الحمد للّه حمدا طيّبا مباركا كثيرا في الأولي و الآخرة، و صلّي اللّه و سلّم علي نبيّنا محمّد المحفوظ من كيد السحرة، و علي آله الطيّبين الطاهرين البررة، و صفوة صحبه المصطفين الخيرة
و بعد، فهذه رسالة موسومة ب (القول الفائق في نفي تأثير السحر في خيرالخلائق) صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، بيّنت فيها اختلاف جمهور الفريقين في تأثّره صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالسحر الذي عمله لبيد بن الأعصم اليهودي كما جاء في بعض الأحاديث و ذكره جماعة من المفسّرين في سبب نزول المعوّذتين و ضمّنتها حجج الطائفتين علي مذهبهم ليكون اختيار الحقّ عن بيّنة، و اللّه تعالي وليّ الهداية و التوفيق.
فنقول: اعلم أنّهم اختلفوا في أنّ السحر هل له حقيقة أم لا، و قد أطالواالكلام في هذا الشأن، و نحن نضرب عن ذلك صفحا، و نطوي عنه كشحا، روما للاختصار.
و يترتّب علي الثاني عدم بقاء مجال للبحث، إلاّ أنّ الأوّل و إن كان هو
63
الأقرب بيد أنّ تأثير السحر في النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم غير ثابت، بل لا يصحّ ألبتّة، كما سيظهر لك ذلك إن شاء اللّه تعالي.
64
فصل
إذا تقرّر هذا فاعلم: أنّ ممّا اعتلّ به من أجاز تأثير السحر فيه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ما روي من أنّه عليه و آله الصلاة و السلام سحره لبيد بن أعصم اليهودي، و قد ورد ذلك من طرق الفريقين، و نحن نورد في هذه العجالةما وقفنا عليه من تلك المرويّات، و نتكلّم فيه بما يفتح اللّه به علينا و يرشدناإليه، و هو المستعان في الأمور كلّها، لا إله غيره و لا ربّ سواه.
أخرج فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره[1] عن عبد الرحمن بن محمّدالعلوي و محمّد بن عمرو الخزّاز، عن إبراهيم بن محمّد بن ميمون، عن عيسي ابن محمّد، عن جدّه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: سحر لبيد بن أعصم اليهودي و أمّ عبد اللّه اليهوديّة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في عقد من قزّ أحمر و أخضر و أصفر، فعقدوا له إحدي عشرة عقدة، ثمّ جعلوه في جفّ من طلع[2]، ثمّ أدخلوه في بئر بواد بالمدينة في مراقي البئر تحت راعوفة[3] فأقام النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ثلاثا لا يأكل و لا يشرب و لا يسمع و لا يبصر و لا يأتي النساء.
فنزل عليه جبرئيل و نزل بالمعوّذات فقال له: يا محمّد ما شأنك؟قال: ما أدري، أنا بالحال التي تري، قال: فإنّ أمّ عبد اللّه و لبيد بن أعصم سحراك، و أخبره بالسحر و حيث هو.
ثمّ قرأ جبرئيل: بسم اللّه الرحمن الرحيم*قل أعوذ بربّ الفلق،
65
فقال رسول اللّه ذاك فانحلّت عقدة، ثمّ لم يزل يقرأ آية و يقرأ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و تنحلّ عقدة، حتّي قرأها عليه إحدي عشرة آية و انحلّت إحدي عشرة عقدة، و جلس النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و دخل أمير المؤمنين عليه السلام فأخبره بما أخبره جبرئيل و قال: انطلق فأتني بالسحر، فخرج عليّ عليه السلام فجاء به، فأمر به رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فنقض، ثمّ تفل عليه؛الحديث.
و إسناد هذا الخبر ممّا لا تقوم به حجّة، فإنّ عبد الرحمن بن محمّدالعلوي مجهول لا يعرف حاله، و لم يتعرّض أصحابنا رضوان اللّه عليهم لترجمته، و كذا صاحبه محمّد بن عمرو الخزّاز، فإنّ حاله مجهول[4]، و إنّما ذكرالنجاشي[5] في ترجمة أبيه عمرو بن عثمان الثقفي الخزّاز أنّ له ابنا اسمه محمّدروي عنه ابن عقدة .
و نحوهما عيسي بن محمّد و جدّه، إذ لم يترجما في كتب الأصحاب رحمهم اللّه تعالي.
و أمّا إبراهيم بن محمّد بن ميمون، فقد حكي عن«ميزان الاعتدال»[6] للحافظ الذهبي أنّه من أجلاّء الشيعة، و لذلك عدّه المامقاني في الحسان[7] و أخرج ابنا بسطام في كتاب«طبّ الأئمّة عليهم السلام»[8] عن محمّدابن جعفر البرسي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيي الأرمني، قال: حدّثنا محمّد بن سنان، قال: حدّثنا محمّد بن المفضّل بن عمر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: إنّ جبرئيل عليه السلام أتي النبيّ التنقية.
66
صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و قال: يا محمّد، قال: لبّيك يا جبرئيل، قال: إنّ فلانا اليهودي سحرك و جعل السحر في بئر بني فلان، فابعث إليه يعني إلي البئر أوثق الناس عندك و أعظمهم في عينك و هو عديل نفسك حتّي يأتيك بالسحر.
قال: فبعث النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب عليه السلام و قال: انطلق إلي بئر ذروان[9] فإنّ فيها سحرا سحرني به لبيد بن أعصم اليهودي فأتني به.
قال عليّ عليه السلام: فانطلقت في حاجة رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فهبطت فإذا ماء البئر قد صار كأنّه ماء الحياض من السحر إلي أن قال فاستخرجت حقّا[10] فأتيت النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فقال: افتحه، ففتحته فإذا في الحقّ قطعة كرب النخل في جوفه وتر[11] عليهاإحدي عشرة عقدة، و كان جبرئيل عليه السلام أنزل يومئذ المعوّذتين علي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، فقال النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ، اقرأها علي الوتر.
فجعل أمير المؤمنين عليه السلام كلّما قرأ آية انحلّت عقدة حتّي فرغ منها، و كشف اللّه عزّ و جلّ عن نبيّه ما سحره به و عافاه.
و هذا الخبر غير نقي الإسناد أيضا، إذ فيه البرسي، و الأصحاب رحمهم اللّه لم يحوموا حوله، و لا تصدّوا لذكره في كتبهم، فلم يتبيّن لنا حاله، و مثله أحمد بن يحيي الأرمني .
و أمّا محمّد بن المفضّل بن عمر، فقد عدّه الشيخ رحمه اللّه و سائر
67
أرباب الرجال من أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام[12] ، فالظاهر أنّ روايته عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام مرسلة، و مع ذلك لا يعرف له حال.
بقي الكلام علي محمّد بن سنان أبي جعفر الزاهري الخزاعي، و قداختلفت كلمتهم فيه، و المشهور بين الفقهاء و علماء الرجال تضعيفه كما نصّ عليه في التنقيح[13] و نقل عن جماعة من الأكابر الطعن فيه و الحطّ عليه.
فقد صرّح الشيخ الإمام أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه بضعفه في الرجال و الفهرست، و قال في«التهذيب»: محمّد بن سنان مطعون عليه ضعيف جدّا، و ما يستبدّ بروايته و لا يشركه فيه غيره لا يعتمد عليه، و نحوه كلامه في«الاستبصار».
و قال أيضا في أواخر باب الميم من رجاله : ميّاح المدائني ضعيف جدّا، له كتاب يعرف ب: رسالة ميّاح، و طريقها أضعف منها و هو محمّد بن سنان.
و قال ابن الغضائري رحمه اللّه بترجمته: ضعيف، غال، يضع، لايلتفت إليه.
و قال المفيد رحمه اللّه في رسالته التي في كمال شهر رمضان و نقصانه، بعد نقل رواية دالّة علي أنّ شهر رمضان لا ينقص أبدا : و هذا حديث شاذّ نادرغير معتمد عليه، في طريقه محمّد بن سنان و هو مطعون فيه، لا تختلف العصابة في تهمته و ضعفه، و من كان هذا سبيله لا يعتمد عليه في الدين. انتهي.
و قد قدح فيه أيضا في كلام آخر.
و توقّف العلاّمة ابن المطهّر رحمه اللّه فيه، كما هو نصّ خلاصته.
و نسب التضعيف إلي جماعة آخرين، منهم أبو محمّد الفضل بن شاذان
68
و أيّوب بن نوح و صفوان بن يحيي.
قال أبو عمرو الكشّي في رجاله: قال أبو الحسن عليّ بن محمّد بن قتيبةالنيسابوري: قال أبو محمّد الفضل بن شاذان: لا أحلّ لكم أن ترووا أحاديث محمّد بن سنان.
و قال أيضا: قال حمدويه: كتبت أحاديث محمّد بن سنان عن أيّوب بن نوح و قال: لا أستحلّ أن أروي أحاديث ابن سنان.
و قال أيضا: ذكر حمدويه بن نصير أنّ أيّوب بن نوح دفع إليه دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان فقال لنا: إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا، فإنّي كتبت عن محمّد بن سنان و لكنّي لا أروي لكم أنا عنه شيئا، فإنّه قال عند موته: كلّ ماحدّثتكم به لم يكن لي سماع و لا رواية و إنّما وجدته. انتهي.
و قال ابن داود: روي عنه يعني محمّد بن سنان أنّه قال عند موته: لا ترووا عنّي ممّا حدّثت شيئا، فإنّما هي كتب اشتريتها في السوق.
و ممّن ضعّفه من أجلّة أهل العلم الشيخ الإمام المحقّق نجم الدين ابن سعيد في مواضع من المعتبر، و العلاّمة ابن المطهّر في موضع من المختلف، و الآبي في كشف الرموز، و الشهيد الثاني في المسالك، و المحقّق الأردبيلي، و تلميذه صاحب المدارك، و صاحب الذخيرة، و حكي ذلك أيضا عن المعتصم و المنتقي و مشرق الشمسين، و الحبل المتين، و حاشية المولي صالح، و التنقيح، و الفخري في مرتّب مشيخة الصدوق، و الذكري، و الروضة، و غيرها.
فالحزم اجتناب أحاديثه لا سيّما في المسائل الأصولية كالّتي نحن فيها ، و إن احتجّوا ببعضها في الفروع فإنّما ذلك لوجود متابعة، أو قيام شاهد، أو تحقّق انجبار الضعف بعمل الأصحاب، أو لأجل الاستناد إلي قاعدةالتسامح في أدلّة السنن و الكراهة في مواردها عند الذاهب إلي حجّيّتهاو تماميّتها، و غير ذلك.
و إن أبيت إلاّ القول بوثاقته استنادا إلي ذبّ صاحب التنقيح عنه فإنّ
69
الآفة لا ترتفع من الحديث أيضا، لجهالة سائر رجال السند كما عرفت آنفا .
و لا يخفي عليك أنّ أكثر ما ذكره المامقاني رحمه اللّه في الذبّ عنه و أجاب به عن المطاعن و القوادح التي رمي بها لا تأبي المؤاخذة و الإيراد.
هذا، مع أنّ الجرح هنا مفسّر فيقدّم علي المدح و التوثيق علي مقتضي القاعدة المقرّرة في محلّها.
فإن قلت: سلّمنا، إلاّ أنّ الشيخ رحمه اللّه قد علّق في التهذيب و الاستبصار، و كذا النجاشي رحمه اللّه في رجاله عدم الاعتماد علي روايته علي ما استبدّ بروايته و لم يشركه فيه غيره كما مرّ آنفا و هذا الحديث ليس كذلك، إذ قد روي من وجوه أخر.
قلت: مضافا إلي أنّ الأكثر أطلقوا القول بتضعيفه و لم يقيّدوه بذلك و منهم الشيخ رحمه اللّه في كتابيه الرجال و الفهرست فإنّ جميع الأخبارالمرويّة في هذا الباب مرميّة بالضعف و الشذوذ، و رطل منها لا يقام له وزن و لا يسوي دانقا، و رواتها بين مجهول و وضّاع.
و بالجملة: فليس في المقام ما يوجب الركون و يورث السكون إلي هذاالحديث و أضرابه، بل الصارف عنه و عن أمثاله قويّ، و لو سلّمنا فغاية ما تفيده الأحاديث الواردة في هذا الشأن الظنّ، و ظاهر أنّه لا يكتفي به فيما نحن فيه، بل لا بدّ من القطع و اليقين و العلم الذي لا يعتريه شكّ و لا ريب، فتنبّه.
هذا كلّه من جهة الإسناد، و أمّا متنه فلا يخلو من نكارة، فإنّ ظاهر ما وردفيه من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كلّما قرأ آية انحلّت عقدة حتّي فرغ من المعوّذتين، أنّه بإتمام قراءتهما انحلّت العقد الإحدي عشرة بأجمعها، و هذالا يتمّ إلاّ علي القول بأنّ المعوّذتين إحدي عشرة آية، و هو مذهب أهل الخلاف، و أمّا علي مذهب أهل الحقّ فلا يستقيم ذلك، لإجماعهم علي أنّ البسملة آية، اللّهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المراد أصل المعوّذتين دون بسملتيهما، و دونه خرط القتاد.
70
مضافا إلي أنّ بين الخبرين المتقدّمين تهافتا بيّنا، ففي الأوّل أنّ جبرئيل عليه السلام هو الذي تولّي قراءة المعوّذتين، و في هذا أنّ عليّا عليه السلام هوالذي قرأهما، و عليك بالتأمّل و التروّي فيما روي في هذا الباب علّك تهتدي إلي علل أخري، و اللّه المستعان .
و في كتاب طبّ الأئمّة عليهم السلام أيضا[14] عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام من حديث قال: إنّ رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سحره لبيد بن أعصم اليهوديّ، فقال أبو بصير لأبي عبد اللّه عليه السلام : و ما كاد أوعسي أن يبلغ من سحره؟قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السلام: بلي، كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يري أنّه يجامع، و ليس يجامع، و كان يريدالباب و لا يبصره حتّي يلمسه بيده، و السحر حقّ، و ما يسلّط السحر إلاّ علي العين و الفرج الحديث .
و مع غضّ الطرف عن إرساله، أفليس يا أولي الألباب أنّ من يري أنّه يفعل الشي ء و لا يفعله قد بلغ السحر منه مبلغا عظيما و أخذ بروحه بحيث يتخيّل ذلك؟!و حاشا أشرف الخلائق و أكملهم علي الإطلاق صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من هذا التخبيط و التخليط.
و في كتاب«دعائم الإسلام»[15] عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، عن عليّ عليه السلام: أنّ لبيد بن أعصم و أمّ عبد اللّه اليهوديّين لمّا سحرا النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم جعلا السحر في مراقي بئر بالمدينة، فأقام رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لا يسمع و لا يبصر و لا يفهم و لا يتكلّم و لا يأكل و لا يشرب، فنزل عليه جبرئيل، بمعوّذات الحديث .
و هذا خبر آحاد مرسل لا يحتجّ بمثله في هذه المقامات، علي أنّ هذا
71
اللفظ يدفع الذي قبله من حيث عدم تسلّط السحر إلاّ علي العين و الفرج فحسب، فإنّه مشعر، بل صريح في تأثيره في عقله صلّي اللّه عليه و آله و سلّم حتّي صار لا يفهم و العياذ باللّه ما دام مسحورا، و هذا من أشنع الأقوال و أفسدالآراء عند أولي البصائر و الحجي، بل صريح الخبر أنّ السحر أثّر في سمعه و بصره و كلامه صلوات اللّه و سلامه عليه و علي آله، فأقام لا يسمع و لا يبصرو لا يتكلّم، و كذلك لا يأكل و لا يشرب، و هذا كلّه من أبين الأباطيل و أوضح الأضاليل، إذ كيف يصلح من جاز عليه مثل ذلك من تعطيل الحواسّ و اختلالها لمنصب عظيم و مقام جسيم كالنبوّة و الرسالة و التبليغ عن اللّه تعالي شأنه و عزّ سلطانه.
و ليعلم أنّ هذه المرويّات و أضرابها لا تنفق في سوق الاعتقاد السديد و إن عزيت إلي الأئمّة الهادين سلام اللّه تعالي عليهم أجمعين، و لا يعوّل عليهاذو مسكة، و لا يحتفل بشي ء منها ذو لبّ و دين، لمعارضتها لصريح الكتاب العزيز و بداهة العقل.
و علي تقدير ثبوتها، فإنّها محمولة علي التقيّة بلا ريب، لموافقتهالأحاديث مخالفينا و اعتقادهم، و هذا أحسن ما يقال فيها علي ذلك التقدير.
و من القواعد المقرّرة عندهم أنّ المسائل الأصولية لا بدّ فيها من برهان قاطع و دليل جازم، فلا يجوز التعويل علي الظنون في ذلك.
قال الإمام العلاّمة جمال الدين ابن المطهّر رحمه اللّه تعالي في«مبادئ الوصول»[16]: خبر الواحد إذا اقتضي علما و لم يوجد في الأدلّة القاطعةما يدلّ عليه وجب ردّه، لأنّه اقتضي التكليف بالعلم و لا يفيده فيلزم تكليف ما لا يطاق. انتهي.
و بالجملة: فقد قرّروا أنّ الحديث إذا جاء علي خلاف الدليل من
72
الكتاب و السنّة المتواترة أو الإجماع و لم يمكن تأويله و لا حمله علي بعض الوجوه وجب طرحه، و حديث الباب منه إن لم يحمل علي التقيّة، فافهم.
و قال شيخ الإسلام المجلسي رحمه اللّه في«بحار الأنوار»[17] عقب إيراده أحاديث سحره صلّي اللّه عليه و آله و سلّم : و الأخبار الواردة في ذلك أكثرها عامّية أو ضعيفة، و معارضة بمثلها، فيشكل التعويل عليها في إثبات مثل ذلك. انتهي.
و لقد أجاد فيما أفاد، رحمه اللّه تعالي و رضي عنه و أرضاه.
و قال أيضا من جملة كلام له : و أمّا تأثير السحر في النبيّ و الإمام صلوات اللّه عليهما فالظاهر عدم وقوعه. انتهي.
و كلامه هذا ظاهر في عدم اعتباره رحمه اللّه تلك الأخبار الدالّةبظاهرها علي التأثير، و ناهيك به طعنا فيها من هذا الإمام الخرّيت في الحديث و علومه، و اللّه الموفّق و المعين .
73
فصل
و أمّا ما روي في ذلك من طرق مخالفينا فكثير، نقتصر علي إيراد نبذة منه في هذا الإملاء المختصر، فنقول: أخرج ابن أبي شيبة في«المصنّف»[18] قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد بن حيّان، عن زيد بن أرقم، قال: سحر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم رجل من اليهود فاشتكي لذلك أيّاما، قال: فأتاه جبريل فقال : إنّ رجلا من اليهود سحرك و عقد لذلك عقدا، فأرسل رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم عليّا فاستخرجها، فجاء بها فجعل كلّما حلّ عقدة وجد لذلك خفّة، فقام رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كأنّما نشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي و لا رآه أحد .
و أخرجه ابن سعد، و النسائي في سننه[19] و الحاكم و صحّحه، و عبد بن حميد في مسنده كما في الدرّ المنثور[20] .
و في إسناده: محمّد بن خازم التميمي السعدي مولاهم أبو معاويةالضرير الكوفي.
قال يعقوب بن شيبة و ابن سعد: يدلّس[21]، و في«هدي الساري»[22]: ربّما دلّس.
و قد ذكروا أنّ المدلّس لا يقبل من حديثه إلاّ ما صرّح فيه بالسماع، و هو
74
هنا عنعن فلا يحتجّ بحديثه، و كذلك الأعمش علي ما سيأتي إن شاء اللّه .
و قال ابن حبّان و غيره: كان مرجئا خبيثا كما بترجمته في تهذيب التهذيب[23] . و قال ابن حبّان أيضا: ربّما أخطأ[24] و فيه: سليمان بن مهران الأعمش الكاهلي الأسدي، و قد رمي بالتدليس.
قال الحافظ في (التقريب) : يدلّس.
و عدّه النسائي من المدلّسين كما في الخلاصة، للخزرجي .
و قال أبو حاتم: الأعمش حافظ يخلط أو يدلّس. تهذيب التهذيب 5/ .545
و قال عثمان بن سعيد الدارمي: سئل يحيي بن معين عن الرجل يلقي الرجل الضعيف بين ثقتين، و يصل الحديث ثقة عن ثقة، و يقول: أنقص من الإسناد و أصل ثقة عن ثقة، قال: لا تفعل لعلّ الحديث عن كذّاب ليس بشي ء، فإذا أحسنه فإذا هو أفسده، و لكن يحدّث بما روي.
قال عثمان: كان الأعمش ربّما فعل هذا. انتهي[25] و عدّه الحافظ العراقي أيضا من المدلّسين فقال في ألفيّة الحديث : و في الصحيح عدّه كالأعمش*و كهشيم بعده و فتّش و قال البقاعي: سألت شيخنا هل تدليس التسوية جرح؟فقال: لا شكّ أنّه جرح، فإنّه خيانة لمن ينقل إليهم و غرور. انتهي.
و لعظم ضرره قال شعبة بن الحجّاج فيما رواه الشافعيّ عنه[26] : التدليس أخو الكذب، و قال أيضا: لئن أزني أحبّ إليّ من أنّ أدلّس. انتهي.
و قال الحافظ السيوطي في مبحث تدليس التسوية من كتابه«تدريب
75
الراوي»[27] : قال الخطيب: و كان الأعمش و سفيان الثوري يفعلون مثل هذا.
و قال العلائي: فهذا أفحش أنواع التدليس مطلقا و شرّها.
و قال العراقي: هو قادح فيمن تعمّد فعله.
و قال شيخ الإسلام: لا شكّ أنّه جرح و إن وصف به الثوري و الأعمش فلا اعتذار. انتهي.
و أخرج البخاري في صحيحه[28] قال: حدّثنا إبراهيم بن موسي، أخبرناعيسي بن يونس، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت : سحر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، حتي كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم يخيّل إليه أنّه كان يفعل الشي ء و مافعله، حتّي كان ذات يوم أو ذات ليلة و هو عندي، لكنّه دعا و دعا ثمّ قال: يا عائشة، أشعرت أنّ اللّه تعالي أفتاني فيما استفتيته فيه؟أتاني رجلان فقعدأحدهما عند رأسي و الآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شي ء؟قال: في مشط و مشاطة و جفّ طلع نخلة ذكر، قال: و أين هو؟قال : في بئرذروان، فأتاها رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم في ناس من أصحابه فجاءفقال : يا عائشة كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، و كأنّ رؤوس نخلها رؤوس الشياطين، قلت: يا رسول اللّه أفلا استخرجته؟قال: قد عافاني اللّه، فكرهت أن أثير علي الناس فيه شرّا، فأمر بها فدفنت.
و أخرج نحوه في باب السحر من كتاب الطبّ عن أبي أسامة عن هشام.
و أخرجه مسلم أيضا في باب السحر من كتاب الطبّ و المرض و الرقي من
76
صحيحه باختلاف يسير في اللفظ.
و أخرج البخاري أيضا في صحيحه[29] قال: حدّثني عبد اللّه بن محمّد، قال: سمعت ابن عيينة يقول: أوّل من حدّثنا به ابن جريج يقول: حدّثني آل عروة عن عروة؛فسألت هشاما عنه فحدّثنا عن أبيه عن عائشة، قال: كان رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم سحر حتّي كان يري أنّه يأتي النساءو لا يأتيهنّ فقال: يا عائشة، أعلمت أنّ اللّه قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي و الآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟قال: مطبوب، قال : و من طبّه؟قال: لبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقا، قال: و فيم؟قال : في مشطو مشاطة، قال: و أين؟قال: في جفّ طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان.
قالت: فأتي النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم البئر حتّي استخرجه، فقال: هذه البئر التي أريتها، و كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، و كأنّ نخلها رؤوس الشياطين، قال: فاستخرج، قالت: فقلت: أفلا أي تنشّرت ؟فقال: أماو اللّه فقد شفاني، و أكره أن أثير علي أحد من الناس شرّا. انتهي.
و في إسناده: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.
قال المخراقي عن مالك: كان ابن جريج حاطب ليل.
و قال الدار قطني: تجنّب تدليس ابن جريج فإنّه قبيح التدليس، لا يدلّس إلاّ فيما سمعه من مجروح، مثل إبراهيم بن أبي يحيي و موسي بن عبيدةو غيرهما، و أمّا ابن عيينة فكان يدلّس عن الثقات كما في تهذيب التهذيب[30] .
هذا، و قد عرفت أنّ حديث الباب في الصحيحين يدور علي هشام بن
77
عروة عن أبيه عن عائشة، و قد حكي شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في«تهذيب التهذيب»[31] و«هدي الساري»[32] عن يعقوب بن شيبة، أنّه قال: كان تساهله يعني هشاما أنّه أرسل عن أبيه ما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه.
قال ابن حجر: هذا هو التدليس، و أمّا قول ابن خرّاش: كان مالك لا يرضاه، فقد حكي عن مالك أشدّ من هذا. انتهي.
قلت: هو ما حكاه الخطيب في«تاريخ بغداد»[33] و الحافظ الذهبي في«الكاشف»عن الإمام مالك، أنّه قال: هشام بن عروة كذّاب.
فأيّ وزن يقام بعد هذا لقول ابن القيّم: إنّ هشاما من أوثق الناس و أعلمهم، و لم يقدح فيه أحد من الأئمّة بما يوجب ردّ حديثه[34]؟!
و قال الحافظ في«تقريب التهذيب»: ربّما دلّس، و قد عرفت فيماتقدّم أنّ المدلّس لا يقبل من حديثه إلاّ ما صرّح فيه بالسماع، و هنا ليس كذلك، و إن وقع في الصحيحن فليس بشي ء و لا كرامة.
