مما حوَتْهُ كتب الرجالِ التي صنَّفها علماءُ الأمة وحفَّاظها شهادةُ بعضِ الأعلام لبعضٍ آخرَ بالعقل، ومن ذلك قولُ القائل: ما رأيتُ أعقلَ من فلان.
ولقد تحرَّيتُ جمعَ هذا المقدار اليسير مما رُويَ من هذه المقولة، سائلًا الله- تعالى- لي وللمسلمين الفلاحَ بسلوك سبيل التتلمُذ في مدرسة الأدب والإنصاف.
أخرج الخطيب البغداديُّ في تاريخ بغداد بإسناده إلى علي بن عثمان وجعفر الوراق، قالا: سمعنا أبا عبيد يقول: ما رأيت أعقلَ من الشافعي [2].
وأخرج أيضًا بإسناده إلى الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي يقول: ما رأيت أعقل من محمد بن الحسن [3].
وأخرج كذلك بإسناده إلى الحسن بن محمد بن الصباح، يقول: قال لي الشافعي: ما رأيت أعقل من رجلين: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي [4].
وأخرج ابنُ عساكر في تاريخ مدينة دمشق بإسناده إلى يونس بن عبدالأعلى،
قال: ما رأيت أحدًا أعقل من الشافعي؛ لو جُمعت أمةٌ، فجُعلت في عقل الشافعي، لَوَسِعَهُم عقلُه.
قال: وقال لنا يونس: ناظرتُ الشافعيَّ يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولَقِيَني، فأخذ بيدي ثم قال لي: يا أبا موسى، لا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة. [8]
وأخرج ابنُ عساكر أيضًا: أنه ذكر يحيى بنُ سعيد القطان الشافعيَّ فقال: ما رأيت أعقلَ- أو أفقَهَ- منه [9].
وأخرج كذلك بإسناده إلى الربيع بن سليمان، قال: وقف بعض الصالحين على باب محمد بن إدريس الشافعي فقال: يا ربَّ الدار، تصدَّقْ علينا بما لا يُتعب ضرسًا، ولا يُؤلم نفسًا.
فأمر محمدٌ فأخرج إليه طعامًا.
ثم قال: حاجتي إلى كلامِك أشدُّ من حاجتي إلى طعامِك؛ إني طالبُ هدى، لا طالبُ ندى.
فأمر محمدٌ بإدخاله، فسأله عن مسألة من المسائل، فأجابه وأفاده، فخرج وهو يقول: علم أوضح نفسًا خيرٌ من مال أغنى نفسًا.
فقال لنا الشافعي: ما رأيت أعقل من هذا الرجل- بارك الله فيه [10].
وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال ابن الطباع: ما رأيت أعقل من حَمَّاد بن زيد [11].
وذكر عن نعيم بن حَمَّاد قال: ما رأيت أعقلَ من ابنِ المبارك، ولا أكثَرَ اجتهادًا منه [12].
هذا غيضٌ من فَيض، والزهرة تُنبئ عن رَوض، وإنصاف السلف الصالح- رضوان الله عليهم- أعظم من أن تحتويَهُ بعض سطور.
اللهم انفعنا بما نقول ونسمع، وبما نقرأ ونكتب، والله أعلى وأعلم.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
ـ