معرفة آداب طالب الحديث
وقد اندرج طرف منه في ضمن ما تقدم .
فأول ما عليه تحقيق الإخلاص ، والحذر من أن يتخذه وصلة إلى شيء من الأغراض الدنيوية .
روينا عن حماد بن سلمة رضي الله عنه أنه قال : " من طلب الحديث لغير الله مكر به " .
وروينا عن سفيان الثوري رضي الله عنه قال : " ما أعلم عملا هو أفضل من طلب الحديث لمن أراد الله به " . وروينا نحوه عن ابن المبارك رضي الله عنه .
ومن أقرب الوجوه في إصلاح النية فيه ما روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن نجيد أنه سأل أبا جعفر أحمد بن حمدان ، وكانا عبدين صالحين ، فقال له : " بأي نية أكتب الحديث ؟ " فقال : " ألستم [ ص: 246 ] تروون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ؟ " قال : " نعم " ، قال : " فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأس الصالحين " .
وليسأل الله تبارك وتعالى التيسير ، والتأييد ، والتوفيق ، والتسديد ، وليأخذ نفسه بالأخلاق الزكية ، والآداب المرضية ، فقد روينا عن أبي عاصم النبيل ، قال : " من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدين ، فيجب أن يكون خير الناس " .
وفي السن الذي يستحب فيه الابتداء بسماع الحديث ، وبكتبته اختلاف ، سبق بيانه في أول النوع الرابع والعشرين .
وإذا أخذ فيه فليشمر عن ساق جهده ، واجتهاده ، ويبدأ بالسماع من أسند شيوخ مصره ، ومن الأولى فالأولى من حيث العلم ، أو الشهرة ، أو الشرف ، أو غير ذلك .
وإذا فرغ من سماع العوالي والمهمات التي ببلده فليرحل إلى غيره .
روينا عن يحيى بن معين أنه قال : " أربعة لا تؤنس منهم رشدا : حارس الدرب ، ومنادي القاضي ، وابن المحدث ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث " .
وروينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قيل له : " أيرحل [ ص: 247 ] الرجل في طلب العلو ؟ " فقال : " بلى ، والله شديدا ، لقد كان علقمة ، والأسود يبلغهما الحديث عن عمر رضي الله عنه ، فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمر رضي الله عنه فيسمعانه منه " ، والله أعلم .
وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال : " إن الله تعالى يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث " .
ولا يحملنه الحرص ، والشره على التساهل في السماع ، والتحمل ، والإخلال بما يشترط عليه في ذلك ، على ما تقدم شرحه .
وليستعمل ما يسمعه من الأحاديث الواردة بالصلاة والتسبيح وغيرهما من الأعمال الصالحة ، فذلك زكاة الحديث ، على ما روينا عن العبد الصالح بشر بن الحارث الحافي رضي الله عنه ، وروينا عنه أيضا أنه قال : " يا أصحاب الحديث ، أدوا زكاة هذا الحديث ، اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث " .
وروينا عن عمرو بن قيس الملائي رضي الله عنه ، قال : " إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله " .
وروينا عن وكيع ، قال : " إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به " .
وليعظم شيخه ، ومن يسمع منه ، فذلك من إجلال الحديث ، والعلم ، ولا يثقل عليه ، ولا يطول بحيث يضجره ، فإنه يخشى على [ ص: 248 ] فاعل ذلك أن يحرم الانتفاع ، وقد روينا عن الزهري أنه قال : " إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب " ، ( والله أعلم ) .
ومن ظفر من الطلبة بسماع شيخ فكتمه غيره ، لينفرد به عنهم ، كان جديرا بأن لا ينتفع به ، وذلك من اللؤم الذي يقع فيه جهلة الطلبة الوضعاء ، ومن أول فائدة طلب الحديث الإفادة ، روينا عن مالك رضي الله عنه أنه قال : " من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضا " .
وروينا عن إسحاق بن إبراهيم راهويه أنه قال لبعض من سمع منه في جماعة : " انسخ من كتابهم ما قد قرأت ، فقال : إنهم لا يمكنونني ، قال : إذا والله لا يفلحون ، قد رأينا أقواما منعوا هذا السماع ، فوالله ما أفلحوا ، ولا أنجحوا " .
