بعض إسرار تقديم العبادة على الاستعانة في قوله تعالى :
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ * وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
قال ابن القيم _رحمه الله تعالى_:" وَتَقْدِيمُ ( الْعِبَادَةِ ) عَلَى ( الِاسْتِعَانَةِ ) فِي الْفَاتِحَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْغَايَاتِ عَلَى الْوَسَائِلِ، إِذِ الْعِبَادَةُ غَايَةُ الْعِبَادِ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا، وَ الِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا،وَلِأَنَّ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. مُتَعَلِّقٌ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَاسْمِهِ_اللَّهِ_.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.مُتَعَلِّقٌ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَاسْمِهِ_ الرَّبِّ _ فَقَدَّمَ : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}. عَلَى : {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كَمَا قَدَّمَ اسْمَ_ اللَّهِ_عَلَى_ الرَّبِّ _ فِي أَوَّلِ الْسُورَةِ، وَلِأَنَّ ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) قَسْمُ _ الرَّبِّ _ فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الْأَوَّلِ،الَّذِي هُوَ ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِهِ، وَ( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قَسْمُ الْعَبْدِ، فَكَانَ مِنَ الشَّطْرِ الَّذِي لَهُ، وَهُوَ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَلِأَنَّ _الْعِبَادَةَ_ الْمُطْلَقَةَ تَتَضَمَّنُ _الِاسْتِعَانَةُ_ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَكُلُّ عَابِدٍ لِلَّهِ عُبُودِيَّةً تَامَّةً مُسْتَعِينٌ بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَغْرَاضِ وَالشَّهَوَاتِ قَدْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى شَهَوَاتِهِ، فَكَانَتِ الْعِبَادَةُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، وَلِهَذَا كَانَتْ قَسْمَ الرَّبِّ.
وَلِأَنَّ _ الِاسْتِعَانَةَ _ جُزْءٌ مِنِ_الْعِبَادَةِ _ مِنْ غَيْرٍ عَكْسٍ، وَلِأَنَّ _ الِاسْتِعَانَةَ _ طَلَبٌ مِنْهُ، وَ الْعِبَادَةَ _طَلَبٌ لَهُ.
وَلِأَنَّ _ الْعِبَادَةَ _ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُخْلِصٍ، وَ _الِاسْتِعَانَةَ _ تَكُونُ مِنْ مُخْلِصٍ وَمِنْ غَيْرِ مُخْلِصٍ.
وَلِأَنَّ _الْعِبَادَةَ _حَقُّهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ، وَ _ الِاسْتِعَانَةُ _ طَلَبُ الْعَوْنِ عَلَى _الْعِبَادَةِ_، وَهُوَ بَيَانُ صَدَقَتِهِ الَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْكَ، وَأَدَاءُ حَقِّهِ أَهَمُّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِصَدَقَتِهِ.
وَلِأَنَّ _ الْعِبَادَةَ _ شُكْرُ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَشْكُرَ، وَالْإِعَانَةُ فِعْلُهُ بِكَ وَتَوْفِيقُهُ لَكَ، فَإِذَا الْتَزَمْتَ عُبُودِيَّتَهُ، وَدَخَلْتَ تَحْتَ رِقِّهَا أَعَانَكَ عَلَيْهَا، فَكَانَ الْتِزَامُهَا وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّهَا سَبَبًا لِنَيْلِ الْإِعَانَةِ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَتَمَّ عُبُودِيَّةً كَانَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُ أَعْظَمَ.
وقال العلامة السعدي _رحمه الهْ تعالى_: والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة.
والاستعانة:هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادة عبادة، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر (الاستعانة) بعد (العبادة) مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي.