(ما أصعبَ الحياة!) كلمة يقولها الكثير؛ الغني والفقير، العاصي والطائع، كل الخَلْق على اختلاف أحوالهم يقولون: الحياة صعبة، ويستشهِدون بقوله - جل وعلا -: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، ولكننا إذا أكملنا السورة، لوضَحت لنا الصورة؛ فالمولى - جل وعلا - يُكمل: ﴿ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ﴾ [البلد: 5، 6]، فهل من يحسب أن لن يقدِر عليه أحد حياتُه صعبة؟ هل من يُهلِك مالاً لبدًا حياتُه صعبة؟ ولكن الحياة ما هي إلا امتحان، امتحان عسير، ولكنه يسير على مَن يسَّره الله عليه، فكل الامتحان عسيره ويسيره بالنسبة للطالب المجتهد يسيرٌ، وكل الامتحان يسيره وعسيره بالنسبة لغير المجتهد عسير.
وهذا الامتحان على صعوبته، إلا أننا نَدخله وفي أيدينا ما إن تمسَّكنا به لن نَضِل أبدًا، ويصبح الامتحان من أيسرِ ما يكون، فنحن ندخل الامتحان وفي أيدينا الكتاب الذي نُسأل فيه، كل ما علينا أن نفتح ونقرأ ونستخرِج الحل؛ لنسطِّره في ورقتنا وفي كتابنا، ندخل امتحان الدنيا وفي أيدينا كتاب الله - عز وجل - به كل المسائل وبه كل الحلول؛ كما قال - عز وجل -: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]؛ ما كلَّفَنا - عز وجل - بالبحث عن منهج، ما كلَّفَنا ابتداع طريق، فالطريق طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والكتاب أُنزِل عليه - صلى الله عليه وسلم - وما علينا إلا اتباعُه - صلى الله عليه وسلم - فالله - عز وجل - عندما خلَقنا في امتحان صعب، عندما خلقنا في كبد، لم يتركنا لأنفسنا، وكما قلت سابقًا: لو أكملنا السورة، لفقِهنا، ولنجونا، يُكمِل المولى - عز وجل -: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 8 - 10]، فالله - عز وجل - أمدَّنا بما نستعين به على هذه الحياة الصعبة.
فليس من عدْل الله المطلَق، ولا من رحمته الواسعة التي كتبها على نفسه - أن يخلقنا في حياة صعبة، ثم يتركنا نُصارعها وتُصارعنا، فالله أرحم بنا من ذلك، عندما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة في السبي تحمل طفلاً وتُرضعه، فأشار إليها، وقال لأصحابه: ((أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟))، قالوا: لا، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها))، فهل من الممكن أن تترك هذه المرأة ولدها في الحياة دون عونٍ أو سندٍ، يواجِه الدنيا بمفرده، يواجِه متاعبها ومشاقَّها، وهو طفل صغير؟ ماذا نقول في حق أم أنجبت طفلاً، ثم ما لبِث ابنها أن حبا أُولى خُطواته، فدفعت به إلى الشارع يتدبَّر أمره؟ إذا أنكرنا ذلك على البشر، فهل نزعُمه على الله - عز وجل - وهو أرحم الراحمين؟!
وكل ما نراه من حولنا يُثبت لنا يُسْر هذه الحياة، فها نحن نرى أمًّا وابنها الرضيع يتركهم الأب الرسول إبراهيمُ - عليه السلام - في صحراء جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، لا حيوان فيها ولا إنسان، وزوجته تسأله: أتترُكنا في هذه الصحراء؟! وهو لا يُجيبها، فتسأله: آلله أمرك بهذا؟ فيُجيبها بالإيجاب، فتطمئن وتقول: إذًا لن يضيعنا الله، وهذا أول الحل أن تطمئنَّ بأن أمْر الله لن يُضيِّعك أبدًا، ولكنها مع ذلك لم تركَن وتنتظر الحلَّ يأتيها من السماء، ولكنها سعت لإيجاد الحل، سعَت وهي تدعو الله - عز وجل - أن يغفِر ويرحم ويتجاوز عما يعلم، وسعت وهي كلها ثقة بنصر الله، فأتاها الحل سهلاً يسيرًا، وما أيسره من حل! ينبُع الماء من تحت قدم الصبي، هل هنالك أسهل من ذلك؟ فما أصعب الامتحان، وما أيسر الحل!
وعندما شبَّ الغلام وعندما بلغ السعي، يبلِّغه أبوه بأنه يرى في المنام أنه يذبحه، فماذا كان ردُّ الغلام؟ كما ردت أمُّه: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾ [الصافات: 102]، هو يفقه جيدًا أنه ما دام أمْر الله، فلن يُضيِّعه الله، ما دام أمر الله، ففيه النجاة، وإن كان ذبحًا، وأسلَم الفتى هو وأبوه لأمر الله، ويهمان في تنفيذه، في هذه اللحظة يناديه ربُّه: ﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾ [الصافات: 105]، الذبح لم يحدُث، الدم لم يسِل، ولكنه نجح في الاختبار، فما يفعل الله بعذابنا إن شكرنا وآمنا، ما يفعل الله - عز وجل - بإيلامنا، ما يفعل الله - عز وجل - بدمائنا؟ إنما يريد الله منا إيمانًا، إنما يريد الله منا إخلاصًا؛ فإن قرَّرنا أن نُطيعه، فسييسِّر لنا ذلك - جل وعلا - فعندما قرَّر إبراهيم أن يذبح ابنه طاعة لله، أتاه الحل سهلاً ويسيرًا ومن حيث لم يحتسب، فداه الله - عز وجل - بذِبْح عظيم، فما أصعب الامتحان، وما أيسر الحل!