من بين العديد من الأماكن التي يقال عنها مسكونة، يأتي برج لندن الشهير في المقدمة، فهذه القلعة التاريخية القائمة على الضفة الشمالية لنهر التايمز لها تاريخ طويل مع القهر والموت .. أناس كثيرون اختفوا وراء جدرانها الصخرية الصماء، تبددت آمالهم، تلاشت أصواتهم، اختفت أجسادهم .. لم يتبق منهم في النهاية سوى أرواح هائمة، تسعى بين الردهات المظلمة الباردة، بعضها يتجول من دون رأس، مبادرا كل من يراه بالقول : "عذرا سيدي .. هل رأيت رأسي ؟!". فيما يصرخ آخر من مكان ما في غياهب القلعة المظلمة : "أنا بريء .. بريء يا ناس .. أخرجوني من هذه الزنزانة القذرة" ... أنها أرواح تعدت حدود الزمان والمكان، شاردة وحائرة، تزرع الرعب في القلوب، وتذكر الناس بماضي البرج الرهيب.
بناء برج لندن أرتبط بحدث عظيم زلزل كيان انجلترا وغير تاريخها بالكامل، ففي يوم 28 سبتمبر / أيلول عام 1066 ميلادية، نزل وليم الثاني دوق نورماندي على الشاطئ البريطاني، أتى مطالبا بالعرش الانجليزي، لم يأتي وحده طبعا، بل برفقة جيش جرار يتألف من عشرة آلاف فرنسي، رست سفنهم بالقرب من بلدة بيفنسي، وواجهوا الجيش الانجليزي بالقرب من بلدة هاستنغيز الريفية في صباح يوم 14 أكتوبر / تشرين الأول 1066، هناك التقى الدوق الفرنسي بنده وخصمه الملك الانجليزي هارولد الثاني، وهناك على المروج الخضراء دارت رحى واحدة من أعنف وأخطر المعارك في تاريخ انجلترا.
الانجليز استبسلوا في الدفاع عن أرضهم، لكنهم كانوا منهكين ومستنزفين، فقبل ثلاثة أسابيع فقط كانوا قد صدوا الغزاة النرويجيين في معركة طاحنة بالشمال، ومن دون أي فرصة للراحة، سار بهم الملك هارولد من شمال انجلترا إلى جنوبها ليناجز الدوق الفرنسي في هاستنغيز. وبحلول عصر ذلك اليوم، تداعت صفوف المشاة الانجليز الذين ظلوا صامدين طوال النهار أمام هجمات الفرسان والرماة الفرنسيين، وساءت الأمور بسقوط الملك هارولد قتيلا بسهم طائش، فولى الانجليز الأدبار.
معركة هاتجينز شكلت نقطة تحول كبرى في تاريخ انجلترا، فكل شيء نعرفه اليوم عن انجلترا يكاد يبدأ من تلك النقطة .. اللغة .. الثقافة .. العمران .. حتى الملكية بقصورها الفخمة وتقاليدها العريقة تكاد تكون ابتدأت من هناك.
وهنا قد تسأل عزيزي القارئ .. طيب ماذا حل بشعب انجلترا آنذاك .. أي الأنجلو – ساكسون ؟
في الحقيقة لم يتبق الكثير مما يدل عليهم، باستثناء مجموعة من الكنائس القديمة المنتشرة حول البلاد. الناس أنفسهم لم يتبخروا طبعا، فدمائهم ما تزال تسري في عروق الانجليز اليوم، لكنهم بعد هاستنغيز، تحولوا إلى عبيد، إلى رعية، وأصبح النورمان هم سادة البلاد، فملك البلاد الجديد، دوق نورماندي الذي أصبح يعرف بأسم الملك وليم الفاتح، قام بمصادرة أراضي النبلاء الانجلو ساكسون ووزعها على قادته وفرسانه من النورمان. الطريف في انجلترا ذاك الزمان هو أن الشعب كان يتكلم لغة، فيما الملك والنبلاء والطبقة الحاكمة كانوا يتكلمون لغة أخرى، وقد استلزم الأمر عدة قرون لكي تزول هذه الفوارق، لكي يظهر إلى الوجود شعب انجليزي موحد، ولغة انجليزية كما نعرفها اليوم.
