وداعا سلمان ... وداعا غريق جده
كان من الصعب أن اصدق ذلك .. مع أنني أثق فيه تماما
ما سمعته وما قرأته هو للمستحيل اقرب
لو كان الأمر كما يقول ... لكان فيه من العبر الكثير
لذلك قررت ... أن أذهب إلى مدينة جده
يجب أن أتأكد من وفاته بنفسي
يجب أن استمع من الجميع إلى أدق التفاصيل بأذني
سأجلس مع والده
سأكون قاسيا حين أسأله .. لأن الدمع بالتأكيد سينهمر من عينيه .. ولكن لابد من ذلك
الكلمة أمانة ... والعبرة قوية تكون ... حين نصيب كبد الحقيقة
سأنظر بنفسي في قصة سلمان ... بل سأعبث بجهاز سلمان لعلي .. أجد تفاصيل أخرى
***
كل هذه الكلمات ... كنت أسترجعها في ذاكرتي .. بينما رجل الأمن في المجمع السكني الكبير يتحقق من هوية زائر منتصف الليل .... وسمعته يحادث زميلا له
إبراهيم المرواني .. يريد زيارة الشيخ النهاري .. ويقول أن لديه موعدا الآن ... قبل أن يلوح لي بالسماح بالدخول
وداعا سلمان ... وداعا غريق جده
كانت البداية ... حين اتصل بي احد الأصدقاء في شركة مرافق ... توقعت أنه أمر عادي .. لعل لديه مال للصدقة وأرادني أن أذهب معه .. ولكن اسلوبه كان مختلفا كثيرا
حكى لي قصة وفاة قريبا له ... ولأن القصة عجيبة .. طلبت منه أن يرسل لي القصة عبر الإيميل ... لعله إن كتبها سيكون أكثر واقعية ... لعلها ستبدو قصة عادية .
ليس العجب في أن يموت ابن العشرين ... فالموت يدرك حتى من في الأرحام ... ولكن العجب ... حين نرى مثل هذه النهايات .. ويا حسرة على من لا يعتبر
فاعتبروا يا أولي الأبصار
طلبت منه عنوان المنزل في مدينة جده ... وأن يتواجد بعض من حظروا الوفاة لأسألهم ... ولابد من وجود الأب
أعلم أنني قاسيا بطلبي .. ولكن الأب إمام مسجد ... قد يبالغ بمحبته ... ولكنه صعب أن يبالغ في قصته
ذهبت إلى المنزل .. وما أن دخلت إلى المجلس حتى لفتت انتباهي لوحة كبيرة ... مكتوب عليها
( إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا )
سلمان النهاري ... ابن العشرين عاما .. نحيل البنية .. سريع الحركة .. يهوى السباحة بشكل كبير .. ابن حلقات القرآن .. مؤذن المسجد .. يرفع الآذان منذ كان في الصف الخامس الابتدائي ... ابن الإمام .. دمث الخلق .. محبوبا لدى الجميع ... يترك ابتسامة حين يمضي ... تجعل أهل المجلس يدعون له في غيبته
أغراه أهل الطرب والغناء بالمال والشهرة ... رغبة في صوته الندي مستغلين حداثة سنه... ولكن أبوه كان لهم بالمرصاد
وسامته المفرطة ... كانت السبب في تعرضه للكثير من المضايقات من المستهترات .. ولكن أمه كانت ترعاه كالصقر ... تحفظه منذ نعومة أظفاره .. فقد ربياه والداه ليكون إماما لا يشق له غبار ... ومستحيل أن يتنازلوا عن هذا الأمل
الخميس التاسعة صباحا
ذهب للسباحة مع أقربائه ... وكان البحر شديد الموج ... رغم ذلك ولعنفوان الشباب .. نزل إلى البحر ... ضل يسبح متحديا موجه القوي بساعديه النحيلتين .. وما هي إلا فترة .. حتى أضناه التعب ورأى الموت ... وكاد أن يغرق وهو السباح الماهر .. ولكن خرج بفضل الله .. لم يحن اجله بعد .. مازالت له خمسة صلوات .. ونصيبا من بر الوالدين
( فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )
خرج بفضل الله .. وقال لوالده بالحرف الواحد
يا أبت ... كدت أن أموت اليوم فتصدق عني ... فقال له ... غدا بإذن الله نذبح بعد صلاة الجمعة صدقة عنك
وداعا سلمان ... وداعا غريق جده
الجمعه الثامنة صباحا
من الطبيعي بعد أن يرى المرء الموت بعينه .. أن يهاب البحر .. ولكن .... هل ينطبق ذلك على قلب سلمان .. على قلب يحفظ القرآن .. قلب يهب حين نداء والديه ... ليس للخوف إلى ذلك القلب سبيلا ... أبدا
