السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله واصحابه اجمعين
--------------------------------------------------------------------------------
فتن الأمم والشعوب:
وكما يتعرّض الأفراد للفتن تتعرض الشعوب أحيانًا لها، فقد تبتلى شعوب بالخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ونضوب الموارد والتصحّر وما إلى ذلك.
و«فتنة الشعوب» تعد أخطر الفتن وأشدها. فقبيل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- كان نائمًا في بيت عائشة -رضي الله تعالى عنها- ففزع من الليل وخرج مسرعًا إلى بقيع الغرقد -مقبرة أهل المدينة- وعاد وهو يستعيذ ويسبّح، فقالت له عائشة: افتقدتك يا رسول الله أين كنت؟ فذكر ذلك وقال: «ويل للعرب من شر قد اقترب»، وأشار إلى أنّه رأى كأنّ الفتن مطر يتساقط على بيوت أهل المدينة فاستعاذ بالله وأخذ يسأله سبحانه أن يخفف عن أمته ذلك. وهناك آية من كتاب الله شديدة الأهميّة في «فقه الفتنة» هي قوله تعالى: ]قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ[(الأنعام:65). وهذه الآية كلما سمعها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- يستعيذ بالله سبحانه ويسأله أن لا يبتلي أمته بذلك. وقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- فيما أخرجه أحمد عن ثوبان «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومذ يا رسول الله. قال: بل أنتم يومذ كثير، ولكنَّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله المهابة من قلوب عدوكم منكم وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله. قال: حب الدنيا وكراهية الموت». وأخبر الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وسلّم- أصحابه ذات يوم فقال: «إني صليت صلاة رغبة ورهبة سألت الله لأمتى ثلاثا فأعطانى اثنتين ورد على واحدة سألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلكهم غرقا فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردها عليَّ([1])».
وكان سيدنا عمر بن الخطاب يعرف أن سيدنا حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنهما- كان كما نقول الأن أمين سر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- في المنافقين؛ فسأل حذيفة عن الفتنة «عن حذيفة قال: كنا جلوسا عند عمر فقال أيكم يحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- في الفتنة؟ أو كما قال: فقلت: أنا، قال حذيفة: فقال عمر: إنك لجرئ، وكيف؟ قال: قلت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- يقول: «فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وجاره يكفرها الصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر، قال: قلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها بابا مغلقًا، قال: فيكسر الباب، أم يفتح؟ قال: قلت: لا، بل يكسر، قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبدًا، قال: قلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما أعلم أن غدا دون الليلة، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، قال: فهبنا حذيفة أن نسأله من الباب، فقلنا لمسروق: سله ، فسأله فقال: عمر([2])»
وحين توفي سيدنا وحبينا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- أظلم كل شيء في المدينة وما أن انتهى أصحابه رضوان الله عليهم من دفنه وتراجعوا عن قبره حتى قال كثير منهم: «قد أنكرنا قلوبنا»، فتلك القلوب النقيّة الطاهرة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- يتلو عليها أيات ربه ويزكيها ويعلمها الكتاب والحكمة ويطهّرها تغيّرت تلك القلوب ولم تعد كما عهدها أصحابها لا في طهرها ولا نقائها ولا صفائها ولا في طاقاتها ولا قدراتها على استيعاب مَا يحدث. واستمرت تراكمات التغيّر حتى قادتهم إلى سلسلة من الفتن والحروب كان من المستحيل أن تحدث بينهم لو بقيت القلوب على نقائها وفطرهم على صفائها، لكنّها سنن الله –تعالى- ماضية في الأنفس والآفاق والأزمان والأماكن حتى يبلغ الكتاب أجله.
ولقد ابتليت الأمّة بعد ذلك وفتنت بالفرقة والاختلاف والطائفيّة مما هيّأ لأعداءها النفاذ إلى داخلها وتمزيق وحدتها وإضعاف روابطها وتهيئتها للسقوط. فجاء الصليبيّون وأريق على أرض بيت المقدس دم سبعين ألفًا من المسلمين ولم تنته الفتنة ولم يدرك المسلمون أنّهم لا بدّ لهم من تجفيف منابع الفتن وإغلاق مصادرها والحيلولة دون بروزها والاعتصام بحبل الله تعالى، وتعاهد القلوب بالتأليف الدائم والنفوس بالتنقية والتطهير والمجتمعات بالمحافظة على القيم والمقاصد القرآنيّة العليا، فظل الناس في غمرة ساهون. وقبل أن تضع الحروب الصليبيّة كاملة أوزاراها تأتي حروب التتار لتغسل بغداد بدماء الناس وأحبار كتبهم، فكأن هناك دنسًا كبيرًا جاء مع الفتن المتلاحقة هيّأ الأجواء للمغول باقتحام بغداد وغيرها من حواضر المسلمين وغسل أرضها بالدماء والأحبار وفي ذلك دلالة خطيرة على فتن الناس وتجاوزهم لكتاب الله –تعالى- ولانشغالهم عنه بكل مَا عداه، وشيوع ثقافة المغنيّن والمغنيّات والمعارف المترجمة بدون تنقية واختيار وفحص واختبار وما أنتج حولها من معارف ساهمت في فرقة الأمّة وتمزقها، وبقيت الأمّة تتأرجح مَا بين هزيمة وانكسار وما بين مهلة أو هدنة أو فسحة في الأجل ربما يعدها البعض على سبيل المغالطة أو الانخداع انتصارًا، وكان «فقه الفتنة» يقتضي أن تحدّد الأمّة عند كل مرحلة من مراحل الفتنة طبيعة الفتنة وعواملها وأسبابها والطريق الذي يرسمه القرآن المجيد للخروج منها وعدم السقوط فيها مرة أخرى. لكن ذلك لم يحدث، فشاب كل صحوة من الصحوات دخن كثير كثيف لم يدركه القائمون على شئون الأمّة ولا أهل الرأي فيها. فإذا ذرَّت الفتنة بقرونها مرة أخرى وأطلت على الناس تعالت أصواتهم بالويل والثبور والمناداة بعظائم الأمور؛ كيف عادت الفتنة من جديد؟ ولا يشعرون أنّها عادت لأنّ جذورها باقية كزرع تحصده من فوق فيعود مرة أخرى ليتجدد ويظهر وهكذا. فالفتن إن لم تقتلع من جذورها وتجفف ينابيعها لا يمكن أن تتوقف ولا أن تنتهي.