و يعجبني كلام الشيخ العلاّمة محيي الدين بن أبي الوفاء القرشي في هذاالمضمار حيث قال : اعلم أنّ (عن) مقتضية للانقطاع عند أهل الحديث، و وقع في مسلم و البخاري من هذا النوع شي ء كثير، فيقولون علي سبيل التجوّه: ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، و ما كان في الصحيحين فمحمول علي الاتّصال. انتهي[35] و أيضا: فقد ثبت في جملة من أحاديث الباب أنّه عليه و آله الصلاةو السلام أرسل عليّا عليه السلام إلي البئر فاستخرج السحر، و كان جبريل قد
78
نزل بالمعوّذتين، فكلّما قرئت آية انحلّت عقدة حتّي قام النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كأنّما أنشط من عقال، و هو يدلّ بظاهره علي عدم إتيانه عليه و آله الصلاة و السلام البئر، إذ لو أتاها في جماعة من أصحابه لكان مظنّة لثوران الشرّعلي الناس و وقوع الفتنة بين المسلمين و اليهود، لا أنّ ذلك لأجل أن لا يطّلعواعلي ما سحر به صلوات اللّه و سلامه عليه و علي آله فيتعلّمه من أراد استعمال السحر.
كيف و قد ثبت في بعض الأحاديث أنّ السحر حلّت عقده و نقض بمحضره الشريف؟!و في بعضها إشعار باستكشاف ما كان داخل الجفّ و أنّه وجد في الطلعة تمثال من شمع، تمثال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و إذا فيه إبر مغروزة، و إذا وتر فيه إحدي عشرة عقدة[36] هذا، و ما في«فتح الباري»[37] من أنّ النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم وجّههم أوّلا إلي البئر ثمّ توجّه فشاهدها بنفسه، مدفوع بأنّ الثابت في أحاديث الباب أنّ عقد السحر انحلّت بقراءة المعوّذتين بعدما أتوا به إليه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم كما تقدّم فلم يبق في البئر شي ء من السحر حتّي يتوجّه عليه و آله الصلاة و السلام لمشاهدته، فتنبّه.
و أيضا: إنّ قول عائشة«أفلا استخرجته»و جوابه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم إيّاها بحصول المعافاة يعارضه ما وقع في حديثها الآخر من استخراجه، و كذا ما رووه في حديث ابن عبّاس[38] من أنّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بعث إلي عليّ و آخر فأمرهما أن يأتيا البئر.
و في مرسل عمر بن الحكم عند ابن سعد : فدعا جبير بن إياس الزرقي فدلّه علي موضعه في بئر ذروان فاستخرجه.
79
قال ابن سعد: و يقال الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي[39] و قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر: و في رواية عمرة عن عائشة«فنزل رجل فاستخرجه»[40] و أنت خبير بأنّ هذا الاختلاف في المستخرج ينبئ عن تحقّق أصل الإخراج، إذ لولاه لما كان وجه للاختلاف فيه، علي أنّ في أكثر أحاديث الباب دلالة علي استخراج السحر و نقضه كما تقدّم و يأتي إن شاء اللّه .
و بالجملة: فثاني الحديثين يدفع أوّلهما الصريح في عدم استخراج السحر، و المخالف لغيره من النقول الدالّة علي استخراجه و حلّه فيسقط عن الاعتبار، لأنّ ذلك قد استفاض من طرق مخالفينا و اشتهر.
و من ثمّ رجّحوا رواية سفيان بن عيينة التي أثبت فيها إخراج السحر و جعل سؤال عائشة عن النشرة، لتقدّمه في الضبط علي رواية عيسي بن يونس التي نفي فيها السؤال عن النشرة و جعل سؤال عائشة عن الاستخراج[41] قال الحافظ ابن حجر[42] : و يؤيّده أنّ النشرة لم تقع في رواية أبي أسامة، و الزيادة من سفيان مقبولة لأنّه أثبتهم، و لا سيّما أنّه كرّر استخراج السحر في روايته مرّتين فيبعد من الوهم، و زاد ذكر النشرة و جعل جوابه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ب«لا»بدلا من الاستخراج. انتهي.
و لمّا أشكل ذلك علي المتعبّدين بحديث عائشة في الصحيحين انبرواللجمع بينهما: بأنّ الاستخراج المثبت هو استخراج الجفّ من البئر، و المنفيّ استخراج ما حواه[43]
80
و يقدح فيه ما مرّ آنفا من أنّ في بعض أحاديث الباب و منها حديث الصحيحين إشعارا باستكشاف ما كان داخل الجفّ من المشط و المشاطةو تمثال الشمع و الإبر و الوتر، فتنبّه .
قال الشيخ الإمام أبو جعفر الطوسي رضوان اللّه عليه في كتاب«الخلاف»[44] بعدما ذكر رواية الجمهور حديث زيد بن أرقم في السحر : و هذه أخبار آحاد لا يعمل عليها في هذا المعني، و قد روي عن عائشة أنّهاقالت: سحر رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فما عمل فيه السحر، و هذايعارض ذلك. انتهي.