قلت : وقد رأينا نحن أقواما منعوا السماع فما أفلحوا ، ولا أنجحوا ، ونسأل الله العافية ، والله أعلم .
ولا يكن ممن يمنعه الحياء ، أو الكبر عن كثير من الطلب . وقد روينا عن مجاهد رضي الله عنه أنه قال : " لا يتعلم مستح ولا مستكبر " ، وروينا عن عمر بن الخطاب ، وابنه رضي الله عنهما أنهما قالا : " من رق وجهه رق علمه " .
ولا يأنف من أن يكتب عمن دونه ما يستفيده منه . روينا عن [ ص: 249 ] وكيع بن الجراح رضي الله عنه أنه قال : " لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله ، وعمن هو دونه " ، وليس بموفق من ضيع شيئا من وقته في الاستكثار من الشيوخ ، لمجرد اسم الكثرة وصيتها .
وليس من ذلك قول أبي حاتم الرازي : " إذا كتبت فقمش ، وإذا حدثت ففتش " .
وليكتب ، وليسمع ما يقع إليه من كتاب أو جزء على التمام ، ولا ينتخب . فقد قال ابن المبارك رضي الله عنه : " ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت " . وروينا عنه أنه قال : " لا ينتخب على عالم إلا بذنب " ، وروينا - أو بلغنا - عن يحيى بن معين أنه قال : " سيندم المنتخب في الحديث حين لا تنفعه الندامة " .
فإن ضاقت به الحال عن الاستيعاب ، وأحوج إلى الانتقاء ، والانتخاب ، تولى ذلك بنفسه إن كان أهلا مميزا ، عارفا بما يصلح للانتقاء ، والاختيار ، وإن كان قاصرا عن ذلك استعان ببعض الحفاظ لينتخب له . وقد كان جماعة من الحفاظ متصدين للانتقاء على الشيوخ ، والطلبة تسمع وتكتب بانتخابهم ، منهم إبراهيم بن أرمة الأصبهاني ، وأبو عبد الله الحسين بن محمد المعروف بعبيد العجل ، وأبو الحسن الدارقطني ، وأبو بكر الجعابي ، في آخرين .
[ ص: 250 ] وكانت العادة جارية برسم الحافظ علامة في أصل الشيخ على ما ينتخبه ، فكان النعيمي أبو الحسن يعلم بصاد ممدودة ، وأبو محمد الخلال بطاء ممدودة ، وأبو الفضل الفلكي بصورة همزتين ، وكلهم يعلم بحبر في الحاشية اليمنى من الورقة ، وعلم الدارقطني في الحاشية اليسرى بخط عريض بالحمرة ، وكان أبو القاسم اللالكائي الحافظ يعلم بخط صغير بالحمرة على أول إسناد الحديث ، ولا حجر في ذلك ولكل الخيار .
ثم لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث ، وكتبه دون معرفته ، وفهمه ، فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل ، وبغير أن يحصل في عداد أهل الحديث ، بل لم يزد على أن صار من المتشبهين المنقوصين ، المتحلين بما هم منه عاطلون .
قلت : أنشدني أبو المظفر بن الحافظ أبي سعد السمعاني رحمه الله - لفظا - بمدينة مرو ، قال : أنشدنا والدي - لفظا ، أو قراءة عليه - قال : أنشدنا محمد بن ناصر السلامي من لفظه ، قال : أنشدنا الأديب الفاضل فارس بن الحسين لنفسه :
يا طالب العلم الذي ذهبت بمدته الروايه
كن في الرواية ذا العنا
ية بالرواية والدرايه
وارو القليل وراعه
فالعلم ليس له نهايه
[ ص: 251 ] وليقدم العناية بالصحيحين ، ثم بسنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وكتاب الترمذي ، ضبطا لمشكلها ، وفهما لخفي معانيها ، ولا يخدعن عن كتاب السنن الكبير للبيهقي ، فإنا لا نعلم مثله في بابه .
ثم بسائر ما تمس حاجة صاحب الحديث إليه من كتب المساند كمسند أحمد ، ومن كتب الجوامع المصنفة في الأحكام المشتملة على المسانيد وغيرها ، وموطأ مالك هو المقدم منها .
ومن كتب علل الحديث ، ومن أجودها كتاب العلل عن أحمد بن حنبل ، وكتاب العلل عن الدارقطني .