ذهبوا ... صباحا إلى البحر .. على أن يعودوا قبل صلاة الجمعة ... في نفس المكان .. والبحر كما هو بقوته ... بشدة موجه .. ولكن ... لكل أجل كتاب
اقسموا لي .. أنه صعد فوق صخرة ونادى
يا بحر إنك قد أتعبتني بالأمس .. والله اليوم لأتعبنك
من أنت يا ابن العشرين حتى تقسم على البحر .. من أنت
إيه له من شاب .. ما علمت أحدا من الشباب يحمل مثل هذا القلب ... إلا قليلا
كم حولنا من الشباب تجري على لسانه مثل هذه الكلمات .. التي تعكس علو همته
شاب لا يهاب البحر بأمواجه وعميق قيعانه ... وهو الذي رأى الموت بعينيه بالأمس في نفس الموضع
وكأن لسان حاله يقول
لست أخافك برغم شدتك .. لست أخافك برغم موجك .. لست أخافك برغم ما رأيت منك بالأمس
ليس في قلبي من ذرة خوف ... إلا وقد وجهتها لله رب العالمين ... لا أخاف سواه ... فما أنت فاعل
أين القلوب .. أين الشباب .. أين معاشر الرجال
والله ما مضى عليه أمر البحر ... ولكن مضى عليه أمر الله .. فما البحر إلا مخلوقا كسائر خلق الله سخره الله لإبن آدم
اشتد الموج ... ومن موجة لأخرى .. تعب ساعده النحيل .. وكان لابد للجواد أن يسقط
( لكل أجل كتاب )
ذهب إليه ابن خالته .. حاول أن يسحبه فلم يفلح
نظر سلمان إلى ابن خالته .. أدرك أنه قد يغرق معه .. فقال دعني وارجع .. قضي الأمر ... ثم ابتعد عنه حتى ينجو ابن خالته ولا يغرق معه .. ثم نظر إلى السماء .. وهمهم بكلمات
ثم غرق
ثم غرق
ثم غرق
سقط الفارس
سقط قبل أن يبدأ الرحلة
سقطت خلفه الدموع
أخذه البحر
فلا نعلم حين اقسم أن يتعب البحر ... من منهما أتعب الآخر
لساعات ظل الجميع يبحث عنه بلا فائدة ... تبرع أكثر من ثلاثين غطاسا محترفا بالبحث عنه ... حتى جهود فرق الإنقاذ لم تفلح .... فقد شاء الله أن يختم هذه الواقعة بعبرة أخرى
فاعتبروا يا أولي الأبصار
وداعا سلمان ... وداعا غريق جده
تم إبلاغ الأب ... فما زاد عن الكلمة التي حمل الملائكة بها العرش.. ليستعين بها على هذا المصاب
لا حول ولا قوة إلا بالله
اللهم إن كان حيا فرده إلي ردا جميلا .. وإن كان ميتا فأجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها
كتم الدمعة ... صبر واحتسب .. ثم ذهب إليهم لعله ... يظفر بلحظة وداع
مئات المتجمهرين ما بين رجال شرطه .. ورجال حرس الحدود .. وعمال إنقاذ .. ونساء متجمهرات لا يعرفونه ولكن يبكين ... آه لو علموا من هو ... لبكين أكثر ... لبكين اكثر ... لبكين اكثر
جاء الأب .. وتعلقت به أبصار الجميع
لم يلتفت إلى أحد
لم يصرخ .. لم يبكي .. ولكنه نادى
يا معشر الشباب .. من كان يعرف سلمان فليأتيني
تجمع حوله الكثير من الشباب
سكت الجميع .. الكل يسأل نفسه .. ماذا عساه سيقول .. هل سيلقي اللوم على أحد .. هل سيطلب منهم أملا بسيطا .. تعلقت به الأنظار ... وأرهفت له الآذان .. وكأن الدنيا كلها سكتت ... تنتظره ... فيا عجبا ما قال لهم
أسألكم بالله الذي لا إله إلا هو
هل صلى الفجر في جماعه
فقالوا .. اللهم نعم
هنا .. ترك الدنيا خلفه .. هذا يبحث .. وذلك يبكي .. وآخر ينظر إليه .. وذهب ليعطي هذا الجمع الكبير درسا .. في الصبر على المصائب
ذهب .. توضأ .. ثم صلى لله ركعتين يشكره ... على نعمه ... على فضله
ابن بار
مات يوم الجمعة
غريقا
صلى الفجر في جماعه ... وأي شرف لمسلم بعد صلاة الفجر في جماعه
لا تتعجبوا .. فذلك الشبل من هذا الأسد
بقى الجانب الأكبر من هذا الواقعة .. صاحبة النصيب الأكبر من هذا الحزن
من يجرؤ على أن يخبر الأم بوفاة فلذة كبدها .. وهي التي سبق سلمان ... وفاة ابنها سلطان ... ابن العامين أمام عينيها
الأسبوع القادم سيخطبون له
من يجرؤ على أن يقول لها ... أن قرة عينها قد مات
لا تجهزي الثوب الأبيض يا أماه .. جهزي لي كفنا ... بلغي العروس أن لا تنتظر ..
