وصف سبحانه القرآن بأوصاف من صفات الكمال؛
فوصفه بأنه قرآن عربي، وقرآن مبين، وقرآن عظيم، وقرآن حكيم، وقرآن مجيد، وقرآن كريم، وأنه كتاب عزيز،
وكتاب حفيظ، وكتاب مكنون، وغير ذلك من الأوصاف التي لم تجتمع لكتاب سماوي غير القرآن،
فضلاً عن أن تجتمع في كتاب أرضي.
ومن الأوصاف التي وصف الله بها كتابه المحفوظ أنه
{كتاب أحكمت آياته} (هود:1)، فجاء وصف القرآن كله بأنه كتاب (محكم)،
ووصفه سبحانه في موضع آخر القرآن بأنه كتاب (متشابه)، وذلك في قوله سبحانه:
{الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها} (الزمر:23) و{أحسن الحديث} القرآن،
وأخبر سبحانه في موضع ثالث عن القرآن بأن {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}
(آل عمران:7).
وقد يتساءل البعض فيقول: كيف يصف سبحانه كتابه تارة بأنه كتاب محكم،
وتارة أخرى بأنه كتاب متشابه،
وتارة ثالثة بأن فيه آيات محكمات وفيه آيات متشابهات، أليس في هذا تعارض وتناقض؟!
قبل الجواب على هذا السؤال، لا بد من الوقوف عند المقصود من كل آية من هذه الآيات الثلاث،
ثم نتبع ذلك بمزيد إيضاح، كي يستبين لنا وجه الصواب في معنى هذه الآيات، فيرتفع من - خلال ذلك -
ما يبدو بينها من تعارض أو تناقض.
أما قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}،
فالراجح في معناها: أن (المحكمات) من الآيات،
هي ما عُرف تأويله، وفُهم معناه وتفسيره، كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}
(المائدة:38)،
فهذه الآية تتضمن حكماً واضحاً.
أما (المتشابه) من الآيات، فهي التي تشتبه على فهم كثير من الناس،
ولا يزول هذا الاشتباه إلا بردها إلى (المحكم)؛ ويمكن أن يقال فيها:
إنها ما لم يكن لأحد إلى علمها سبيل،
بل هي مما استأثر الله تعالى بعلمها دون خلقه، كقوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة}
(لقمان:34)،
وقوله سبحانه: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} (الإسراء:85)، ومن قبيل (المتشابه)
أيضاً الحروف المقطعة في أوائل السور.
وأما قوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته}، أي: أحكمت آياته في النظم والوضع،
وأنه حق من عند الله، لا مدخل لأحد في نظمه ولا في معناه؛ فمعنى (الإحكام) هنا: أنه لا يتطرق إلى آياته
تناقض ولا فساد، كإحكام البناء، فإن القرآن نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه، وأحكم أمر الشرائع إحكاماً لا إحكام بعده.
وقوله تعالى: {كتاباً متشابها}، أي: يشبه بعضه بعضاً في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغة،
ويصدق بعضه بعضاً،
ويدل بعضه على بعض، فآياته متساوية في ذلك بحسب ما يقتضيه حال كل آية منها،
فلا تعارض فيها ولا تناقض بينها ولا اختلاف،
بل كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه - حتى في معانيه الغامضة - ما يبهر الناظرين،
ويجزم بأنه لا يصدر إلا عن حكيم عليم، بخلاف ما هو حاصل في كلام البشر، فالكاتب البليغ والشاعر المجيد
لا يخلو كلام أحدهما من ضعف في بعضه،
وأيضاً لا تتشابه أقوال أحد منهما، بل تجد لكل منهما قطعاً متفاوتة في الحسن والبلاغة وصحة المعاني.
إذا تبين المقصود من هذه الآيات، ننعطف على رفع ما يبدو بينها من تعارض، فنقول: إن المراد بـ (المحكمات)
في قوله تعالى: {منه آيات محكمات} غير المراد من (المحكم) في قوله سبحانه: {أحكمت آياته}؛
إذ المراد بـ (المحكم) في سورة آل عمران ما لا التباس فيه، ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وهو المقابل لـ (المتشابه)؛
أما المحكم في سورة هود، فالمراد منه (الإحكام) في النظم، وأنه كله حق من عند الله،
على معنى قوله تعالى: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت:42).
وأيضاً، المراد من (المتشابه) في قوله سبحانه: {وأخر متشابهات}
غير المراد من (التشابه) في قوله سبحانه: {كتابا متشابها}؛ إذ المراد بـ (المتشابه) في سورة آل عمران
ما كان من باب الاحتمال والاشتباه، على معنى قوله سبحانه: {إن البقر تشابه علينا} (البقرة:70)،
أي: التبس علينا، أي: يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر؛ أما المراد بـ (المتشابه) في سورة الزمر،
فالمراد منه التوافق في الوصف، بمعنى أن كله يشبه بعضه بعضاً، ولا يخالف بعضه بعضاً؛
لأن مصدره واحد، هو الله سبحانه، على معنى قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء:82).
وبما تقدم نعلم، أن (الإحكام) و(التشابه) في قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}،
هما من باب التقابل، أي: أن (المحكم) مقابل لـ (المتشابه)، وبعبارة أخرى: (المحكم) بمثابة الأصل، و(المتشابه)
بمثابة الفرع، يقول القرطبي: " فالمحكم أبداً أصل تُردُّ إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع "؛
وعليه فـ (المحكم) و(المتشابه) في هذه الآية مصطلحان يندرجان ضمن مباحث أصول الفقه.
أما (المحكم) في قوله سبحانه: {أحكمت آياته}؛ فليس مقابلاً لـ (المتشابه) في قوله تعالى: {كتابا متشابها}،
بل كل منهما وصف للقرآن جميعه؛ إذ إحداهما تثبت أن القرآن كتاب (محكم) في النظم،
والأخرى تثبت أن القرآن يشبه بعضه بعضاً من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، فليس فيه لفظ ضعيف وآخر قوي،
وليس فيه معنى بليغ وآخر غير بليغ، بل ألفاظه كلها في غاية الضبط والقوة والإحكام،
ومعانيه كله بالغة النهاية في البلاغة والبيان؛ وعليه فـ (المحكم) و(المتشابه) هنا يندرجان في مباحث بلاغة القرآن وإعجازه.
فتحصَّل من مجموع ما تقدم: أن المراد بـ (المحكم) و(المتشابه) الوارد في قوله تعالى:
{منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}، غير (المحكم) الوارد في قوله سبحانه: {كتاب أحكمت آياته}،
وغير (المتشابه) الوارد في قوله تعالى: {كتابا متشابها}،
بل كل وصف من هذه الأوصاف جاء مناسباً للسياق الذي وردت فيه الآية،
الأمر الذي ينفي التعارض تماماً بين هذه الآيات.