سادة البلاد الجدد كانوا بالطبع بحاجة إلى حماية أنفسهم وسط مجتمع غريب عنهم من ناحية اللغة والثقافة، ولهذا أسرفوا في بناء القلاع والحصون في طول البلاد وعرضها، وكان برج لندن سيء الصيت، الذي شرع وليم الفاتح ببنائه عام 1078، هو أحد أعظم تلك الحصون على الإطلاق، كان الغرض الأصلي من بناءه يتمثل في إنشاء نقطة حصينة يلتجأ إليها الملك ورجاله في حال حدوث أي ثورة أو تمرد في العاصمة لندن. لكن ملوك انجلترا نادرا ما عاشوا في البرج، كانوا يفضلون الإقامة في قصر وستمنستر الشهير، ومنذ عام 1100 أصبح البرج بمثابة السجن لاحتجاز أبناء الطبقة النبيلة. وبصفة عامه فالبرج عبارة عن تجمع لعده مبان داخل حلقتين من الجدران الدفاعية و خندق مائي أجريت عليه عدة توسعات لاسيما في عهد رتشارد قلب الأسد و هنري الثالث و ادوارد الأول.
أشباح برج لندن
هناك مشاهدات للعديد من الأشباح داخل البرج وحوله، لعل أشهرها هو شبح الملكة آن بولين، الزوجة الثانية لملك انجلترا هنري الثامن، وهي من القلائل الذين جرى إعدامهم داخل البرج، فأغلب عمليات الإعدام كانت تجري في باحة البرج الخارجية، وليس وراء أسوار البرج نفسه. وكانت الملكة آن بولين قد أدينت بتهم "ملفقة" الغرض منها إزاحتها عن العرش لكي يتمكن الملك من الزواج مجددا، ولعل أكثر تلك التهم إساءة وإيلاما للملكة هي اتهامها بممارسة الزنا مع شقيقها جورج الذي ألقي القبض عليه هو الآخر وجرى إعدامه. وبحسب أغلب الشهادات التاريخية فأن آن بولين لم تكن خائفة من الموت، بالعكس كانت تتعجله، ربما كانت تتعجل الخلاص من العذاب النفسي والإذلال الذي عانت منه خلال فترة سجنها ومحاكمتها والألم الذي تسببت فيه لعائلتها التي نكبت بالكامل. كانت الملكة في الحقيقة مغتبطة باقتراب موعد إعدامها إلى درجة أنها قالت لأحد مرافقيها في اليوم السابق للإعدام : "سمعت بأنهم جلبوا سيافا ماهرا .. من الجيد بأن لدي عنق نحيف ورقيق!" . قالت ذلك ثم استغرقت في الضحك وهي تشير إلى عنقها.
وفي يوم الجمعة 19 مايو / أيار 1536 اقتيدت الملكة برفقة أربعة من وصيفاتها إلى منصة الإعدام، كانت ثابتة وهادئة، ألقت خطابا وجيزا على المنصة أعلنت فيه براءتها من كل التهم الموجهة إليها، ثم انحنت بوقار، نزعت قلنسوتها، أزاحت شعرها الحريري الطويل عن رقبتها، ثم مدت رأسها بهدوء أمام الجلاد المحترف الذي جلبوه خصيصا لها من فرنسا. ويقال بأن ذلك الجلاد، المدعو جان رومبو، شعر برهبة كبيرة أمام شجاعة وفصاحة الملكة على منصة الموت، وكذلك كرمها، فقد نفحته بصرة من المال وهي تنحني أمامه، فصرخ الرجل مرتبكا : "أين سيفي ؟" .. مع أنه كان يمسك بالسيف بيده!. لكن ارتباك الجلاد لم يمنعه من أتمامه لعلمه كما يجب، فضربة واحدة من سيفه البتار كانت كافية للإطاحة بذلك العنق العاجي الرقيق لإحدى أجمل نساء انجلترا في ذلك العصر. ثم حملوا الرأس الجميل ووضعوه مع الجسد الرشيق داخل تابوت خشبي بسيط دفنوه في بقعة غير معلومة أسفل كنيسة سانت بيتر داخل البرج.
لكن قصة الملكة آن بولين لا تنتهي هنا، فلعدة قرون شوهد شبحها في مناسبات عديدة ومتكررة ..
في إحدى الليالي الباردة من شتاء عام 1817 أغمي على أحد حراس البرج خلال مناوبته، وحين أستعاد وعيه في وقت لاحق من تلك الليلة أقسم لزملائه بأنه شاهد امرأة مجهولة ترتقي سلم البرج، كانت ترتدي ثيابا ملكية فاخرة، لكنها كانت من دون رأس!. الحارس المسكين كان مرعوبا إلى درجة أنه أصيب بسكتة قلبية مات من جرائها قبل طلوع الصباح. وقد تكررت هذه الحادثة مرة أخرى عام 1864 حين أغمي على جندي آخر بعد رؤيته لشبح امرأة من دون رأس ترتدي ثوبا أبيض تتجول بالقرب من كنيسة سانت بيتر الملاصقة للبرج، وقد شهد العديد من الجنود والضباط على أنهم شاهدوا ذات الشبح في تلك الليلة. وفي عام 1933 بدأ أحد حراس البرج بالصراخ فجأة طالبا مساعدة زملائه، فهرعوا أليه واستفهموا عن سبب صراخه، فاخبرهم بأنه كان واقفا في مكان مناوبته كالمعتاد حين مرت به امرأة من دون رأس ترتدي ملابس بيضاء.
