بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ،والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعــدُ :
فإنَّ المسلمَ ليعجب في هذه الأزمانِ المتأخرة من أُناسٍ نصبوا أنفسهم : سَدَّاً مَنيعاً، وحاجزاً قوياً بين من ابتلي بمسٍّ من الجان،أو سحرٍ ، أوعين-وبين ذهابه إلى راقٍ من الرقاة .وحجةُ هؤلاء المانعين قولُهُم :
إن المريضَ يستطيعُ أن يرقيَ نَفسَهُ ، فما الفائدة من الذهابِ إلى الرقاة .
والجوابُ على هذا الاعتراضِ ،
يُقَال:
إنَّ طبائعَ البشرِ تختلف من إنسان إلى آخر، وكذلك تخصصاتهم ،وهذه قضيةٌ مُسَلَّمَةٌ.
وأيضاً :
الأمراضُ التي يُصابُ بها الإنسان تختلف قوةً وتأثيراً من شخصٍ إلى الآخر.
فإذا أُصيب الإنسانُ بعينٍ يسيرة في تأثيرها، أو مرضٍ عضوي في جسده ؛ فهو مستطيعٌ لرقيةِ نفسه،وعلاجها أو يرقيه راقٍ،أو أحد أقاربه أن كان له درايةٌ بالرقية.
أما إذا أُصيبَ بسحرٍ يُزيلُ إرادتَه، أو مس شيطانٍ مارد ، فهذا الإنسانُ غير مُستطيع لرقية نفسه –في غالب الأحوال – والاستقراءُ دَالٌّ على ذلك، وتقريرُ ما ذكرتُ بعدةِ دلائل، بِنَاؤها على الأدلةِ الشرعية ،ثم الواقع العملي :
1- كثيرٌ من الناسِ لا يعرفُ ما هي الرقيةُ الشرعية ،أو ماذا يقرأ على المريض .والبعض من النـاس -أيضاً – يخافُ من سماع الجن فكيف إذا حضر الجنيُّ على جسد المريض ؟.
2- من الناسِ لا يعرف ما هي الضوابطُ والقواعد الشرعية في التعامل مع الجان والشياطين، وطرائق العلاج ،وكيف يتعامل مع الجان إذا حضر على جسد المريض ،وهل الذي يُكَلِّمُه الجان أو المريض وهل المرض الذي أصاب هذا الإنسان : سحر، أوعين ،أو مسٌّ ؟وهل هناك خُطورةٌ على من تصدى للرقيةِ دونَ علمٍ وتأصيلٍ شرعي؟ وإذا كان المريض مصاباً بمس ، فمن أي الأنواع هو؟ هل هو :
بسببِ العشق ،أو العبثِ، أو الظلمِ ، أو السحرِ. وإذا كان سحراً ،أ هو خارجُ الجسد، أم هو مشروب ؟وما هي الآيات التي تُقرأ على من به عين ، أو سحر، أو مس ،وجعل الله فيها قُوَّةَ التأثيرِ كما هو مبسوطٌ في تضاعيف مؤلفاتِ علماء الإسلام .
3- ثم تكييفُ المرض ،وإدارتُه على قواعد الشرع ،والوا قع العملي ،والمنهج الذي ينبغي أن يتحلى به المعالج والمريض فترةَ العلاج،والآداب المتصلة بذلك ؛ يحتاجُ إلى عارفٍ بأحوال الجان والشياطين ، وإلى إنسانٍ سائرٍ على قواعد
سَـنَنِ الشرع ،مبتعدٍ عن المخالفات الشرعية.
فكيف بعد ما ذُكِرَ يُقال:أن أيَّ إنسانٍ يستطيعُ رقيةَ نفسِه .
4- في كثيرٍ من الحالات: يتسلط الشيطانُ على عقل المريض ، فيسلبه الإرادة والتأثير على نفسه ، فلا يستطيع حراكاً فضلاً عن رقية نفسه. فكيف يرقي نفسه من إذا أراد صلاةً خرَّ مغشياً عليه، أو أصابه من الضيق والحرج ما الله به عليم . بل إذا فَـكَّر برقية نفسه: أصابه هَمٌّ وضيق وخوفٌ مما يجعله يترك رقية نفسه. وكيف يرقي نفسه أيها العقلاء: من إذا هَمَّ بقراءة القرآن رأى صفحاته بيضاء،أو رأى حروفَه تميل يمنةً ويسرة، ويجدُ عنْدَ قراءته :صداعاً شديداً وضيقاً وحرجاً ،وذلك لأن الجان في داخله يضيق صدره وفؤاده ،كلما هَمَّ بقراءة القرآن ورقية نفسه. أخرج ابن ماجة في السنن – بسندٍ صحيح – عن عثمان بن أبي العاص – رضي الله عنه – قال: ( لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، جعل يعرض لي شيءٌ في صلاتي ، حتى ما أدري ما أصلي ، فلمَّا رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ابن أبي العاص ؟قلت :نعم يا رسول الله ، قال :ما جاء بك ؟ قلت : يا رسول الله ، عرض لي شيءٌ في صلاتي ، حتى ما أدري ما أُصلِّي ، قال:ذاك شيطان، ادْنُـهْ ، قال :فدنوت منه ، فجلستُ على صدور قدميِّ ، قال: فضرب صدري بيده ، وتفل في فمي ، وقال: اخرج عدو الله ، ففعل ذلك ثلاث مراتٍ ، ثم
قال : الحق بعملك، فقال عثمان : فلعمري ما أحسبه خالطني بعد ) .