ومن كتب معرفة الرجال وتواريخ المحدثين ، ومن أفضلها ( تاريخ البخاري الكبير ) و ( كتاب الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم .
ومن كتب الضبط لمشكل الأسماء ، ومن أكملها " كتاب الإكمال " لأبي ناصر بن ماكولا .
وليكن كلما مر به اسم مشكل ، أو كلمة من حديث مشكلة ، بحث عنها ، وأودعها قلبه ، فإنه يجتمع له بذلك علم كثير في يسر .
وليكن تحفظه للحديث على التدريج قليلا قليلا مع الأيام والليالي ، فذلك أحرى بأن يمتع بمحفوظه .
وممن ورد ذلك عنه من حفاظ الحديث المتقدمين : شعبة ، وابن علية ، ومعمر .
وروينا عن معمر قال : سمعت الزهري يقول : " من [ ص: 252 ] طلب العلم جملة فاته جملة ، وإنما يدرك العلم حديثا ، وحديثين " .
وليكن الإتقان من شأنه ، فقد قال عبد الرحمن بن مهدي : " الحفظ الإتقان " .
ثم إن المذاكرة بما يتحفظه من أقوى أسباب الإمتاع به ، روينا عن علقمة النخعي قال : " تذاكروا الحديث ، فإن حياته ذكره " . وعن إبراهيم النخعي قال : " من سره أن يحفظ الحديث ، فليحدث به ، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه " .
وليشتغل بالتخريج ، والتأليف ، والتصنيف إذا استعد لذلك ، وتأهل له ، فإنه - كما قال الخطيب الحافظ - يثبت الحفظ ، ويذكي القلب ، ويشحذ الطبع ، ويجيد البيان ، ويكشف الملتبس ، ويكسب جميل الذكر ، ويخلده إلى آخر الدهر ، وقل ما يمهر في علم الحديث ، ويقف على غوامضه ، ويستبين الخفي من فوائده إلا من فعل ذلك .
وحدث الصوري الحافظ محمد بن علي قال : " رأيت أبا محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ في المنام ، فقال لي : يا أبا عبد الله ، خرج ، وصنف قبل أن يحال بينك وبينه ، هذا أنا تراني قد حيل بيني وبين ذلك " .
[ ص: 253 ] وللعلماء بالحديث في تصنيفه طريقتان :
إحداهما : التصنيف على الأبواب ، وهو تخريجه على أحكام الفقه ، وغيرها ، وتنويعه أنواعا وجمع ما ورد في كل حكم ، وكل نوع في باب فباب .
والثانية : تصنيفه على المسانيد ، وجمع حديث كل صحابي وحده ، وإن اختلفت أنواعه ، ولمن اختار ذلك أن يرتبهم على حروف المعجم في أسمائهم ، وله أن يرتبهم على القبائل ، فيبدأ ببني هاشم ، ثم بالأقرب ، فالأقرب نسبا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وله أن يرتب على سوابق الصحابة ، فيبدأ بالعشرة ، ثم بأهل بدر ، ثم بأهل الحديبية ، ثم بمن أسلم ، وهاجر بين الحديبية ، وفتح مكة ، ويختم بأصاغر الصحابة كأبي الطفيل ، ونظرائه ، ثم بالنساء ، وهذا أحسن ، والأول أسهل ، وفي ذلك من وجوه الترتيب غير ذلك .
ثم إن من أعلى المراتب في تصنيفه تصنيفه معللا ، بأن يجمع في كل حديث طرفه ، واختلاف الرواة فيه ، كما فعل يعقوب بن شيبة في مسنده .
ومما يعتنون به في التأليف جمع الشيوخ ، أي : جمع حديث شيوخ مخصوصين كل واحد منهم على انفراده . قال عثمان بن سعيد [ ص: 254 ] الدارمي : " يقال : من لم يجمع حديث هؤلاء الخمسة فهو مفلس في الحديث : سفيان ، وشعبة ، ومالك ، وحماد بن زيد ، وابن عيينة ، وهم أصول الدين " .
وأصحاب الحديث يجمعون حديث خلق كثير غير الذين ذكرهم الدارمي ، منهم : أيوب السختياني ، والزهري ، والأوزاعي .