لكن هل كان هذا شبح الملكة آن بولين حقا ؟ ..
في الواقع، أغلب الناس ينسبون الشبح للملكة آن، غير أنها لم تكن الوحيدة التي أعدمت داخل البرج بقطع رأسها.
هناك أيضا الملكة كاثرين هوارد، زوجة هنري الخامسة التي أعدمت بتهمة الخيانة والزنا ولم يكن عمرها يتجاوز التاسعة عشر ساعة إعدامها، ويقال بأن آخر عبارة نطقت بها قبل أن يقطع الجلاد عنقها هي : "أنا أموت كملكة الآن، لكن كان من الأفضل أن أموت كزوجة لكولبيبر" ، وكولبيبر هو عشيقها، وقد أعدم هو وعشيق آخر يدعى فرانسيس ديرهام.
وهناك أيضا الليدي جين غراي، والتي تعرف بأسم "ملكة الأيام التسعة" ، لأنها لم تحكم سوى لتسعة أيام، فهي الأخرى أعدمت داخل البرج بعد أن أطاحت بها القوات الموالية للملكة ماري ابنة الملك هنري الثامن.
ولا ننسى أيضا جين بولين، زوجة شقيق الملكة آن بولين، فقد أعدمت أيضا داخل البرج. وكانت قد شهدت ضد زوجها جورج وشقيقته الملكة، حيث زعمت كذبا بوجود علاقة جنسية بينهما. ويتفق أغلب المؤرخين اليوم على أن الدافع الحقيقي وراء شهادتها يتلخص في كونها لم تكن سعيدة في زواجها، وكانت تغار بشدة من الملكة، بسبب ذكاءها ولباقتها وتأثيرها الكبير في كل من حولها، حتى أن جورج بولين كان يفضل قضاء الوقت مع شقيقته على قضاءه مع زوجته. وقد أعدمت جين بولين عام 1542، أي ستة أعوام بعد إعدام الملكة آن، وذلك بتهمة ترتيب وتدبير لقاءات الملكة كاثرين هوارد مع عشاقها. وجرى إعدامها في نفس الساعة التي أعدمت فيها الملكة كاثرين، حيث أخذتا معا إلى منصة الإعدام، أعدمت الملكة أولا، ثم صعدت جين بولين بعدها، وقطع الجلاد رأسها بضربة واحدة من فأسه. وقد أجمع جميع من حضروا الإعدام على أن السيدتين واجهتا الموت بهدوء وشجاعة، وتصرفتا في لحظاتهما الأخيرة كما يليق بملكة وسيدة من الطبقة النبيلة. ومن مفارقات الدهر هو أن جين بولين دفنت في كنيسة سانت بيتر إلى جوار زوجها وشقيقته.
ومن النساء الأخريات اللائي أعدمن داخل البرج، هي العجوز مارغريت بولي، كونتيسة ساليسبري، حيث أعدمت عام 1541 بأمر الملك هنري الثامن، لا لذنب اقترفته، لكن بسبب نشاط أبناءها المناوئ لتوجهات الملك هنري في عزل كنيسة انجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية وبابا روما، وهو التوجه الذي أدى لاحقا إلى صراع طائفي دموي رهيب أستمر لفترة طويلة وأدى في النهاية إلى تحول الشعب الانجليزي من الكاثوليكية إلى البروتستانتية وظهور ما يعرف بكنيسة انجلترا، أو الكنيسة الانجليكانية.
إعدام الكونتيسة سالسبيري كان مثيرا للشفقة، فالمرأة العجوز التي ناهزت السبعين عاما كانت مريضة وضعيفة ساعة إعدامها، وقبل كل شيء كانت بريئة، ولهذا رفضت الصعود إلى منصة الإعدام، فسحلوها سحلا وأمسكوا بها بقوة حتى يتمكن الجلاد من قطع رأسها بالفأس، لكن عذاب هذه السيدة لم ينتهي سريعا للأسف، فالجلاد لم يكن محترفا، أخطأ في توجيه ضربته الأولى فأصاب كتفها بدلا من رقبتها، ومن حر الضربة قفزت الكونتيسة وراحت تركض حول المنصة وهي تصرخ ألما والدم يتدفق من كتفها بقوة، فلحق بها الحراس وسحلوها إلى مكانها الأول، غير أن الجلاد الأحمق فشل مرة أخرى في إنهاء عذابات السيدة العجوز بضربة واحدة، ولم يتمكن من قطع رقبتها إلا بعد عشرة ضربات متواصلة. ويقال بأن شبح الكونتيسة يتجلى أحيانا في الذكرى السنوية لإعدامها على شكل عجوز بيضاء الشعر تركض جريحة حول البرج وهي تصرخ وتولول فيما يطاردها مجموعة من الرجال المتشحين بالسواد.
الأميران والبرج :
عبر القرون تحدث العديد ممن سكنوا أو عملوا في البرج عن رؤية شبحين لطفلين كانا يظهران أحيانا في الباحة الداخلية للبرج وهما يلعبان ويلهوان معا. وفي أحيان أخرى، كانا يظهران في إحدى حجرات البرج القديمة وهما يبكيان وقد ارتسمت على وجهيهما علائم الخوف والحزن.
فمن يا ترى يكون هذان الطفلان ؟ ..
أنهما إدوارد الخامس، ملك انجلترا ذو الأنثى عشر ربيعا، وشقيقه الأصغر، ريتشارد دوق يورك ذو التسعة أعوام. فبعد موت والدهما الملك ادوارد الرابع في ابريل / نيسان عام 1483 أصبح عمهما ريتشارد وصيا عليهما، ومن أجل اغتصاب العرش لنفسه، أعلن ريتشارد أن أبني أخيه هما ولدين غير شرعيين لشقيقه الراحل، وقام بحبسهما معا في البرج، حيث أمضيا هناك عدة أشهر وشوهدا مرارا وهما يلعبان معا في الباحة، لكن بحلول شهر ديسمبر / كانون الأول عام 1483 اختفت آثار الأميران نهائيا، ولم يشاهدهما أحد بعد ذلك التاريخ، ولا يعلم سوى الله ماذا جرى لهما.
بعض الروايات التاريخية تذهب إلى أن عمهما، الذي توج لاحقا بأسم الملك ريتشارد الثالث، أرسل سرا بعضا من رجاله لقتل الأميرين في البرج، وذلك لكي لا يشكلا تهديدا على عرشه في المستقبل، وتذهب تلك الروايات إلى أن الأميران قتلا خنقا بوسادة ثم دفنت جثتيهما في بقعة مجهولة داخل البرج. فيما تزعم روايات أخرى بأنهما قتلا بالسم. لكن أيا ما كانت الحقيقة، فأن المؤكد هو أن الأميران ماتا بصورة ما خلال عام 1483، ولم يرهما احد بعد ذلك التاريخ.
لكن الجدل حول مصير الأميرين تجدد فجأة عام 1674 بعدما اكتشف بعض عمال البناء عن طريق الصدفة صندوقا خشبيا عتيقا كان مخفيا بعناية تحت الأرضية أسفل سلم البرج، وفي داخل الصندوق كان هناك مجموعة من العظام الملفوفة بالمخمل، وبإعادة ترتيبها تبين أن العظام تشكل هيكلين عظميين لطفلين، أحدهما أكبر من الآخر. وقد دفنت هذه العظام لاحقا في قبر داخل كنيسة وستمنستر حيث جرت العادة أن يدفن الموتى من ملوك وملكات انجلترا هناك. وفي عام 1933 تم فتح القبر لأجراء المزيد من الفحوص على العظام، وقد تأكد حينها بأن العظام تعود فعلا لطفلين أعمارهما تتراوح بين السابعة والثالثة عشر، وهو الأمر الذي زاد من احتمال كونهما عظام الأميران المفقودان.
العم الظالم، الملك ريتشارد الثالث، لم يهنأ بالعرش طويلا، إذ مات قتيلا بعد أقل من عامين، تحديدا في 22 أغسطس / آب عام 1485، غدر به قادة جيشه خلال معركة بوسورث ضد خصمه هنري تيودور، وفي لحظة من اليأس المشوب بالرجاء، قرر ريتشارد أن يقتحم بحصانه صفوف الأعداء رأسا صوب خصمه أملا في أن يقتله وينهي المعركة لصالحه. وبرغم كل ما يقال عن خسة ريتشارد الثالث، إلا أنه أبدى شجاعة منقطعة النظير في تلك الساعات الأخيرة من حياته، إذ مضى يجندل بسيفه كل من يقف في طريقه، حتى وصل على بعد ضربة سيف من هنري، غير أن حراس ومرافقي هنري ارتموا عليه وحموه، ثم تكاثروا على ريتشارد الذي بقي وحيدا، أحاطوا به من كل جانب، قتلوا حصانه، فنزل يحارب راجلا حتى باغته رجل بضربة من الخلف على رأسه فسقط قتيلا يتخبط في دمه، وقد عامله أعداءه بعدم احترام كبير، فجردوه من ملابسه وعلقوه ليومين قبل أن يدفن في بقعة مجهولة بالقرب من كنيسة ليستر. وبموته أصبح ريتشارد الثالث هو آخر ملك في تاريخ انجلترا يسقط قتيلا في ساحة معركة. وقد أثار ريتشارد الثالث الكثير من اللغط والاهتمام الإعلامي مجددا عام 2012 عندما تم اكتشاف هيكل عظمي تحت مراب للسيارات في مدينة ليستر، ليتضح لاحقا، عن طريق الدلائل والاختبارات العلمية، بأنه يعود للملك القتيل.