مصر والفتن:
إنّ مَا جرى لمصر منذ دخول نابليون مصر (1798)؛ بل وقبل ذلك بكثير، فتن متلاحقة تظهر وتقوى وتضعف حتى يخيل للبعض بأنَّها انتهت واختفت ولن تعود، فإذا بها تظهر مرة أخرى وبثياب جديدة. ولا نريد أن نحلل مفاصل تاريخ مصر الحديث منذ دخول نابليون إلى مصر وإلى يومنا هذا؛ لكنَّنا نشير إلى ذلك ليستحضر المفكّرون والمحللون ذلك التاريخ الذي يشكّل خلفيّة بشكل أو بآخر لهذا الواقع فالمصريّون بعد استحضار ذلك التاريخ كلّه وكل مَا حدث فيه انقسموا إلى فريقين وهم غافلون أو متغافلون عن كل المتغيّرات التي تحيط بهم؛ ومنها أو في مقدمتها قيام دولة إسرائيل واستلابها غزة من أهلها ومن السيادة المصريّة التي كانت عليها. وبلاد الشام كلها تعتبر في أيّ تفكير استراتيجيّ العمق الذي لا تستغنى مصر عنه. فالعمق الاستراتيجيّ لمصر هو بلاد الشام كلّها، وكذلك السودان فيما يتعلق بأفريقيا فإذا غفلت عن ذلك فإنّ أي معركة تخوضها يمكن أن تجد عدوها قد دخل مدنها وعاث فيها فسادًا، ومع أنّ نصر أكتوبر كان نصرًا حقيقيًّا ولكن عند وقوع بعض الملابسات وحدوث الثغرة وجدنا أنفسنا نتفاوض مع عدونا الذي هزمناه واسترجعنا منه الضفة الأخرى من السويس على الكيلو (101 من القاهرة) لأنّ مصر دائما مهما كانت عظيمة ينبغي أن تتجنب خوض معاركها على أرضها؛ بل عليها دائما أن تستدرج عدوها لتقاتله على عمقها الاستراتيجيّ لا على أرضها هي، لذلك فإنّ سيناء في خطر حقيقيّ لا بدّ من اتخاذ مَا يلزم لتحصينها وحمايتها وإسكانها بمن هم مؤهلون لحمايتها والدفاع عنها.
إنّ العوامل الإضافيّة في المنطقة وفي مقدمتها مَا ذكرناه من قيام دولة إسرائيل ووجود أطراف تنافس مصر على دورها الإقليميّ والأفريقيّ وتحاول أن تدفعها عنه، فإنّها تقدّر أنَّ مصر لا يمكن أن تقوم بدور الحارس للأمن الإسرائيليّ من العرب ومن شركائها في الإقليم ولا أن يكون لها دور فاعل بين العرب والمسلمين في هذا الإقليم وفي أفريقيّا إلا إذا مزقت وتشرذم شعبها.
الطبيعة المسالمة لمصر:
لقد كان تاريخ مصر ينبه دائما إلى ظاهرة، هي ظاهرة تغلّب الطبيعة المصريّة الهادئة الراضية المطمئنة على كل ظروف ومسوغات ومصادر ومنابع التطرف؛ فالأفكار المتطرفة بمجرد أن تدخل مصر كأنّ المصريّين يصبّون عليها مزيجًا من طبيعتهم إذا اختلط بها حوّلها إلى اعتدال ونزع فتيل العنف منها، سواء أكان مصدر تلك الأفكار دينيًّا أم مدنيًّا، ولذلك فإنّ من المسحيل أن ترى شيوعيّا ماركسيًّا أو ماويًّا في أيّ بلد من بلدان العالم غير مصر يمكن أن يذهب إلى الجامع ليصلي يوم الجمعة أو العيدين أو يصوم رمضان، فذلك أمر لا يوجد إلا في مصر، فالمصريّ قادر على أن يروض أيّة أيديولوجيا ويجعلها بحيث يستطيع التعايش معها.
وقد جاوزت من عمري الخامسة والسبعين ولم أر ولم أسمع في أيّ بلد من المسلمين راقصة تعلن أنّه بناءً على دخول شهر رمضان ستعتزل الرقص وتتفرغ للعبادة، فذلك أمر لم أره ولم أسمع عنه إلا في مصر. ففي مصر يمكن أن يتجاور الثلج مع النار؛ لا يطفئ الثلج النار، ولا تشعل النار الثلج، وتلك خصلة كنّا وما نزال نعتز بها ونعتبرها رصيدًا سوف يحافظ لنا على وحدة مصر وبقائها كتلة نادرة في عروبتها وإسلاميّتها ومصريّتها موحدة لا تقبل التفكك. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
وفي الخمسينات عندما كنا طلبة في الأزهر كان الشيخ خالد محمد خالد معجبًا بالماركسيّة، فكتب مقالات ينادي شيخ الأزهر بها ليستبدل فقه المذاهب بالفقه الماركسيّ، ونحو ابن هشام وابن مالك بالنحو الفرنسيّ، وبلاغة الجرجانيّ بالبلاغة الإنجليزيّة، كما كتب كتابه المعروف «من هنا نبدأ» وينادي بكل مضامين الحداثة في تلك المرحلة ويعتبرها البديل عن مَا يقدمه الأزهر. ورد عليه الشيخ الغزالي رحمهما الله في كتابه «من هنا نعلم». ولا أعرف أن أحدًا اعتدى على الشيخ خالد أنذاك ولا حطّ من قدره. وكذلك الحال بالنسبة لمشايخ كثيرين آخرين، فكان الجدل بالتي هي أحسن ومقابلة الحجة بالحجة هي سمة النخبة العامّة، ومعارك طه حسين والرافعي والعقاد ومن إليهم مَا تزال حاضرة في أذهان أبناء جيلي والجيل الذي سبقنا ولم يتجاوز الناس فيها حدود الكلمة إلى الاعتداء باليد أو باللسان. حتى الشتائم لم تكن في قواميس النخبة آنذاك التي كانت تستبدلها بالسخريّة اللاذعة المضحكة دون شتائم.