ويجمعون أيضا التراجم ، وهي أسانيد يخصون ما جاء بها بالجمع ، والتأليف ، مثل ترجمة مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، وترجمة سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وترجمة هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، في أشباه لذلك كثيرة .
ويجمعون أيضا أبوابا من أبواب الكتب المصنفة الجامعة للأحكام ، فيفردونها بالتأليف ، فتصير كتبا مفردة نحو باب رؤية الله عز وجل ، وباب رفع اليدين ، وباب القراءة خلف الإمام ، وغير ذلك .
ويفردون أحاديث ، فيجمعون طرقها في كتب مفردة نحو طرق حديث قبض العلم ، وحديث الغسل يوم الجمعة ، وغير ذلك . وكثير من أنواع كتابنا هذا قد أفردوا أحاديثه بالجمع والتصنيف .
وعليه في كل ذلك تصحيح القصد ، والحذر من قصد المكاثرة ونحوه .
بلغنا عن حمزة بن محمد الكناني : أنه خرج حديثا واحدا من [ ص: 255 ] نحو مائتي طريق ، فأعجبه ذلك ، فرأى يحيى بن معين في منامه ، فذكر له ذلك ، فقال له : أخشى أن يدخل هذا تحت : ( ألهاكم التكاثر ) .
ثم ليحذر أن يخرج إلى الناس ما يصنفه إلا بعد تهذيبه ، وتحريره ، وإعادة النظر فيه ، وتكريره .
وليتق أن يجمع ما لم يتأهل بعد لاجتناء ثمرته ، واقتناص فائدة جمعه ، كيلا يكون حكمه ما رويناه عن علي بن المديني ، قال : إذا رأيت الحدث أول ما يكتب الحديث ، يجمع حديث الغسل ، وحديث : " من كذب " فاكتب على قفاه " لا يفلح " .
ثم إن هذا الكتاب مدخل إلى هذا الشأن ، مفصح عن أصوله وفروعه ، شارح لمصطلحات أهله ومقاصدهم ومهماتهم التي ينقص المحدث بالجهل بها نقصا فاحشا ، فهو إن شاء الله جدير بأن تقدم العناية به ، ونسأل الله سبحانه فضله العظيم ، وهو أعلم .
وقد اندرج طرف منه في ضمن ما تقدم .
فأول ما عليه تحقيق الإخلاص ، والحذر من أن يتخذه وصلة إلى شيء من الأغراض الدنيوية .
روينا عن حماد بن سلمة رضي الله عنه أنه قال : " من طلب الحديث لغير الله مكر به " .
وروينا عن سفيان الثوري رضي الله عنه قال : " ما أعلم عملا هو أفضل من طلب الحديث لمن أراد الله به " . وروينا نحوه عن ابن المبارك رضي الله عنه .
ومن أقرب الوجوه في إصلاح النية فيه ما روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن نجيد أنه سأل أبا جعفر أحمد بن حمدان ، وكانا عبدين صالحين ، فقال له : " بأي نية أكتب الحديث ؟ " فقال : " ألستم [ ص: 246 ] تروون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ؟ " قال : " نعم " ، قال : " فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأس الصالحين " .
وليسأل الله تبارك وتعالى التيسير ، والتأييد ، والتوفيق ، والتسديد ، وليأخذ نفسه بالأخلاق الزكية ، والآداب المرضية ، فقد روينا عن أبي عاصم النبيل ، قال : " من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدين ، فيجب أن يكون خير الناس " .
وفي السن الذي يستحب فيه الابتداء بسماع الحديث ، وبكتبته اختلاف ، سبق بيانه في أول النوع الرابع والعشرين .
وإذا أخذ فيه فليشمر عن ساق جهده ، واجتهاده ، ويبدأ بالسماع من أسند شيوخ مصره ، ومن الأولى فالأولى من حيث العلم ، أو الشهرة ، أو الشرف ، أو غير ذلك .
وإذا فرغ من سماع العوالي والمهمات التي ببلده فليرحل إلى غيره .
روينا عن يحيى بن معين أنه قال : " أربعة لا تؤنس منهم رشدا : حارس الدرب ، ومنادي القاضي ، وابن المحدث ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث " .
وروينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قيل له : " أيرحل [ ص: 247 ] الرجل في طلب العلو ؟ " فقال : " بلى ، والله شديدا ، لقد كان علقمة ، والأسود يبلغهما الحديث عن عمر رضي الله عنه ، فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى عمر رضي الله عنه فيسمعانه منه " ، والله أعلم .
وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال : " إن الله تعالى يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث " .
ولا يحملنه الحرص ، والشره على التساهل في السماع ، والتحمل ، والإخلال بما يشترط عليه في ذلك ، على ما تقدم شرحه .
وليستعمل ما يسمعه من الأحاديث الواردة بالصلاة والتسبيح وغيرهما من الأعمال الصالحة ، فذلك زكاة الحديث ، على ما روينا عن العبد الصالح بشر بن الحارث الحافي رضي الله عنه ، وروينا عنه أيضا أنه قال : " يا أصحاب الحديث ، أدوا زكاة هذا الحديث ، اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث " .
وروينا عن عمرو بن قيس الملائي رضي الله عنه ، قال : " إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله " .
وروينا عن وكيع ، قال : " إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به " .
وليعظم شيخه ، ومن يسمع منه ، فذلك من إجلال الحديث ، والعلم ، ولا يثقل عليه ، ولا يطول بحيث يضجره ، فإنه يخشى على [ ص: 248 ] فاعل ذلك أن يحرم الانتفاع ، وقد روينا عن الزهري أنه قال : " إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب " ، ( والله أعلم ) .
ومن ظفر من الطلبة بسماع شيخ فكتمه غيره ، لينفرد به عنهم ، كان جديرا بأن لا ينتفع به ، وذلك من اللؤم الذي يقع فيه جهلة الطلبة الوضعاء ، ومن أول فائدة طلب الحديث الإفادة ، روينا عن مالك رضي الله عنه أنه قال : " من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضا " .
وروينا عن إسحاق بن إبراهيم راهويه أنه قال لبعض من سمع منه في جماعة : " انسخ من كتابهم ما قد قرأت ، فقال : إنهم لا يمكنونني ، قال : إذا والله لا يفلحون ، قد رأينا أقواما منعوا هذا السماع ، فوالله ما أفلحوا ، ولا أنجحوا " .
قلت : وقد رأينا نحن أقواما منعوا السماع فما أفلحوا ، ولا أنجحوا ، ونسأل الله العافية ، والله أعلم .
ولا يكن ممن يمنعه الحياء ، أو الكبر عن كثير من الطلب . وقد روينا عن مجاهد رضي الله عنه أنه قال : " لا يتعلم مستح ولا مستكبر " ، وروينا عن عمر بن الخطاب ، وابنه رضي الله عنهما أنهما قالا : " من رق وجهه رق علمه " .
ولا يأنف من أن يكتب عمن دونه ما يستفيده منه . روينا عن [ ص: 249 ] وكيع بن الجراح رضي الله عنه أنه قال : " لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله ، وعمن هو دونه " ، وليس بموفق من ضيع شيئا من وقته في الاستكثار من الشيوخ ، لمجرد اسم الكثرة وصيتها .
وليس من ذلك قول أبي حاتم الرازي : " إذا كتبت فقمش ، وإذا حدثت ففتش " .
وليكتب ، وليسمع ما يقع إليه من كتاب أو جزء على التمام ، ولا ينتخب . فقد قال ابن المبارك رضي الله عنه : " ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت " . وروينا عنه أنه قال : " لا ينتخب على عالم إلا بذنب " ، وروينا - أو بلغنا - عن يحيى بن معين أنه قال : " سيندم المنتخب في الحديث حين لا تنفعه الندامة " .
فإن ضاقت به الحال عن الاستيعاب ، وأحوج إلى الانتقاء ، والانتخاب ، تولى ذلك بنفسه إن كان أهلا مميزا ، عارفا بما يصلح للانتقاء ، والاختيار ، وإن كان قاصرا عن ذلك استعان ببعض الحفاظ لينتخب له . وقد كان جماعة من الحفاظ متصدين للانتقاء على الشيوخ ، والطلبة تسمع وتكتب بانتخابهم ، منهم إبراهيم بن أرمة الأصبهاني ، وأبو عبد الله الحسين بن محمد المعروف بعبيد العجل ، وأبو الحسن الدارقطني ، وأبو بكر الجعابي ، في آخرين .
