فرض الله سبحانه وتعالى الصيام؛ حيث قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وكان في فرضه حثّ على رحمة الفقراء وإطعامهم وسَدّ جَوْعتاهم، لما عانوه من شدة المجاعة في صومهم، وقد قيل لسيدنا يوسف الصديق عليه السلام: "أتجوع وأنت على خزائن الأرض؟"؛ فقال: "إني أخاف أن أشبع؛ فأنسى الجائع".
ثمّ لما في الصوم من قهر النفس وإذلالها، وكسر الشهوة المستولية عليها، وإشعار النفس ما هي عليه من الحاجة إلى يسير الطعام والشراب، والمحتاج إلى الشيء ذليل به، وبهذا احتجّ الله تعالى على مَن اتخذ عيسى وأمه إلهين مِن دونه، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}؛ فجعل احتياجهما إلى الطعام نقصا فيهما عن أن يكونا إلهين.
وقد وصف الحسن البصري نقص الإنسان بالطعام وغيره فقال: "مسكينٌ ابن آدم.. محتوم الأجل، مكتوم الأمل، مستور العِلل، يتكلم بلحم، وينظر بشحم، ويسمع بعظم، أسير جَوْعَة، صريع شَبْعَة، تؤذيه البقة، وتُنته العَرْقة، وتقتله الشَّرْقَة، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا".
فانظر إلى لطفه بنا فيما أوجبه من الصيام علينا كيف أيقظ العقول له، وقد كانت عنه غافلة أو متغافلة، ونفع النفوس به، ولم تكن لولاه منتفعة ولا نافعة.
فالصيام وراؤه حكمة عظيمة، وهي ما ذكره الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؛ فبيّن سبحانه وتعالى أن الصيام سبب لحصول التقوى، والتقوى مزية عظيمة وهي جماع الخير؛ فالصيام يجلب التقوى للعبد؛ لأنه إذا صام فإنه يتربّى على العبادة ويتروّض على المشقة وعلى ترك المألوف وعلى ترك الشهوات، وينتصر على نفسه الأمّارة بالسوء ويبتعد عن الشيطان، وبهذا تحصل له التقوى، وهي فعل أوامر الله عز وجل وترك نواهيه طلبا لثوابه وخوفا من عقابه.
والصيام فُرِض في السنة الثانية من الهجرة، وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات؛ لأنه عاش في المدينة عشر سنوات والصيام فُرض في السنة الثانية منها؛ فيكون عليه الصلاة والسلام قد صام تسعة رمضانات.