اتجاهات العنف في مصر:
فما الذي حدث للمصريّين اليوم؟ وما الذي أصابهم؟ وأين ذهبت تلك السلوكيّات عنهم؟ وكيف حدث ذلك؟ ولماذا حدث؟
إنّ عمليّات تجريف للأخلاقيّات المصريّة ومصادرها العربيّة والإسلاميّة قد حدثت عبر العقود الماضية. لقد تعرضت هذه الشخصيّة النادرة التي عبّر عنها (جمال حمدان) وغيره تحت سنابك الإكراه على قبول قيم الحداثة والتغيير والتحوّل من الزراعيّ إلى الصناعيّ لأنّ أفرادًا حاكمين قد اقتنعوا بأنّ ذلك هو الذي سيجدد الحضارة المصريّة. وفي تلك المعركة التي استمرت عبر العقود الماضية حدثت تغييرات شديدة، فبعد عقود عديدة من تجربة محاولة النهضة وإدخال البلاد الحداثة مَا زال الحديث يتعالى عن التخلف والمتخلفين ويراد بهم الإسلاميّون وأفكارهم. وما زالت كل تجربة فاشلة تنسب إلى هؤلاء المتخلفين!! حتى لم يعد هناك أي إحساس بفارق بين أمور يشترك الجميع في تقديسها ويختلفون في طرائق التعبير عن ذلك التقديس، فالكل ينادي بتقديس الشريعة والشرعيّة؛ لكن فريقًا يرى أنَّ ذلك التقديس يقتضي أن تركن الشريعة والشرعيّة على الرف وتقدم لها تحيات وزهور. وفريق يرى أن توضع على طاولة الحكم ويجرى العمل بها. ويتصارع الفريقان على هذه المواقع لا على الحقيقة نفسها. ويستبيح كل منهما التضحية بالتماسك والمؤسّسات والراوبط المتينة. وربما غفل الفريقان عن أنّ المجتمعات المريضة حضاريًّا تتفجر أزماتها تباعًا وفي كل مرة يتوهم القوم أنّهم وضعوا أيديهم على الداء وأنهم لا يحتاجون إلاّ إلى بعض التنظيرات والتضحيّات ليعالجوه، وفجأة يحدث انفجار جديد في ناحية أخرى يستقطب الأنظار والعقول، ويبدأ الناس يلهثون وراء حلول لا تقوم إلا على وهم جديد.
والكل يتغافلون عن الكائن الحضاريّ المقموع المكبوت في عقل كل منّا وهو كائن مركب تقليديّ عاداتيّ عرفيّ دينيّ غيبيّ ظلاميّ تنويريّ قبليّ طائفيّ سلفيّ أصوليّ أزهريّ درعميّ يعشعش فيه علي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا والعقاد وأحمد حسين وعزيز على المصريّ و... و... و...
فقوانا السياسيّة مثل جبال الجليد قممها فوق الماء وقواعدها ومنطقة الوسط فيها تحت الماء. فذلك الخليط المكبوت يحاول أن يبرز كلما واتته الفرصة، فإذا برز ظنّ الآخرون أنّه قد برز بقوة. فبذور الاستلاب الدينيّ للشعوب والأفكار القوميّة ما زالت ترى بأنّ أي نجاح تحققه الفئآت الإسلاميّة راجع إلى قدراتها التكتيكيّة والتنظيميّة التي مَا كان لها أن تؤثر لولا انتكاسة القوميّة العربيّة والأفكار الليبراليّة، وبعض تياراتها يضمر الندم الشديد على أنّها لم تقم في تلك الفترات بتصفية هذه الفئآت الظلاميّة والقضاء عليها، وفي الوقت نفسه ترى تلك التيارات الدينيّة أنّ أبائها هم الذين قادوا معارك التحرير والاستقلال لكل هذه الشعوب، وهم الذين أعطى أباؤهم وأجدادهم أرواحهم رخيصة من أجل الاستقلال والتحرير وخطفت منهم الثمار وهمشوا وتركوا للديكتاتوريّات تعبث بمصائرهم وجعلتهم إذا جلسوا لا حديث لهم إلا في فترات السجون الطويلة أو المنافي البعيدة لعشرين عامًا أو تزيد، وحتى النكتة إذا تداولوها فإنّها مختوم عليها بأنّ مصدرها السجن. لقد تحطمت تحت حكم الانقلابات العسكريّة وما طرحته من شعارات جُلّ الأبنية الاجتماعيّة، والتكوينات المهنيّة ونظم القبائل أثناء محاولات فرض العصرنة والتحديث وتجريف الفكر المخالف وإزاحته لجعل الشعوب تتقبل الأفكار المطروحة. إنّ سياسات البناء القوميّ وبناء الدولة القوميّة هي التي جعلت طبيب العيون بشار الأسد يقاتل شعبه بكل مخزون الدمار لديه بأكثر مما قاتل أبوه وأخوه أعدائهم في الخارج. إنّ مركزيّة السلطة والإخلال بكل التوازنات لصالح تلك المركزيّة ولبناء الدولة المركزيّة القويّة قام على تخطيء الجماعات والطوائف التي كانت مجتماعتنا التقليديّة تقوم عليها. إنّ هناك علاقة بين القمع وتحديث أجهزة القهر.
إنّ هناك خللاً موروثًا في جميع جوانب الحياة؛ في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة والتعليم، إنّ مَا تركه مبارك دولة مركزيّة قويّة وشلة نخبويّة فوقيّة، فلا غرابة أن يكون هناك فراغ لا بدّ من المسارعة إلى التعاون على بنائه، إنّ الفكر الذي تركته الأنظمة البائدة يقوم على تكريس مبدأ أن الدولة هي طريق التقدم وأنّ الدولة لا بدّ أن تمتد جذورها لأيّ شيء ولكل شيء. فهناك شرعيّة تخلقها الدولة نفسها لنفسها. وأغلبيّة تستطيع الدولة تزييفها متى شاءت، ونداءآت بالحريّة لا تجاوز الحناجر وصراخ في الدعوة إلى العقلانيّة لا يتجاوز الحناجر كذلك. إنّ النخب التي تطلق على نفسها الليبراليّة والتقدميّة والحداثيّة نجحت بشكل معروف جعل كثيرًا من أقطابها يتقبل أن يكون من حاشية الدكتاتوريّين لفترات طويلة في إنشاء مجتمعات صغيرة فوقية متغربة لأنها اعتقدت أنّها الأكثر أهليّة للحكم وأكثر استحقاقًا له لأنها حسب ظنّها الأقرب للحضارة والمدنيّة، فتسارعت فيما بينها على الحكم وتركت الشعوب على الهامش وزعمت تلك الفئآت أنّها الأكثر عقلانيّة، فبررت بقاء النظم السابقة ودورانها حول فلكها بانتهازيّة ظاهرة، وسوغت أخطائها ووظفت بغير ذكاء كبير جهل الشعوب والعلمانيّة وما سمته بالليبراليّة لذلك. لقد احتل مفهوم «العلم والعلميّة» لدي الفئآت التقدميّة مكان الشريعة. فالشريعة التي كانت تؤمن بها الشعوب وترى أنّها صالحة لكل زمان ومكان لم تعد في نظر القوم علميّة. فالشريعة –في نظرهم- معرفة دينيّة لا علميّة. إنّ العلم والمختبر هو وحده الذي يعطي المعرفة قيمتها العلميّة ويتركها مطلقة لا تتغيير. إنّ «العلم الغربيّ» استمد مشروعيّته في أوروبا من تناقضه ومخالفته للمفاهيم اللاهوتيّة التي كانت ثابتة قبله وجعل هدمها أساس عمله ومشروعيّته، أمّا المعرفة التي يحملها الإسلاميّون فهي في نظرهم خرافيّة منافية للعقل.