[ ص: 250 ] وكانت العادة جارية برسم الحافظ علامة في أصل الشيخ على ما ينتخبه ، فكان النعيمي أبو الحسن يعلم بصاد ممدودة ، وأبو محمد الخلال بطاء ممدودة ، وأبو الفضل الفلكي بصورة همزتين ، وكلهم يعلم بحبر في الحاشية اليمنى من الورقة ، وعلم الدارقطني في الحاشية اليسرى بخط عريض بالحمرة ، وكان أبو القاسم اللالكائي الحافظ يعلم بخط صغير بالحمرة على أول إسناد الحديث ، ولا حجر في ذلك ولكل الخيار .
ثم لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث ، وكتبه دون معرفته ، وفهمه ، فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل ، وبغير أن يحصل في عداد أهل الحديث ، بل لم يزد على أن صار من المتشبهين المنقوصين ، المتحلين بما هم منه عاطلون .
قلت : أنشدني أبو المظفر بن الحافظ أبي سعد السمعاني رحمه الله - لفظا - بمدينة مرو ، قال : أنشدنا والدي - لفظا ، أو قراءة عليه - قال : أنشدنا محمد بن ناصر السلامي من لفظه ، قال : أنشدنا الأديب الفاضل فارس بن الحسين لنفسه :
يا طالب العلم الذي ذهبت بمدته الروايه
كن في الرواية ذا العنا
ية بالرواية والدرايه
وارو القليل وراعه
فالعلم ليس له نهايه
[ ص: 251 ] وليقدم العناية بالصحيحين ، ثم بسنن أبي داود ، وسنن النسائي ، وكتاب الترمذي ، ضبطا لمشكلها ، وفهما لخفي معانيها ، ولا يخدعن عن كتاب السنن الكبير للبيهقي ، فإنا لا نعلم مثله في بابه .
ثم بسائر ما تمس حاجة صاحب الحديث إليه من كتب المساند كمسند أحمد ، ومن كتب الجوامع المصنفة في الأحكام المشتملة على المسانيد وغيرها ، وموطأ مالك هو المقدم منها .
ومن كتب علل الحديث ، ومن أجودها كتاب العلل عن أحمد بن حنبل ، وكتاب العلل عن الدارقطني .
ومن كتب معرفة الرجال وتواريخ المحدثين ، ومن أفضلها ( تاريخ البخاري الكبير ) و ( كتاب الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم .
ومن كتب الضبط لمشكل الأسماء ، ومن أكملها " كتاب الإكمال " لأبي ناصر بن ماكولا .
وليكن كلما مر به اسم مشكل ، أو كلمة من حديث مشكلة ، بحث عنها ، وأودعها قلبه ، فإنه يجتمع له بذلك علم كثير في يسر .
وليكن تحفظه للحديث على التدريج قليلا قليلا مع الأيام والليالي ، فذلك أحرى بأن يمتع بمحفوظه .
وممن ورد ذلك عنه من حفاظ الحديث المتقدمين : شعبة ، وابن علية ، ومعمر .
وروينا عن معمر قال : سمعت الزهري يقول : " من [ ص: 252 ] طلب العلم جملة فاته جملة ، وإنما يدرك العلم حديثا ، وحديثين " .
وليكن الإتقان من شأنه ، فقد قال عبد الرحمن بن مهدي : " الحفظ الإتقان " .
ثم إن المذاكرة بما يتحفظه من أقوى أسباب الإمتاع به ، روينا عن علقمة النخعي قال : " تذاكروا الحديث ، فإن حياته ذكره " . وعن إبراهيم النخعي قال : " من سره أن يحفظ الحديث ، فليحدث به ، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه " .
وليشتغل بالتخريج ، والتأليف ، والتصنيف إذا استعد لذلك ، وتأهل له ، فإنه - كما قال الخطيب الحافظ - يثبت الحفظ ، ويذكي القلب ، ويشحذ الطبع ، ويجيد البيان ، ويكشف الملتبس ، ويكسب جميل الذكر ، ويخلده إلى آخر الدهر ، وقل ما يمهر في علم الحديث ، ويقف على غوامضه ، ويستبين الخفي من فوائده إلا من فعل ذلك .
وحدث الصوري الحافظ محمد بن علي قال : " رأيت أبا محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ في المنام ، فقال لي : يا أبا عبد الله ، خرج ، وصنف قبل أن يحال بينك وبينه ، هذا أنا تراني قد حيل بيني وبين ذلك " .