بناء برج لندن أرتبط بحدث عظيم زلزل كيان انجلترا وغير تاريخها بالكامل، ففي يوم 28 سبتمبر / أيلول عام 1066 ميلادية، نزل وليم الثاني دوق نورماندي على الشاطئ البريطاني، أتى مطالبا بالعرش الانجليزي، لم يأتي وحده طبعا، بل برفقة جيش جرار يتألف من عشرة آلاف فرنسي، رست سفنهم بالقرب من بلدة بيفنسي، وواجهوا الجيش الانجليزي بالقرب من بلدة هاستنغيز الريفية في صباح يوم 14 أكتوبر / تشرين الأول 1066، هناك التقى الدوق الفرنسي بنده وخصمه الملك الانجليزي هارولد الثاني، وهناك على المروج الخضراء دارت رحى واحدة من أعنف وأخطر المعارك في تاريخ انجلترا.
الانجليز استبسلوا في الدفاع عن أرضهم، لكنهم كانوا منهكين ومستنزفين، فقبل ثلاثة أسابيع فقط كانوا قد صدوا الغزاة النرويجيين في معركة طاحنة بالشمال، ومن دون أي فرصة للراحة، سار بهم الملك هارولد من شمال انجلترا إلى جنوبها ليناجز الدوق الفرنسي في هاستنغيز. وبحلول عصر ذلك اليوم، تداعت صفوف المشاة الانجليز الذين ظلوا صامدين طوال النهار أمام هجمات الفرسان والرماة الفرنسيين، وساءت الأمور بسقوط الملك هارولد قتيلا بسهم طائش، فولى الانجليز الأدبار.
معركة هاتجينز شكلت نقطة تحول كبرى في تاريخ انجلترا، فكل شيء نعرفه اليوم عن انجلترا يكاد يبدأ من تلك النقطة .. اللغة .. الثقافة .. العمران .. حتى الملكية بقصورها الفخمة وتقاليدها العريقة تكاد تكون ابتدأت من هناك.
وهنا قد تسأل عزيزي القارئ .. طيب ماذا حل بشعب انجلترا آنذاك .. أي الأنجلو – ساكسون ؟
في الحقيقة لم يتبق الكثير مما يدل عليهم، باستثناء مجموعة من الكنائس القديمة المنتشرة حول البلاد. الناس أنفسهم لم يتبخروا طبعا، فدمائهم ما تزال تسري في عروق الانجليز اليوم، لكنهم بعد هاستنغيز، تحولوا إلى عبيد، إلى رعية، وأصبح النورمان هم سادة البلاد، فملك البلاد الجديد، دوق نورماندي الذي أصبح يعرف بأسم الملك وليم الفاتح، قام بمصادرة أراضي النبلاء الانجلو ساكسون ووزعها على قادته وفرسانه من النورمان. الطريف في انجلترا ذاك الزمان هو أن الشعب كان يتكلم لغة، فيما الملك والنبلاء والطبقة الحاكمة كانوا يتكلمون لغة أخرى، وقد استلزم الأمر عدة قرون لكي تزول هذه الفوارق، لكي يظهر إلى الوجود شعب انجليزي موحد، ولغة انجليزية كما نعرفها اليوم.
سادة البلاد الجدد كانوا بالطبع بحاجة إلى حماية أنفسهم وسط مجتمع غريب عنهم من ناحية اللغة والثقافة، ولهذا أسرفوا في بناء القلاع والحصون في طول البلاد وعرضها، وكان برج لندن سيء الصيت، الذي شرع وليم الفاتح ببنائه عام 1078، هو أحد أعظم تلك الحصون على الإطلاق، كان الغرض الأصلي من بناءه يتمثل في إنشاء نقطة حصينة يلتجأ إليها الملك ورجاله في حال حدوث أي ثورة أو تمرد في العاصمة لندن. لكن ملوك انجلترا نادرا ما عاشوا في البرج، كانوا يفضلون الإقامة في قصر وستمنستر الشهير، ومنذ عام 1100 أصبح البرج بمثابة السجن لاحتجاز أبناء الطبقة النبيلة. وبصفة عامه فالبرج عبارة عن تجمع لعده مبان داخل حلقتين من الجدران الدفاعية و خندق مائي أجريت عليه عدة توسعات لاسيما في عهد رتشارد قلب الأسد و هنري الثالث و ادوارد الأول.