يا مصريّون احذروا السقوط في الفتنة:
إنّ «الفتنة» تصبح نتيجة منطقيّة لواقع فيه هذا الانقسام وهذه الفرقة؛ ذلك لأنّ الجماعة أو المجتمع تفقد إجماعها على المرتكزات الأسياسيّة التي تقوم عليها. إنّ الفتنة هنا تعني فقدان الإجماع الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ؛ وتقود في النهاية إلى مَا يطلق عليه «الحرب الأهليّة»، إن مَا دعى إليه الليبراليّون من العقليّة ما هي إلاّ نتيجة لفتنة الحداثة التي قطعت التواصل الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ بين مثقفي المجتمع وحكامه، بين من هم فوق ومن هم تحت. إنّ الفتنة في مصر اليوم تمثل المأزق التاريخيّ القائم بين الإسلاميّ المنادي بالأصالة والتراث وبين التغريبيّ التحديثيّ العقلانيّ!! فنحن في حالة فتنة تختلط فيها المعايير والمقاييس والتوازنات وتصبح القوة هي التي تحدّد العدل والحق والباطل وإن تخفَّت هذه القوة تحت مصطلحات النظام والقانون والحداثة والعلم أو الشريعة والسلفيّة والتراث والأصالة والتظاهر وحق التعبير عن الرأي.
الدين والدولة:
لقد فصل الدين عن الدولة في معظم البلدان العربيّة والإسلاميّة ومنها مصر وأبقوا على رابطة شكليّة جعلت بعض البلدان تحتفظ بعنوان «أنّ دين الدولة هو الإسلام» لتكون هذه المادة حجة في يد رجال السلطة يحتجون بها إذا مَا تململت الجماهير المسلمة وشعرت بأنَّها تفتقد الإسلام؛ لكن المحاكم قد وُحدت، والقضاء قد وحد على قوانين عصريّة مستوردة، وأصبحت قوانينا متطابقة مع القوانين الأوروبيّة، ذلك لأنّ نموذج الدولة الأعلى للدولة الحديثة لا يمكن أن يكون إلا علمانيًّا وبالتالي فإنّ الإسلام باعتباره دينًّا وعقيدة ونظاما ومنهج حياة لم يعد معتبرا عند النخب الحاكمة السابقة، لم يعد أساسًا لقيام النهضة وإنشاء دولتها العصريّة.
ولا بدّ من الإشارة إلى بعض الفروق بين العلمانيّة في الغرب والعلمانيّة عندنا، فلقد أخذت العلمانيّة شرعيّتها في الغرب لأنّها كانت الفلسفة الملهمة للنضالات العنيدة في سبيل الحصول على الحريّة والمساواة والعدالة وقامت على تطور للمعرفة الإنسانيّة لتعارضها مع اللاهوت الذي كبّل أوروبا قرونًا، أمّا العلمانيّة عندنا فقد تحوّلت إلى فلسفة تعمل على إضفاء الشرعيّة على الاستبداد والظلم واللامساواة، لذلك فإنها تحوّلت إلى سلطة معادية للأمّة ومستفزة للجماعة.
العصبيّة:
إنّ مشكلة الدولة التي تمخضت عنها الفرقة. وانهيار مفهوم الأمة في عالمنا أنّها كانت دولة بلا دين ولا عقيدة، وبلا عقيدة عقليّة للعصبيّة، ولم تستطع الدولة أن تقدم عصبيّة جديدة بديلة تعطي لهذا الفرد المنفصل عن عشيرته وطائفته ومجتعمه شعورًا بالحماية والأمن والمساواة، فيظهر لنفسه وكأنه قد اغترب عن ذاته، وعصبيّة الدولة أو العصبيّة لها لا يمكن أن تكون بديلا عن المشاعر التي افتقدها.
إن الدولة حينما فصلت الدين عن الحياة أعلنت تحررها من آخر سلطة معنويّة ومرجعيّة شعبيّة ووسيلة ضغط بيد المحرومين وتخلصت كذلك من «علم السلطة وسلطة العلم الحديث»، فالعلمانيّة أعطت للاستبداد المعاصر غطاءً وقدمت لسلوكياته في مصادرة الرأي والتغير الاجتماعيّ و الطبقيّ الاقتصاديّين غطاءً شرعيًّا من مساواة شكليّة إعلاميّة بين الطوائف. فالإنسان اليوم يُملأ ويُفرّغ إعلاميًّا فقط لا غير.
إنّ الخوف من اكتساح الإسلام المتهم بأنه عقيدة سكونيّة ركوديّة رجعيّة لا تنتشر إلا بسبب جهل العامّة المستلبة للدولة فذلك الجهل هو المحرك لسياسة الدولة فيما تقترحه من سياسة وتعليميّة إعلاميّة وقضائيّة كذلك لنقل المجتمع من الجهل إلى النور وإلى الديمقراطيّة والحريّة والمساواة.
وبدلاً من أن تكون الحداثة العلمانيّة ذات نظرة منفتحة إلى الشعب، إذا بها عصبيّة لا تقل انغلاقًا عن العصبيّات الأخرى. الفرق أنّ الحداثة المشتملة على العلمانيّة هي عصبيّة تجمع كل القيم الحديثة كالحريّة والديمقراطيّة والعلمانيّة والعقلانيّة، لكنها عصبيّة منعزلة تقبع في إطار مجمتع النخبة الحديث ولا تنطبق قيمها على الأغلبيّة الشعبيّة المتخلفة.
إنّ التفكك السياسيّ والتغرب الثقافيّ والتبعيّة الاقتصاديّة وتحريك المشاعر الطائفيّة والصعود الثقافيّ والسياسيّ للقيادة الدينيّة كلها عناوين دالة على أنّ محاولاتنا لتحديث بلادنا وأخذ مصائرنا بأيدينا بائت كلها بالفشل وأن علينا البحث عن سبل جديدة.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) أخرجه أحمد (5/240 ، رقم 22135) ، وابن أبى شيبة (6/64 ، رقم 29507) ، وابن ماجه (2/1303 ، رقم 3951) قال البوصيرى (4/170) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. والطبرانى (20/148 ، رقم 306). جامع الأحاديث للسيوطي، باب إن المشددة مع الهمزة، رقم (9302).
([2])مصنف ابن أبي شيبة، الجزء (8) رقم (21).مصنف عبد الرزاق، الجزء (11) رقم (20752). وقال: أخرجه الشيخان والترمذي 3 : 244. السنن الكبرى للنسائي، الجزء الأول رقم (327). صحيح ابن حبان، باب كتاب الرهائن، رقم (6066). صحيح البخاري، باب الصلاة كفارة، رقم (525). صحيح البخاري، باب الصدقة تكفر الخطيئة، رقم (1435). صحيح البخاري، باب الصوم كفارة، رقم (1895). صحيح البخاري، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3586). صحيح البخاري، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، رقم (7096).