من يجرؤ أن يخبرها أنه ... قد أخذه البحر ولا سبيل ... حتى إلى جسده
سقطت حين سماع الخبر .. كما تسقط سائر الأمهات
بكت كما تبكي النساء .. ولكن ... كم من النساء لديهن مثل سلمان .. كم من النساء لديهن الفتى البار
واه لحزنها .. واه لضياع زهرة أبنائها
سألت عنه ... عن جثمانه ... ولكن من يخبرها أنها حرمت منه حيا وميتا .. ألا ما اشد قلب من اخبرها
رفعت يديها .. يد الأم ... وما أدراكم ما يد الأم .. تعمل ما يعجز عنه الرجال حين الدعاء
اللهم ... إنك قضيت بأخذ روحه وإني
رضيت
رضيت
رضيت
وكيف لا أرضى ... وأنت أحكم الحاكمين
فرد لي جسد فلذة كبدي تقر به عيني ... إنك أنت ارحم الراحمين
و ماهي إلا لحظات حتى رن الهاتف .. يعلن العثور على جثمانه بعد أن أعياهم التعب ... وأصابهم اليأس
وكأنما البحر .. قد انشق عنه
وكأن الله عز وجل قد نادى
يا بحر اكشف عنه ... فإن له أما تدعو وتنادي ... يا أرحم الراحمين
فيا عجبا لدعاء الأم ... كيف يحقق ما يعجز عنه الرجال .. وكيف يصيب الابن
ولو كان ميتا
ولو كان في أعماق البحر
حظر الجنازة أكثر طلاب حلقات التحفيظ في جده .. كلا يدعوا له .. ما بين حزين ... ومحتسب ... ومعتبر
فاعتبروا يا أولي الأبصار
انتهت القصة .. وجرت دمعة .. وحين هممت بالخروج .. إلتفت إلى طفل صغير .. في المرحلة الإبتدائية .. سألته ما اسمك
فقال .. رضوان
فقلت ... اتعرف من هو رضوان ؟
فقال إنه ملك الجنة
قال .. الأب .. مع رضوان سأعوض ... سابدا من جديد .. سأجعل منه سلمان آخر .. إماما لا يشق له غبار
سقطت دمعة أخرى .. وانا اسأل الله ان يعوضه في رضوان ما فاته من سلمان
أخواني .. أخواتي
أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الغريق شهيد .. ونحسب سلمان والله حسيبه بأنه من الشهداء .. بخلاف أن من فضل الله على العبد ... أن يقبضه يوم الجمعه
ليس منا البعيد عن الموت .. البعيد عن الحقيقة الغائبة ... ليس منا من يضمن لحظة في حياته
كلا منا يتمنى أن يلقى الله رضي الوالدين .. عاملا بالقرآن .. مقيما للصلاة .. ولكن من منا يعمل لمثل ذلك !!!
ألا يكفينا تسويف .. ألا يكفينا غرورا بالدنيا .. أليست الدنيا أقصر من أن نجعلها وقتا للمتعة
هل يجب أن يكون الميت أخا لك أو أبا لك أو حتى أمك ... حتى تتعض !!!
اليوم سلمان وغدا
أنت
أنت
أنت
( كل نفس ذآئقة الموت )
ذهب الصالحون إلى الجنة .. وذهب الفاسقون إلى النار
فأين أنت
فأين أنت
فأين أنت
***
وداعا سلمان
وداعا غريق جده
وداعا يا أيها الميت
وداعا أيها الحلم الذي .. لم يكتمل
رحم الله سلمان وأمواتنا وأموات المسلمين