أشباح برج لندن
هناك مشاهدات للعديد من الأشباح داخل البرج وحوله، لعل أشهرها هو شبح الملكة آن بولين، الزوجة الثانية لملك انجلترا هنري الثامن، وهي من القلائل الذين جرى إعدامهم داخل البرج، فأغلب عمليات الإعدام كانت تجري في باحة البرج الخارجية، وليس وراء أسوار البرج نفسه. وكانت الملكة آن بولين قد أدينت بتهم "ملفقة" الغرض منها إزاحتها عن العرش لكي يتمكن الملك من الزواج مجددا، ولعل أكثر تلك التهم إساءة وإيلاما للملكة هي اتهامها بممارسة الزنا مع شقيقها جورج الذي ألقي القبض عليه هو الآخر وجرى إعدامه. وبحسب أغلب الشهادات التاريخية فأن آن بولين لم تكن خائفة من الموت، بالعكس كانت تتعجله، ربما كانت تتعجل الخلاص من العذاب النفسي والإذلال الذي عانت منه خلال فترة سجنها ومحاكمتها والألم الذي تسببت فيه لعائلتها التي نكبت بالكامل. كانت الملكة في الحقيقة مغتبطة باقتراب موعد إعدامها إلى درجة أنها قالت لأحد مرافقيها في اليوم السابق للإعدام : "سمعت بأنهم جلبوا سيافا ماهرا .. من الجيد بأن لدي عنق نحيف ورقيق!" . قالت ذلك ثم استغرقت في الضحك وهي تشير إلى عنقها.
وفي يوم الجمعة 19 مايو / أيار 1536 اقتيدت الملكة برفقة أربعة من وصيفاتها إلى منصة الإعدام، كانت ثابتة وهادئة، ألقت خطابا وجيزا على المنصة أعلنت فيه براءتها من كل التهم الموجهة إليها، ثم انحنت بوقار، نزعت قلنسوتها، أزاحت شعرها الحريري الطويل عن رقبتها، ثم مدت رأسها بهدوء أمام الجلاد المحترف الذي جلبوه خصيصا لها من فرنسا. ويقال بأن ذلك الجلاد، المدعو جان رومبو، شعر برهبة كبيرة أمام شجاعة وفصاحة الملكة على منصة الموت، وكذلك كرمها، فقد نفحته بصرة من المال وهي تنحني أمامه، فصرخ الرجل مرتبكا : "أين سيفي ؟" .. مع أنه كان يمسك بالسيف بيده!. لكن ارتباك الجلاد لم يمنعه من أتمامه لعلمه كما يجب، فضربة واحدة من سيفه البتار كانت كافية للإطاحة بذلك العنق العاجي الرقيق لإحدى أجمل نساء انجلترا في ذلك العصر. ثم حملوا الرأس الجميل ووضعوه مع الجسد الرشيق داخل تابوت خشبي بسيط دفنوه في بقعة غير معلومة أسفل كنيسة سانت بيتر داخل البرج.
لكن قصة الملكة آن بولين لا تنتهي هنا، فلعدة قرون شوهد شبحها في مناسبات عديدة ومتكررة ..
في إحدى الليالي الباردة من شتاء عام 1817 أغمي على أحد حراس البرج خلال مناوبته، وحين أستعاد وعيه في وقت لاحق من تلك الليلة أقسم لزملائه بأنه شاهد امرأة مجهولة ترتقي سلم البرج، كانت ترتدي ثيابا ملكية فاخرة، لكنها كانت من دون رأس!. الحارس المسكين كان مرعوبا إلى درجة أنه أصيب بسكتة قلبية مات من جرائها قبل طلوع الصباح. وقد تكررت هذه الحادثة مرة أخرى عام 1864 حين أغمي على جندي آخر بعد رؤيته لشبح امرأة من دون رأس ترتدي ثوبا أبيض تتجول بالقرب من كنيسة سانت بيتر الملاصقة للبرج، وقد شهد العديد من الجنود والضباط على أنهم شاهدوا ذات الشبح في تلك الليلة. وفي عام 1933 بدأ أحد حراس البرج بالصراخ فجأة طالبا مساعدة زملائه، فهرعوا أليه واستفهموا عن سبب صراخه، فاخبرهم بأنه كان واقفا في مكان مناوبته كالمعتاد حين مرت به امرأة من دون رأس ترتدي ملابس بيضاء.
لكن هل كان هذا شبح الملكة آن بولين حقا ؟ ..
في الواقع، أغلب الناس ينسبون الشبح للملكة آن، غير أنها لم تكن الوحيدة التي أعدمت داخل البرج بقطع رأسها.