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله واصحابه اجمعين
--------------------------------------------------------------------------------
فتن الأمم والشعوب:
وكما يتعرّض الأفراد للفتن تتعرض الشعوب أحيانًا لها، فقد تبتلى شعوب بالخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ونضوب الموارد والتصحّر وما إلى ذلك.
و«فتنة الشعوب» تعد أخطر الفتن وأشدها. فقبيل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- كان نائمًا في بيت عائشة -رضي الله تعالى عنها- ففزع من الليل وخرج مسرعًا إلى بقيع الغرقد -مقبرة أهل المدينة- وعاد وهو يستعيذ ويسبّح، فقالت له عائشة: افتقدتك يا رسول الله أين كنت؟ فذكر ذلك وقال: «ويل للعرب من شر قد اقترب»، وأشار إلى أنّه رأى كأنّ الفتن مطر يتساقط على بيوت أهل المدينة فاستعاذ بالله وأخذ يسأله سبحانه أن يخفف عن أمته ذلك. وهناك آية من كتاب الله شديدة الأهميّة في «فقه الفتنة» هي قوله تعالى: ]قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ[(الأنعام:65). وهذه الآية كلما سمعها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- يستعيذ بالله سبحانه ويسأله أن لا يبتلي أمته بذلك. وقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- فيما أخرجه أحمد عن ثوبان «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومذ يا رسول الله. قال: بل أنتم يومذ كثير، ولكنَّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله المهابة من قلوب عدوكم منكم وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله. قال: حب الدنيا وكراهية الموت». وأخبر الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وسلّم- أصحابه ذات يوم فقال: «إني صليت صلاة رغبة ورهبة سألت الله لأمتى ثلاثا فأعطانى اثنتين ورد على واحدة سألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلكهم غرقا فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردها عليَّ([1])».
وكان سيدنا عمر بن الخطاب يعرف أن سيدنا حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنهما- كان كما نقول الأن أمين سر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- في المنافقين؛ فسأل حذيفة عن الفتنة «عن حذيفة قال: كنا جلوسا عند عمر فقال أيكم يحفظ حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- في الفتنة؟ أو كما قال: فقلت: أنا، قال حذيفة: فقال عمر: إنك لجرئ، وكيف؟ قال: قلت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- يقول: «فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وجاره يكفرها الصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر، قال: قلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها بابا مغلقًا، قال: فيكسر الباب، أم يفتح؟ قال: قلت: لا، بل يكسر، قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبدًا، قال: قلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما أعلم أن غدا دون الليلة، إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، قال: فهبنا حذيفة أن نسأله من الباب، فقلنا لمسروق: سله ، فسأله فقال: عمر([2])»
وحين توفي سيدنا وحبينا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- أظلم كل شيء في المدينة وما أن انتهى أصحابه رضوان الله عليهم من دفنه وتراجعوا عن قبره حتى قال كثير منهم: «قد أنكرنا قلوبنا»، فتلك القلوب النقيّة الطاهرة التي كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- يتلو عليها أيات ربه ويزكيها ويعلمها الكتاب والحكمة ويطهّرها تغيّرت تلك القلوب ولم تعد كما عهدها أصحابها لا في طهرها ولا نقائها ولا صفائها ولا في طاقاتها ولا قدراتها على استيعاب مَا يحدث. واستمرت تراكمات التغيّر حتى قادتهم إلى سلسلة من الفتن والحروب كان من المستحيل أن تحدث بينهم لو بقيت القلوب على نقائها وفطرهم على صفائها، لكنّها سنن الله –تعالى- ماضية في الأنفس والآفاق والأزمان والأماكن حتى يبلغ الكتاب أجله.
ولقد ابتليت الأمّة بعد ذلك وفتنت بالفرقة والاختلاف والطائفيّة مما هيّأ لأعداءها النفاذ إلى داخلها وتمزيق وحدتها وإضعاف روابطها وتهيئتها للسقوط. فجاء الصليبيّون وأريق على أرض بيت المقدس دم سبعين ألفًا من المسلمين ولم تنته الفتنة ولم يدرك المسلمون أنّهم لا بدّ لهم من تجفيف منابع الفتن وإغلاق مصادرها والحيلولة دون بروزها والاعتصام بحبل الله تعالى، وتعاهد القلوب بالتأليف الدائم والنفوس بالتنقية والتطهير والمجتمعات بالمحافظة على القيم والمقاصد القرآنيّة العليا، فظل الناس في غمرة ساهون. وقبل أن تضع الحروب الصليبيّة كاملة أوزاراها تأتي حروب التتار لتغسل بغداد بدماء الناس وأحبار كتبهم، فكأن هناك دنسًا كبيرًا جاء مع الفتن المتلاحقة هيّأ الأجواء للمغول باقتحام بغداد وغيرها من حواضر المسلمين وغسل أرضها بالدماء والأحبار وفي ذلك دلالة خطيرة على فتن الناس وتجاوزهم لكتاب الله –تعالى- ولانشغالهم عنه بكل مَا عداه، وشيوع ثقافة المغنيّن والمغنيّات والمعارف المترجمة بدون تنقية واختيار وفحص واختبار وما أنتج حولها من معارف ساهمت في فرقة الأمّة وتمزقها، وبقيت الأمّة تتأرجح مَا بين هزيمة وانكسار وما بين مهلة أو هدنة أو فسحة في الأجل ربما يعدها البعض على سبيل المغالطة أو الانخداع انتصارًا، وكان «فقه الفتنة» يقتضي أن تحدّد الأمّة عند كل مرحلة من مراحل الفتنة طبيعة الفتنة وعواملها وأسبابها والطريق الذي يرسمه القرآن المجيد للخروج منها وعدم السقوط فيها مرة أخرى. لكن ذلك لم يحدث، فشاب كل صحوة من الصحوات دخن كثير كثيف لم يدركه القائمون على شئون الأمّة ولا أهل الرأي فيها. فإذا ذرَّت الفتنة بقرونها مرة أخرى وأطلت على الناس تعالت أصواتهم بالويل والثبور والمناداة بعظائم الأمور؛ كيف عادت الفتنة من جديد؟ ولا يشعرون أنّها عادت لأنّ جذورها باقية كزرع تحصده من فوق فيعود مرة أخرى ليتجدد ويظهر وهكذا. فالفتن إن لم تقتلع من جذورها وتجفف ينابيعها لا يمكن أن تتوقف ولا أن تنتهي.
