غدت سراباً و أخذت تفكر بزوجها الذي أصبح يسيء معاملتها بعد تلك الليلة المشئومة التي فاجأتها فيها نوبة الصرع .. و أخذت تحث نفسها :
( ما ذنبي ؟ .. ما ذنبي أنا إذا أراد الله لي أن أكون ضحية هذا الداء ؟ .. هل أنا التي اخترت عذابي ؟ .. لماذا تزدريني يا رجل و أنت تعلم أنني لا أملك لنفسي خلاصاً مما ينتابني ؟.. لماذا ؟ .. )
و بدأت تبكي فسالت دموعها وتهيجت مشاعر حزنها و شعرت أنها تكاد تنزلق في نوبة صرع جديدة ..
بدأت ترى الضوء يلمع أمام عينيها .. تحاول الهرب .. هدير الأمواج يعربد في أذنيها .. الأجراس تقرع فوق رأسها .. تقاوم .. شعرت بالأيدي الخفية تجرها إلى المجهول .. صرخت بأعلى صوتها :
لا .. لا ..
فبلغ صوتها إلى أذني زوجها الذي كان يهذب حشائش بستانه .. فهب من موضعه نحوها .. فرآها تتخبط في آلامها ..
يداها ترتفعان إلى السماء تقاوم شيئاً لا تراه .. هل يهب لنجدتها ؟
.. لا .. لا ..
إن الجن تأكل شرفه الآن ولابد من أخذ القصاص حالاً .. لقد كان ينتظر هذه الفرصة .. حاول الاقتراب منها لكنه تردد و وقف لثوان ينتظر ..
وما أن رآها تسير على غير هدى بالقرب من بئر الماء حتى وثب نحوها و دفعها إلى أعماق البئر فهوت فيه ..
و زلت قدم الشاب من قوة اندفاعه ففقد توازنه فهوى ..
هو الآخر في قاع البئر و قضى الاثنان نحبهما
وسكنت آلامهما معاً .