هناك أيضا الملكة كاثرين هوارد، زوجة هنري الخامسة التي أعدمت بتهمة الخيانة والزنا ولم يكن عمرها يتجاوز التاسعة عشر ساعة إعدامها، ويقال بأن آخر عبارة نطقت بها قبل أن يقطع الجلاد عنقها هي : "أنا أموت كملكة الآن، لكن كان من الأفضل أن أموت كزوجة لكولبيبر" ، وكولبيبر هو عشيقها، وقد أعدم هو وعشيق آخر يدعى فرانسيس ديرهام.
وهناك أيضا الليدي جين غراي، والتي تعرف بأسم "ملكة الأيام التسعة" ، لأنها لم تحكم سوى لتسعة أيام، فهي الأخرى أعدمت داخل البرج بعد أن أطاحت بها القوات الموالية للملكة ماري ابنة الملك هنري الثامن.
ولا ننسى أيضا جين بولين، زوجة شقيق الملكة آن بولين، فقد أعدمت أيضا داخل البرج. وكانت قد شهدت ضد زوجها جورج وشقيقته الملكة، حيث زعمت كذبا بوجود علاقة جنسية بينهما. ويتفق أغلب المؤرخين اليوم على أن الدافع الحقيقي وراء شهادتها يتلخص في كونها لم تكن سعيدة في زواجها، وكانت تغار بشدة من الملكة، بسبب ذكاءها ولباقتها وتأثيرها الكبير في كل من حولها، حتى أن جورج بولين كان يفضل قضاء الوقت مع شقيقته على قضاءه مع زوجته. وقد أعدمت جين بولين عام 1542، أي ستة أعوام بعد إعدام الملكة آن، وذلك بتهمة ترتيب وتدبير لقاءات الملكة كاثرين هوارد مع عشاقها. وجرى إعدامها في نفس الساعة التي أعدمت فيها الملكة كاثرين، حيث أخذتا معا إلى منصة الإعدام، أعدمت الملكة أولا، ثم صعدت جين بولين بعدها، وقطع الجلاد رأسها بضربة واحدة من فأسه. وقد أجمع جميع من حضروا الإعدام على أن السيدتين واجهتا الموت بهدوء وشجاعة، وتصرفتا في لحظاتهما الأخيرة كما يليق بملكة وسيدة من الطبقة النبيلة. ومن مفارقات الدهر هو أن جين بولين دفنت في كنيسة سانت بيتر إلى جوار زوجها وشقيقته.
ومن النساء الأخريات اللائي أعدمن داخل البرج، هي العجوز مارغريت بولي، كونتيسة ساليسبري، حيث أعدمت عام 1541 بأمر الملك هنري الثامن، لا لذنب اقترفته، لكن بسبب نشاط أبناءها المناوئ لتوجهات الملك هنري في عزل كنيسة انجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية وبابا روما، وهو التوجه الذي أدى لاحقا إلى صراع طائفي دموي رهيب أستمر لفترة طويلة وأدى في النهاية إلى تحول الشعب الانجليزي من الكاثوليكية إلى البروتستانتية وظهور ما يعرف بكنيسة انجلترا، أو الكنيسة الانجليكانية.
إعدام الكونتيسة سالسبيري كان مثيرا للشفقة، فالمرأة العجوز التي ناهزت السبعين عاما كانت مريضة وضعيفة ساعة إعدامها، وقبل كل شيء كانت بريئة، ولهذا رفضت الصعود إلى منصة الإعدام، فسحلوها سحلا وأمسكوا بها بقوة حتى يتمكن الجلاد من قطع رأسها بالفأس، لكن عذاب هذه السيدة لم ينتهي سريعا للأسف، فالجلاد لم يكن محترفا، أخطأ في توجيه ضربته الأولى فأصاب كتفها بدلا من رقبتها، ومن حر الضربة قفزت الكونتيسة وراحت تركض حول المنصة وهي تصرخ ألما والدم يتدفق من كتفها بقوة، فلحق بها الحراس وسحلوها إلى مكانها الأول، غير أن الجلاد الأحمق فشل مرة أخرى في إنهاء عذابات السيدة العجوز بضربة واحدة، ولم يتمكن من قطع رقبتها إلا بعد عشرة ضربات متواصلة. ويقال بأن شبح الكونتيسة يتجلى أحيانا في الذكرى السنوية لإعدامها على شكل عجوز بيضاء الشعر تركض جريحة حول البرج وهي تصرخ وتولول فيما يطاردها مجموعة من الرجال المتشحين بالسواد.