مصر والفتن:
إنّ مَا جرى لمصر منذ دخول نابليون مصر (1798)؛ بل وقبل ذلك بكثير، فتن متلاحقة تظهر وتقوى وتضعف حتى يخيل للبعض بأنَّها انتهت واختفت ولن تعود، فإذا بها تظهر مرة أخرى وبثياب جديدة. ولا نريد أن نحلل مفاصل تاريخ مصر الحديث منذ دخول نابليون إلى مصر وإلى يومنا هذا؛ لكنَّنا نشير إلى ذلك ليستحضر المفكّرون والمحللون ذلك التاريخ الذي يشكّل خلفيّة بشكل أو بآخر لهذا الواقع فالمصريّون بعد استحضار ذلك التاريخ كلّه وكل مَا حدث فيه انقسموا إلى فريقين وهم غافلون أو متغافلون عن كل المتغيّرات التي تحيط بهم؛ ومنها أو في مقدمتها قيام دولة إسرائيل واستلابها غزة من أهلها ومن السيادة المصريّة التي كانت عليها. وبلاد الشام كلها تعتبر في أيّ تفكير استراتيجيّ العمق الذي لا تستغنى مصر عنه. فالعمق الاستراتيجيّ لمصر هو بلاد الشام كلّها، وكذلك السودان فيما يتعلق بأفريقيا فإذا غفلت عن ذلك فإنّ أي معركة تخوضها يمكن أن تجد عدوها قد دخل مدنها وعاث فيها فسادًا، ومع أنّ نصر أكتوبر كان نصرًا حقيقيًّا ولكن عند وقوع بعض الملابسات وحدوث الثغرة وجدنا أنفسنا نتفاوض مع عدونا الذي هزمناه واسترجعنا منه الضفة الأخرى من السويس على الكيلو (101 من القاهرة) لأنّ مصر دائما مهما كانت عظيمة ينبغي أن تتجنب خوض معاركها على أرضها؛ بل عليها دائما أن تستدرج عدوها لتقاتله على عمقها الاستراتيجيّ لا على أرضها هي، لذلك فإنّ سيناء في خطر حقيقيّ لا بدّ من اتخاذ مَا يلزم لتحصينها وحمايتها وإسكانها بمن هم مؤهلون لحمايتها والدفاع عنها.
إنّ العوامل الإضافيّة في المنطقة وفي مقدمتها مَا ذكرناه من قيام دولة إسرائيل ووجود أطراف تنافس مصر على دورها الإقليميّ والأفريقيّ وتحاول أن تدفعها عنه، فإنّها تقدّر أنَّ مصر لا يمكن أن تقوم بدور الحارس للأمن الإسرائيليّ من العرب ومن شركائها في الإقليم ولا أن يكون لها دور فاعل بين العرب والمسلمين في هذا الإقليم وفي أفريقيّا إلا إذا مزقت وتشرذم شعبها.
الطبيعة المسالمة لمصر:
لقد كان تاريخ مصر ينبه دائما إلى ظاهرة، هي ظاهرة تغلّب الطبيعة المصريّة الهادئة الراضية المطمئنة على كل ظروف ومسوغات ومصادر ومنابع التطرف؛ فالأفكار المتطرفة بمجرد أن تدخل مصر كأنّ المصريّين يصبّون عليها مزيجًا من طبيعتهم إذا اختلط بها حوّلها إلى اعتدال ونزع فتيل العنف منها، سواء أكان مصدر تلك الأفكار دينيًّا أم مدنيًّا، ولذلك فإنّ من المسحيل أن ترى شيوعيّا ماركسيًّا أو ماويًّا في أيّ بلد من بلدان العالم غير مصر يمكن أن يذهب إلى الجامع ليصلي يوم الجمعة أو العيدين أو يصوم رمضان، فذلك أمر لا يوجد إلا في مصر، فالمصريّ قادر على أن يروض أيّة أيديولوجيا ويجعلها بحيث يستطيع التعايش معها.
وقد جاوزت من عمري الخامسة والسبعين ولم أر ولم أسمع في أيّ بلد من المسلمين راقصة تعلن أنّه بناءً على دخول شهر رمضان ستعتزل الرقص وتتفرغ للعبادة، فذلك أمر لم أره ولم أسمع عنه إلا في مصر. ففي مصر يمكن أن يتجاور الثلج مع النار؛ لا يطفئ الثلج النار، ولا تشعل النار الثلج، وتلك خصلة كنّا وما نزال نعتز بها ونعتبرها رصيدًا سوف يحافظ لنا على وحدة مصر وبقائها كتلة نادرة في عروبتها وإسلاميّتها ومصريّتها موحدة لا تقبل التفكك. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
وفي الخمسينات عندما كنا طلبة في الأزهر كان الشيخ خالد محمد خالد معجبًا بالماركسيّة، فكتب مقالات ينادي شيخ الأزهر بها ليستبدل فقه المذاهب بالفقه الماركسيّ، ونحو ابن هشام وابن مالك بالنحو الفرنسيّ، وبلاغة الجرجانيّ بالبلاغة الإنجليزيّة، كما كتب كتابه المعروف «من هنا نبدأ» وينادي بكل مضامين الحداثة في تلك المرحلة ويعتبرها البديل عن مَا يقدمه الأزهر. ورد عليه الشيخ الغزالي رحمهما الله في كتابه «من هنا نعلم». ولا أعرف أن أحدًا اعتدى على الشيخ خالد أنذاك ولا حطّ من قدره. وكذلك الحال بالنسبة لمشايخ كثيرين آخرين، فكان الجدل بالتي هي أحسن ومقابلة الحجة بالحجة هي سمة النخبة العامّة، ومعارك طه حسين والرافعي والعقاد ومن إليهم مَا تزال حاضرة في أذهان أبناء جيلي والجيل الذي سبقنا ولم يتجاوز الناس فيها حدود الكلمة إلى الاعتداء باليد أو باللسان. حتى الشتائم لم تكن في قواميس النخبة آنذاك التي كانت تستبدلها بالسخريّة اللاذعة المضحكة دون شتائم.