[ ص: 253 ] وللعلماء بالحديث في تصنيفه طريقتان :
إحداهما : التصنيف على الأبواب ، وهو تخريجه على أحكام الفقه ، وغيرها ، وتنويعه أنواعا وجمع ما ورد في كل حكم ، وكل نوع في باب فباب .
والثانية : تصنيفه على المسانيد ، وجمع حديث كل صحابي وحده ، وإن اختلفت أنواعه ، ولمن اختار ذلك أن يرتبهم على حروف المعجم في أسمائهم ، وله أن يرتبهم على القبائل ، فيبدأ ببني هاشم ، ثم بالأقرب ، فالأقرب نسبا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وله أن يرتب على سوابق الصحابة ، فيبدأ بالعشرة ، ثم بأهل بدر ، ثم بأهل الحديبية ، ثم بمن أسلم ، وهاجر بين الحديبية ، وفتح مكة ، ويختم بأصاغر الصحابة كأبي الطفيل ، ونظرائه ، ثم بالنساء ، وهذا أحسن ، والأول أسهل ، وفي ذلك من وجوه الترتيب غير ذلك .
ثم إن من أعلى المراتب في تصنيفه تصنيفه معللا ، بأن يجمع في كل حديث طرفه ، واختلاف الرواة فيه ، كما فعل يعقوب بن شيبة في مسنده .
ومما يعتنون به في التأليف جمع الشيوخ ، أي : جمع حديث شيوخ مخصوصين كل واحد منهم على انفراده . قال عثمان بن سعيد [ ص: 254 ] الدارمي : " يقال : من لم يجمع حديث هؤلاء الخمسة فهو مفلس في الحديث : سفيان ، وشعبة ، ومالك ، وحماد بن زيد ، وابن عيينة ، وهم أصول الدين " .
وأصحاب الحديث يجمعون حديث خلق كثير غير الذين ذكرهم الدارمي ، منهم : أيوب السختياني ، والزهري ، والأوزاعي .
ويجمعون أيضا التراجم ، وهي أسانيد يخصون ما جاء بها بالجمع ، والتأليف ، مثل ترجمة مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، وترجمة سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وترجمة هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، في أشباه لذلك كثيرة .
ويجمعون أيضا أبوابا من أبواب الكتب المصنفة الجامعة للأحكام ، فيفردونها بالتأليف ، فتصير كتبا مفردة نحو باب رؤية الله عز وجل ، وباب رفع اليدين ، وباب القراءة خلف الإمام ، وغير ذلك .
ويفردون أحاديث ، فيجمعون طرقها في كتب مفردة نحو طرق حديث قبض العلم ، وحديث الغسل يوم الجمعة ، وغير ذلك . وكثير من أنواع كتابنا هذا قد أفردوا أحاديثه بالجمع والتصنيف .
وعليه في كل ذلك تصحيح القصد ، والحذر من قصد المكاثرة ونحوه .
بلغنا عن حمزة بن محمد الكناني : أنه خرج حديثا واحدا من [ ص: 255 ] نحو مائتي طريق ، فأعجبه ذلك ، فرأى يحيى بن معين في منامه ، فذكر له ذلك ، فقال له : أخشى أن يدخل هذا تحت : ( ألهاكم التكاثر ) .
ثم ليحذر أن يخرج إلى الناس ما يصنفه إلا بعد تهذيبه ، وتحريره ، وإعادة النظر فيه ، وتكريره .
وليتق أن يجمع ما لم يتأهل بعد لاجتناء ثمرته ، واقتناص فائدة جمعه ، كيلا يكون حكمه ما رويناه عن علي بن المديني ، قال : إذا رأيت الحدث أول ما يكتب الحديث ، يجمع حديث الغسل ، وحديث : " من كذب " فاكتب على قفاه " لا يفلح " .
ثم إن هذا الكتاب مدخل إلى هذا الشأن ، مفصح عن أصوله وفروعه ، شارح لمصطلحات أهله ومقاصدهم ومهماتهم التي ينقص المحدث بالجهل بها نقصا فاحشا ، فهو إن شاء الله جدير بأن تقدم العناية به ، ونسأل الله سبحانه فضله العظيم ، وهو أعلم .