قلت: و يؤيّده ما أخرجه ابن سعد عن الواقدي بسند له إلي عمر بن الحكم مرسل كما في فتح الباري[45] قال: لمّا رجع رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم من الحديبية في ذي الحجّة و دخل المحرّم من سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلي لبيد بن الأعصم و كان حليفا في بني زريق و كان ساحرا فقالوا له: يا أبا الأعصم أنت أسحرنا، و قد سحرنا محمّدا فلم نصنع شيئا. . . إلي آخره.
و قال الإمام العلاّمة ابن المطهّر رحمه اللّه[46]: هذا القول عندي باطل، و الروايات ضعيفة، خصوصا رواية عائشة. انتهي.
هذا شأن حديث الباب في الصحيحين اللذين أجمعوا علي أنّهما أصحّ الكتب بعد كتاب اللّه تعالي كما زعم النووي[47] ، فلا يغرّنّك بعدماحصحص لك الحقّ و صرّح عن محضه قول ابن قيّم الجوزية[48]: قد اتّفق
81
أصحاب الصحيحين علي تصحيح هذا الحديث و لم يتكلّم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة . انتهي.
فأيّ اعتداد بتصحيحهما هذه الأباطيل، و أيّ اعتبار بتخريجها في كتابيهما: و هبني قلت : هذا الصبح ليل*أيعشي الناظرون عن الضياءبل الحريّ بذوي العقول السليمة و الفطر المستقيمة أن لا يعوّلوا علي تلك الأحاديث و أضرابها التي ملأت الصحيحين[49] و غيرهما ممّا فيها مسّ بكرامة الأنبياء عليهم السلام كما لا يخفي علي من سبر أحاديث الصحاح، و اطّلع علي ما فيها من الحطّ الصراح نعوذ باللّه من الغواية و الخذلان، و نسأله السلامة من المصيبة في الدين و الاعتقاد، و إنّما اللائق بهم في ذلك المزلق السحيق، التمحيص الدقيق و التفحّص العميق، و اللّه سبحانه وليّ الهدايةو التوفيق.
و أخرج البيهقي في«دلائل النبوّة»[50] قال: أخبرنا أبو الحسين عليّ بن محمّد المقرئ، قال: أخبرنا الحسن بن محمّد بن إسحاق، قال: حدّثنا يوسف ابن يعقوب، قال: حدّثنا سلمة بن حيّان، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمّد بن عبيد اللّه، عن أبي بكر بن محمّد، عن عمرة، عن عائشة، قالت: كان لرسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم غلام يهوديّ يخدمه يقال له لبيد بن أعصم، و كان تعجبه خدمته، فلم تزل به يهود حتّي سحر النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم.
و فيه أيضا: فنزل رجل فاستخرج جفّ طلعة من تحت الراعوفة فإذا فيهامشط رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و من مراطة رأسه، و إذا تمثال من
82
شمع تمثال رسول اللّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و إذا فيها إبر مغروزة، و إذاوتر فيه إحدي عشرة عقدة فأتاه جبريل عليه السلام بالمعوّذتين. . . إلي آخره.
قلت: يقع الكلام علي هذا الخبر في إسناده و متنه: أمّا إسناده: ففيه محمّد بن عبيد اللّه بن أبي سليمان العرزمي الفزاري أبو عبد الرحمن الكوفي، و قد غمزوه و طعنوه.
قال عبد اللّه بن أحمد عن أبيه: ترك الناس حديثه.
و قال الدوري عن ابن معين: ليس بشي ء و لا يكتب حديثه.
و قال البخاري: تركه ابن المبارك و يحيي.
و قال النسائي: ليس بثقة و لا يكتب حديثه.
و قال الفلاّس و عليّ بن الجنيد و الأزدي: متروك الحديث.
و قال الدار قطني: ضعيف الحديث.
و قال ابن حبّان: كان ردي ء الحفظ، و ذهبت كتبه فجعل يحدّث من حفظه فيهم، و كثرت المناكير في روايته.
تركه ابن مهدي و ابن المبارك و القطّان و ابن معين.
و قال أبو حاتم: روي عنه شعبة و سليمان علي التعجّب، و هو ضعيف الحديث جدّا.
و قال الحاكم في المدخل: متروك الحديث بلا خلاف أعرفه بين أئمّةالنقل فيه.
و قال الساجي: منكر الحديث، أجمع أهل النقل علي ترك حديثه، عنده مناكير كما بترجمته في تهذيب التهذيب[51] .
و قال الحافظ العلائي: متّهم[52]
83
و أمّا متنه: ففيه نكارة ظاهرة، و هي أنّه لم يعهد أنّ أحدا من اليهود خدم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم بالمدينة فيما نعلم سوي صبيّ يقال له: عبد القدّوس فيما ذكره ابن بشكوال عن حكاية صاحب العتبية[53] و قد مات في صباه كما أخرجه البخاريّ في صحيحه[54] و لبيد بن أعصم قد بلغ مبلغ الرجال و شتّان ما بينهما.
نعم، رووا عن ابن عبّاس و عائشة[55]: أنّه كان غلام من اليهود يخدم النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم فدنت إليه اليهود فلم يزالوا به حتّي أخذ مشاطةرأس النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم و عدّة أسنان من مشطه فأعطاها اليهودفسحروه بها، و تولّي ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود.