اتجاهات العنف في مصر:
فما الذي حدث للمصريّين اليوم؟ وما الذي أصابهم؟ وأين ذهبت تلك السلوكيّات عنهم؟ وكيف حدث ذلك؟ ولماذا حدث؟
إنّ عمليّات تجريف للأخلاقيّات المصريّة ومصادرها العربيّة والإسلاميّة قد حدثت عبر العقود الماضية. لقد تعرضت هذه الشخصيّة النادرة التي عبّر عنها (جمال حمدان) وغيره تحت سنابك الإكراه على قبول قيم الحداثة والتغيير والتحوّل من الزراعيّ إلى الصناعيّ لأنّ أفرادًا حاكمين قد اقتنعوا بأنّ ذلك هو الذي سيجدد الحضارة المصريّة. وفي تلك المعركة التي استمرت عبر العقود الماضية حدثت تغييرات شديدة، فبعد عقود عديدة من تجربة محاولة النهضة وإدخال البلاد الحداثة مَا زال الحديث يتعالى عن التخلف والمتخلفين ويراد بهم الإسلاميّون وأفكارهم. وما زالت كل تجربة فاشلة تنسب إلى هؤلاء المتخلفين!! حتى لم يعد هناك أي إحساس بفارق بين أمور يشترك الجميع في تقديسها ويختلفون في طرائق التعبير عن ذلك التقديس، فالكل ينادي بتقديس الشريعة والشرعيّة؛ لكن فريقًا يرى أنَّ ذلك التقديس يقتضي أن تركن الشريعة والشرعيّة على الرف وتقدم لها تحيات وزهور. وفريق يرى أن توضع على طاولة الحكم ويجرى العمل بها. ويتصارع الفريقان على هذه المواقع لا على الحقيقة نفسها. ويستبيح كل منهما التضحية بالتماسك والمؤسّسات والراوبط المتينة. وربما غفل الفريقان عن أنّ المجتمعات المريضة حضاريًّا تتفجر أزماتها تباعًا وفي كل مرة يتوهم القوم أنّهم وضعوا أيديهم على الداء وأنهم لا يحتاجون إلاّ إلى بعض التنظيرات والتضحيّات ليعالجوه، وفجأة يحدث انفجار جديد في ناحية أخرى يستقطب الأنظار والعقول، ويبدأ الناس يلهثون وراء حلول لا تقوم إلا على وهم جديد.
والكل يتغافلون عن الكائن الحضاريّ المقموع المكبوت في عقل كل منّا وهو كائن مركب تقليديّ عاداتيّ عرفيّ دينيّ غيبيّ ظلاميّ تنويريّ قبليّ طائفيّ سلفيّ أصوليّ أزهريّ درعميّ يعشعش فيه علي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق وطه حسين ومصطفى صادق الرافعي ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا والعقاد وأحمد حسين وعزيز على المصريّ و... و... و...
فقوانا السياسيّة مثل جبال الجليد قممها فوق الماء وقواعدها ومنطقة الوسط فيها تحت الماء. فذلك الخليط المكبوت يحاول أن يبرز كلما واتته الفرصة، فإذا برز ظنّ الآخرون أنّه قد برز بقوة. فبذور الاستلاب الدينيّ للشعوب والأفكار القوميّة ما زالت ترى بأنّ أي نجاح تحققه الفئآت الإسلاميّة راجع إلى قدراتها التكتيكيّة والتنظيميّة التي مَا كان لها أن تؤثر لولا انتكاسة القوميّة العربيّة والأفكار الليبراليّة، وبعض تياراتها يضمر الندم الشديد على أنّها لم تقم في تلك الفترات بتصفية هذه الفئآت الظلاميّة والقضاء عليها، وفي الوقت نفسه ترى تلك التيارات الدينيّة أنّ أبائها هم الذين قادوا معارك التحرير والاستقلال لكل هذه الشعوب، وهم الذين أعطى أباؤهم وأجدادهم أرواحهم رخيصة من أجل الاستقلال والتحرير وخطفت منهم الثمار وهمشوا وتركوا للديكتاتوريّات تعبث بمصائرهم وجعلتهم إذا جلسوا لا حديث لهم إلا في فترات السجون الطويلة أو المنافي البعيدة لعشرين عامًا أو تزيد، وحتى النكتة إذا تداولوها فإنّها مختوم عليها بأنّ مصدرها السجن. لقد تحطمت تحت حكم الانقلابات العسكريّة وما طرحته من شعارات جُلّ الأبنية الاجتماعيّة، والتكوينات المهنيّة ونظم القبائل أثناء محاولات فرض العصرنة والتحديث وتجريف الفكر المخالف وإزاحته لجعل الشعوب تتقبل الأفكار المطروحة. إنّ سياسات البناء القوميّ وبناء الدولة القوميّة هي التي جعلت طبيب العيون بشار الأسد يقاتل شعبه بكل مخزون الدمار لديه بأكثر مما قاتل أبوه وأخوه أعدائهم في الخارج. إنّ مركزيّة السلطة والإخلال بكل التوازنات لصالح تلك المركزيّة ولبناء الدولة المركزيّة القويّة قام على تخطيء الجماعات والطوائف التي كانت مجتماعتنا التقليديّة تقوم عليها. إنّ هناك علاقة بين القمع وتحديث أجهزة القهر.
إنّ هناك خللاً موروثًا في جميع جوانب الحياة؛ في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة والتعليم، إنّ مَا تركه مبارك دولة مركزيّة قويّة وشلة نخبويّة فوقيّة، فلا غرابة أن يكون هناك فراغ لا بدّ من المسارعة إلى التعاون على بنائه، إنّ الفكر الذي تركته الأنظمة البائدة يقوم على تكريس مبدأ أن الدولة هي طريق التقدم وأنّ الدولة لا بدّ أن تمتد جذورها لأيّ شيء ولكل شيء. فهناك شرعيّة تخلقها الدولة نفسها لنفسها. وأغلبيّة تستطيع الدولة تزييفها متى شاءت، ونداءآت بالحريّة لا تجاوز الحناجر وصراخ في الدعوة إلى العقلانيّة لا يتجاوز الحناجر كذلك. إنّ النخب التي تطلق على نفسها الليبراليّة والتقدميّة والحداثيّة نجحت بشكل معروف جعل كثيرًا من أقطابها يتقبل أن يكون من حاشية الدكتاتوريّين لفترات طويلة في إنشاء مجتمعات صغيرة فوقية متغربة لأنها اعتقدت أنّها الأكثر أهليّة للحكم وأكثر استحقاقًا له لأنها حسب ظنّها الأقرب للحضارة والمدنيّة، فتسارعت فيما بينها على الحكم وتركت الشعوب على الهامش وزعمت تلك الفئآت أنّها الأكثر عقلانيّة، فبررت بقاء النظم السابقة ودورانها حول فلكها بانتهازيّة ظاهرة، وسوغت أخطائها ووظفت بغير ذكاء كبير جهل الشعوب والعلمانيّة وما سمته بالليبراليّة لذلك. لقد احتل مفهوم «العلم والعلميّة» لدي الفئآت التقدميّة مكان الشريعة. فالشريعة التي كانت تؤمن بها الشعوب وترى أنّها صالحة لكل زمان ومكان لم تعد في نظر القوم علميّة. فالشريعة –في نظرهم- معرفة دينيّة لا علميّة. إنّ العلم والمختبر هو وحده الذي يعطي المعرفة قيمتها العلميّة ويتركها مطلقة لا تتغيير. إنّ «العلم الغربيّ» استمد مشروعيّته في أوروبا من تناقضه ومخالفته للمفاهيم اللاهوتيّة التي كانت ثابتة قبله وجعل هدمها أساس عمله ومشروعيّته، أمّا المعرفة التي يحملها الإسلاميّون فهي في نظرهم خرافيّة منافية للعقل.