الأميران والبرج :
عبر القرون تحدث العديد ممن سكنوا أو عملوا في البرج عن رؤية شبحين لطفلين كانا يظهران أحيانا في الباحة الداخلية للبرج وهما يلعبان ويلهوان معا. وفي أحيان أخرى، كانا يظهران في إحدى حجرات البرج القديمة وهما يبكيان وقد ارتسمت على وجهيهما علائم الخوف والحزن.
فمن يا ترى يكون هذان الطفلان ؟ ..
أنهما إدوارد الخامس، ملك انجلترا ذو الأنثى عشر ربيعا، وشقيقه الأصغر، ريتشارد دوق يورك ذو التسعة أعوام. فبعد موت والدهما الملك ادوارد الرابع في ابريل / نيسان عام 1483 أصبح عمهما ريتشارد وصيا عليهما، ومن أجل اغتصاب العرش لنفسه، أعلن ريتشارد أن أبني أخيه هما ولدين غير شرعيين لشقيقه الراحل، وقام بحبسهما معا في البرج، حيث أمضيا هناك عدة أشهر وشوهدا مرارا وهما يلعبان معا في الباحة، لكن بحلول شهر ديسمبر / كانون الأول عام 1483 اختفت آثار الأميران نهائيا، ولم يشاهدهما أحد بعد ذلك التاريخ، ولا يعلم سوى الله ماذا جرى لهما.
بعض الروايات التاريخية تذهب إلى أن عمهما، الذي توج لاحقا بأسم الملك ريتشارد الثالث، أرسل سرا بعضا من رجاله لقتل الأميرين في البرج، وذلك لكي لا يشكلا تهديدا على عرشه في المستقبل، وتذهب تلك الروايات إلى أن الأميران قتلا خنقا بوسادة ثم دفنت جثتيهما في بقعة مجهولة داخل البرج. فيما تزعم روايات أخرى بأنهما قتلا بالسم. لكن أيا ما كانت الحقيقة، فأن المؤكد هو أن الأميران ماتا بصورة ما خلال عام 1483، ولم يرهما احد بعد ذلك التاريخ.
لكن الجدل حول مصير الأميرين تجدد فجأة عام 1674 بعدما اكتشف بعض عمال البناء عن طريق الصدفة صندوقا خشبيا عتيقا كان مخفيا بعناية تحت الأرضية أسفل سلم البرج، وفي داخل الصندوق كان هناك مجموعة من العظام الملفوفة بالمخمل، وبإعادة ترتيبها تبين أن العظام تشكل هيكلين عظميين لطفلين، أحدهما أكبر من الآخر. وقد دفنت هذه العظام لاحقا في قبر داخل كنيسة وستمنستر حيث جرت العادة أن يدفن الموتى من ملوك وملكات انجلترا هناك. وفي عام 1933 تم فتح القبر لأجراء المزيد من الفحوص على العظام، وقد تأكد حينها بأن العظام تعود فعلا لطفلين أعمارهما تتراوح بين السابعة والثالثة عشر، وهو الأمر الذي زاد من احتمال كونهما عظام الأميران المفقودان.
العم الظالم، الملك ريتشارد الثالث، لم يهنأ بالعرش طويلا، إذ مات قتيلا بعد أقل من عامين، تحديدا في 22 أغسطس / آب عام 1485، غدر به قادة جيشه خلال معركة بوسورث ضد خصمه هنري تيودور، وفي لحظة من اليأس المشوب بالرجاء، قرر ريتشارد أن يقتحم بحصانه صفوف الأعداء رأسا صوب خصمه أملا في أن يقتله وينهي المعركة لصالحه. وبرغم كل ما يقال عن خسة ريتشارد الثالث، إلا أنه أبدى شجاعة منقطعة النظير في تلك الساعات الأخيرة من حياته، إذ مضى يجندل بسيفه كل من يقف في طريقه، حتى وصل على بعد ضربة سيف من هنري، غير أن حراس ومرافقي هنري ارتموا عليه وحموه، ثم تكاثروا على ريتشارد الذي بقي وحيدا، أحاطوا به من كل جانب، قتلوا حصانه، فنزل يحارب راجلا حتى باغته رجل بضربة من الخلف على رأسه فسقط قتيلا يتخبط في دمه، وقد عامله أعداءه بعدم احترام كبير، فجردوه من ملابسه وعلقوه ليومين قبل أن يدفن في بقعة مجهولة بالقرب من كنيسة ليستر. وبموته أصبح ريتشارد الثالث هو آخر ملك في تاريخ انجلترا يسقط قتيلا في ساحة معركة. وقد أثار ريتشارد الثالث الكثير من اللغط والاهتمام الإعلامي مجددا عام 2012 عندما تم اكتشاف هيكل عظمي تحت مراب للسيارات في مدينة ليستر، ليتضح لاحقا، عن طريق الدلائل والاختبارات العلمية، بأنه يعود للملك القتيل.