و هذا صريح في أنّ الخادم غلام من اليهود غير لبيد، و اللّه أعلم.
84
تتمّة
أخرج البيهقي في (الدلائل)[56] أيضا قصّة السحر من وجه آخر بسنده عن عبد الوهّاب بن عطاء، عن محمّد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، و قال: الاعتماد علي الحديث الأوّل. انتهي.
يعني حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؛الذي أخرجه قبله[57]، فسقط الاحتجاج به، و صرّح الحافظ في (الفتح)[58] بضعف سنده، و أخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع كما في الفتح أيضا .
و أخرج ابن مردويه[59] من طريق عكرمة عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه أيضاحديث السحر، و فيه: أنّه جعل في بئر (ميمون) ، و هو غريب لم يرد في غير هذااللفظ، و المشهور في الروايات أنّه بئر (ذروان) كما مرّ .
و أمّا عكرمة البربري فحدّث عن عظائمه و مغامزه و لا حرج، و من ابتغي التفصيل فعليه بمعاجم التراجم[60] و أخرج ابن مردويه أيضا قصة السحر عن أنس بن مالك كما في الدرّالمنثور[61] .
و هي مضافا إلي جهالة طريقها مردودة بما سنذكر إن شاء اللّه تعالي من أمرها و بيان بطلانها، و اللّه الموفّق.
85
تنبيه
زعم عليّ القاري في«مرقاة المفاتيح»[62] وقوع نوعين من السحر له صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ليكون أجره مرّتين!و أنّ أحدهما وقع من لبيد و الآخرمن بناته. انتهي.
و هذه دعوي بلا بيّنة، زاد بها في الطنبور رنّة: و الدعاوي ما لم تقيموا عليها*بيّنات أبناؤها أدعياءكيف و أنّ الثابت في الأحاديث وقوع سحر واحد تولاّه لبيد بن الأعصم اليهودي لا بناته كما جاء في الصحيح[63] ؟!
نعم، يجوز أن يكون اليهودي قد استعان ببناته في ذلك، و هذا غيرمدفوع إلاّ أنّ الذي تولّي كبره منهم إنّما هو لبيد فحسب.
و لعلّ القاري استند في دعواه إلي قول أبي عبيدة و غيره: إنّ بنات لبيد بن أعصم سحرن النبيّ صلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و ليس بسديد كما قال ابن قيّم الجوزية[64] .
هذا، و الأنكي من ذلك كلّه ما وقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي من أنّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم أقام أربعين ليلة مسحورا، يري أنّه يأتي النساءو لا يأتيهنّ، و يخيّل إليه أنّه يفعل الشي ء و ما فعله، و في رواية وهيب عن هشام عند أحمد (ستّة أشهر) ، و في (جامع معمر) عن الزهري أنّه لبث ستّة أشهر[65]!!
قال شيخ الإسلام شهاب الدين ابن حجر في (الفتح) : و قد وجدناه
86
موصولا بإسناد الصحيح، فهو المعتمد[66]. انتهي.
و في إرشاد الساري[67]: إنّه لبث سنة!!
و ليت شعري كيف يجوز تصديق هذا الزخرف من القول؟!أم كيف تحتمل العقول السليمة أنّ يدع اللّه تعالي نبيّه صلّي اللّه عليه و آله و سلّم ماكثافي السحر هذه المدّة علي تلك الحال لا يأبه به و لا يستجيب دعاءه و لا يفرّج عنه كربته؟!
فوعزّة الحقّ إنّ هذا لممّا تستنكره عقول بني آدم، و تستخفّ بقائله، و تعزوه إلي الهجر و الهذيان، نعوذ باللّه من تسويل الشيطان، و به نستجير من التسوّر علي مقام سيّد ولد عدنان، عليه و علي آله أفضل الصلاة و أزكي السلام، و اللّه المستعان علي ما يصفون.
87
فصل
ثمّ إنّه لو جاز ذلك في حقّ الأنبياء عليهم السلام لكان ذريعة لعبث أهل الكفر بالأنبياء و المرسلين، و لكانوا عرضة لمساءتهم، إذ لم تنفكّ عصورهم من وجود ساحر عليم، مع أنّه لم يحك وقوع ذلك إلاّ في شأن نبيّنا محمّدصلّي اللّه عليه و آله و سلّم، و بعيد جدّا أن لا يكون الأنبياء عليهم السلام قدسحروا و أثّر السحر فيهم لو جاز ذلك في حقّهم لأنّهم قوتلوا بالسيف و السنان، و لا حامل عليه لو كان للسحر تأثير فيهم صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين.
بل السحر أدعي للمشركين إلي الطعن في رسل اللّه و إيذائهم، لأنّ فيه تعطيل الأنبياء عليهم السلام و التسلّط علي جوارحهم، بل قد يسحرون مدّةعمرهم فيسقط النفع بهم و العياذ باللّه و هو أنجع في نيل الغرض و جعلهم عرضة للاستهزاء و السخريّة، مع أنّه أيسر من المقاتلة في الميدان، و المحاربةبالسيف و السنان، و لا أظنّ منصفا يرتاب في ذلك.
و بالجملة: فإنّ في فتح هذا الباب أعني تجويز تأثير السحر في الأنبياءعليهم السلام و لو في الجملة سدّ لباب النبوّة، و فيه ما فيه!
88