يا مصريّون احذروا السقوط في الفتنة:
إنّ «الفتنة» تصبح نتيجة منطقيّة لواقع فيه هذا الانقسام وهذه الفرقة؛ ذلك لأنّ الجماعة أو المجتمع تفقد إجماعها على المرتكزات الأسياسيّة التي تقوم عليها. إنّ الفتنة هنا تعني فقدان الإجماع الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ؛ وتقود في النهاية إلى مَا يطلق عليه «الحرب الأهليّة»، إن مَا دعى إليه الليبراليّون من العقليّة ما هي إلاّ نتيجة لفتنة الحداثة التي قطعت التواصل الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ بين مثقفي المجتمع وحكامه، بين من هم فوق ومن هم تحت. إنّ الفتنة في مصر اليوم تمثل المأزق التاريخيّ القائم بين الإسلاميّ المنادي بالأصالة والتراث وبين التغريبيّ التحديثيّ العقلانيّ!! فنحن في حالة فتنة تختلط فيها المعايير والمقاييس والتوازنات وتصبح القوة هي التي تحدّد العدل والحق والباطل وإن تخفَّت هذه القوة تحت مصطلحات النظام والقانون والحداثة والعلم أو الشريعة والسلفيّة والتراث والأصالة والتظاهر وحق التعبير عن الرأي.
الدين والدولة:
لقد فصل الدين عن الدولة في معظم البلدان العربيّة والإسلاميّة ومنها مصر وأبقوا على رابطة شكليّة جعلت بعض البلدان تحتفظ بعنوان «أنّ دين الدولة هو الإسلام» لتكون هذه المادة حجة في يد رجال السلطة يحتجون بها إذا مَا تململت الجماهير المسلمة وشعرت بأنَّها تفتقد الإسلام؛ لكن المحاكم قد وُحدت، والقضاء قد وحد على قوانين عصريّة مستوردة، وأصبحت قوانينا متطابقة مع القوانين الأوروبيّة، ذلك لأنّ نموذج الدولة الأعلى للدولة الحديثة لا يمكن أن يكون إلا علمانيًّا وبالتالي فإنّ الإسلام باعتباره دينًّا وعقيدة ونظاما ومنهج حياة لم يعد معتبرا عند النخب الحاكمة السابقة، لم يعد أساسًا لقيام النهضة وإنشاء دولتها العصريّة.
ولا بدّ من الإشارة إلى بعض الفروق بين العلمانيّة في الغرب والعلمانيّة عندنا، فلقد أخذت العلمانيّة شرعيّتها في الغرب لأنّها كانت الفلسفة الملهمة للنضالات العنيدة في سبيل الحصول على الحريّة والمساواة والعدالة وقامت على تطور للمعرفة الإنسانيّة لتعارضها مع اللاهوت الذي كبّل أوروبا قرونًا، أمّا العلمانيّة عندنا فقد تحوّلت إلى فلسفة تعمل على إضفاء الشرعيّة على الاستبداد والظلم واللامساواة، لذلك فإنها تحوّلت إلى سلطة معادية للأمّة ومستفزة للجماعة.
العصبيّة:
إنّ مشكلة الدولة التي تمخضت عنها الفرقة. وانهيار مفهوم الأمة في عالمنا أنّها كانت دولة بلا دين ولا عقيدة، وبلا عقيدة عقليّة للعصبيّة، ولم تستطع الدولة أن تقدم عصبيّة جديدة بديلة تعطي لهذا الفرد المنفصل عن عشيرته وطائفته ومجتعمه شعورًا بالحماية والأمن والمساواة، فيظهر لنفسه وكأنه قد اغترب عن ذاته، وعصبيّة الدولة أو العصبيّة لها لا يمكن أن تكون بديلا عن المشاعر التي افتقدها.
إن الدولة حينما فصلت الدين عن الحياة أعلنت تحررها من آخر سلطة معنويّة ومرجعيّة شعبيّة ووسيلة ضغط بيد المحرومين وتخلصت كذلك من «علم السلطة وسلطة العلم الحديث»، فالعلمانيّة أعطت للاستبداد المعاصر غطاءً وقدمت لسلوكياته في مصادرة الرأي والتغير الاجتماعيّ و الطبقيّ الاقتصاديّين غطاءً شرعيًّا من مساواة شكليّة إعلاميّة بين الطوائف. فالإنسان اليوم يُملأ ويُفرّغ إعلاميًّا فقط لا غير.
إنّ الخوف من اكتساح الإسلام المتهم بأنه عقيدة سكونيّة ركوديّة رجعيّة لا تنتشر إلا بسبب جهل العامّة المستلبة للدولة فذلك الجهل هو المحرك لسياسة الدولة فيما تقترحه من سياسة وتعليميّة إعلاميّة وقضائيّة كذلك لنقل المجتمع من الجهل إلى النور وإلى الديمقراطيّة والحريّة والمساواة.
وبدلاً من أن تكون الحداثة العلمانيّة ذات نظرة منفتحة إلى الشعب، إذا بها عصبيّة لا تقل انغلاقًا عن العصبيّات الأخرى. الفرق أنّ الحداثة المشتملة على العلمانيّة هي عصبيّة تجمع كل القيم الحديثة كالحريّة والديمقراطيّة والعلمانيّة والعقلانيّة، لكنها عصبيّة منعزلة تقبع في إطار مجمتع النخبة الحديث ولا تنطبق قيمها على الأغلبيّة الشعبيّة المتخلفة.
إنّ التفكك السياسيّ والتغرب الثقافيّ والتبعيّة الاقتصاديّة وتحريك المشاعر الطائفيّة والصعود الثقافيّ والسياسيّ للقيادة الدينيّة كلها عناوين دالة على أنّ محاولاتنا لتحديث بلادنا وأخذ مصائرنا بأيدينا بائت كلها بالفشل وأن علينا البحث عن سبل جديدة.
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) أخرجه أحمد (5/240 ، رقم 22135) ، وابن أبى شيبة (6/64 ، رقم 29507) ، وابن ماجه (2/1303 ، رقم 3951) قال البوصيرى (4/170) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. والطبرانى (20/148 ، رقم 306). جامع الأحاديث للسيوطي، باب إن المشددة مع الهمزة، رقم (9302).
([2])مصنف ابن أبي شيبة، الجزء (8) رقم (21).مصنف عبد الرزاق، الجزء (11) رقم (20752). وقال: أخرجه الشيخان والترمذي 3 : 244. السنن الكبرى للنسائي، الجزء الأول رقم (327). صحيح ابن حبان، باب كتاب الرهائن، رقم (6066). صحيح البخاري، باب الصلاة كفارة، رقم (525). صحيح البخاري، باب الصدقة تكفر الخطيئة، رقم (1435). صحيح البخاري، باب الصوم كفارة، رقم (1895). صحيح البخاري، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3586). صحيح البخاري، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، رقم (7096).