فهذا الحـديث دالٌّ صراحةً على أن الشيطان يتلبس الإنسان ، ويدخل فيه ،ولو كان من المؤمنين .
وأيضاً: أن المسلم قد لا يستطيع رقية نفسه –ولو كان من الصالحين – ويذهب إلى آخر لرقيته من أذى الشياطين والجان .
ومن الأدلة على أن المسلم قد لا يستطيع رقيةَ نفسه ، في بعض الأحيان والأحوال :
ما ثبت في الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – قالت :
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفثَ في كفيه بقل هو الله أحد، وبالمعوذتين جميعاً ، ثم يمسح بهما وجهه ، وما بلغت يداه من جسده ، قالت : فلما اشتكى، كان يأمرني أن أفعل ذلك به)
. بوب الإمام البخاري عليه في صحيحه بقوله : باب المرأة ترقي الرجل .
وفي صحيحِ الإمام البخاري -رحمه الله – عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال:
( أذِنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيتٍ من الأنصار أن يرقوا من ا لـحُمَة والأذن ) .
فهذا الحديثُ دلالتُه صريحةٌ على أنَّ بعض الصحابة له عناية خاصة بالرقية ، وعلمٌ زائد بذلك ، ويذهب إليه البعض لرقيتـهم من العين وغيرها . قال الحافظ في ( فتح الباري ): ( وقوله : رخـص لأهل بيـت من الأنصار) هم آل عمرو بن حزم ، وقع ذلك عند مسلم من حديث جابر، والمخاطب بذلك منـهم :
عمارة بن حزم ، كما بينته في ترجمته في كتاب الصحابة .
أقول: ورقية الصحابة بعضهم لبعض : تواتر به النقل ، كما هو مبسوط في تضاعيف كتب الحديث وغيرها .
وفي كتب السيرة – أيضاً- أن أبا الوليد عتبة بن ربيعة كلم النبي صلى الله عليه وسلم فكان مما قال له : … وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابعُ على الرجل حتى يُداوى منه… ) .
وذكر الإمام ابن القيم – رحمه الله – في كتابه ( المد ارج ) عند كلامه عن منـزلة السكينة :
( وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة. وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها ،من محاربة أرواح شيطانية ، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف قوة. قال: فلما اشتد علي الأمر قلت لأقربائي ومن حولي: اقرؤوا آيات السكينة ، قال : ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي من قلبة . وقد جربت أنا – أيضاً – قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يَرِدُ عليه، فرأيت تأثيراً عظيماً في سكونه وطمأنينته ) .
وأقول ختاماً : إن الحكم على قضية من القضايا ، أو مسألة من المسائل : يحتاج إلى تصور شمولي لتلك القضايا والمسائل. وكذلك القول في أمر رقية الإنسان نفسه .
وهؤلاء المانعون: أوقعهم في المنع والتحذير العشوائي ، هو: عدم التصور لحالة المبتلى بمس من الجان ، وما يعانيه من ضيق ،وحرج ، وعظيم بلاء ، إذا هَمَّ بقراءة ،أو ذكر من الأذكار، مما يجعله لا يستطيع فعل شيء من ذلك .
وأقول : لعل أحد هؤلاء المانعين لم يُبتلى في نفسه ، أو أحد أقاربه، حتى يعلم شدةَ المعاناة ،والألم الذي يصيب من ابتُلِيَ بمسٍّ من الجان ، وكيف لا يستطيع قراءةً ، أو ذكرا ؟!.
ولكن يُقالُ – نصحاً - : ليس الخبرُ كالمـعاينة ؟! .
قال الله جلَّ وعلا في كتابه الكريم – ذاكراً – قصةَ المعاناة التي عاناها نبي الله أيوب عليه السلام:
( واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصبٍ وعذاب ) (سورة :ص ، آية: 41 ) .
فهذه الآية : ذكرى لكلِّ مانعٍ عِبَادَ اللهِ مِن الذهاب إلى من له علمٌ بالرقية الشرعيَّة.
وذلك لما ذكره الله من شدة المعاناة التي يُعانيها من تَسَلَّطَ الشيطانُ على جسده،وكيف يُمْرِضُ جسده ويُنَغصُ حياته ،وكل ذلك بأمر الله عز وجل.
وبعدُ : فهذه كلمات رَقَـمتُها هنا على سَـنَنِ الاختصار ، قاصداً بها: النفع لنفسي، ولغيري من المسلمين، سَائلاً الله بمنه وكرمه: الإخلاص في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ’’’