روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: أربع من كنّ فيه كان في نور الله الأعظم ...
من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ومن إذا أصاب خيراً قال: الحمد لله، ومن إذا أصاب خطيئة قال: استغفر الله وأتوب إليه
:. معنى كون الإنسان في نور الله تعالى
إذا كان الإنسان في نور الله عزّ وجلّ فلا يزلّ ولا ينحرف ولا يطغى ولا تسيطر عليه نفسه الأمّارة بالسوء، ولا يسمح للشيطان أن يغويه، وتكون الدنيا بنظره كأهون ما يكون، لأنه يرى بهذا النور حقائق الأشياء، كما يرى بالنور المادّي الأجسامَ ويميّز بعضها عن بعض، فيُقبل على ما يرغب منها ويُدبر عمّا يكره.
إنّ مَن يجلس على مائدة في ظلام لا يعلم بما وُضع أمامه هل هو من الأطعمة أم لا؟ فقد يمدّ يده وإذا بعقرب أو حشرة ضارّة أو سمٍّ وجدَ طريقه عمداً أو خطأً إلى مائدته فيتناوله وهو لا يعلم. أما الجالس في النور فهو يرى الطعام الذي أمامه فيميّزه عن غيره ولا يمدّ يده إلى ما يشكّ أو يحتمل الضرر فيه.
وهكذا الحال في المعنويّات؛ إن لم يكن الإنسان في نور الله تعالى، فسيكون في تيه وظلام وحيرة وضلال وإن كان لا يدرك ذلك ويتصوّر نفسه عارفاً بما حوله.
إنّ الحديث النبوي الشريف الذي افتتحنا به الموضوع يخبرنا أنّ قول: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ يجعل الإنسان في نور الله تعالى أي أنّ الله يمنحه النور ليرى ما ينفعه وما يضرّه، وفيم يصرف عمره، وكيف يعاشر الناس، وكيف يسيطر على نفسه وشهواته، وكيف يتخلّص من حب الدنيا وزخارفها، بل كيف يستطيع أن يعرف ما هو اللائق فيُقبل عليه وما هو المذموم فيصدّ عنه، لأنّ هذا هو حال الإنسان الذي في نور الله عزّ وجلّ.
هناك أحاديث عديدة وردت في تفسير هذه الجملة من الآية الكريمة حاصلها أنّ هذه الجملة تشتمل على كلمتين؛ الأولى: «إنا لله» والثانية: «إنا إليه راجعون». أما الكلمة الأولى فهي إقرار واعتراف بالملك لله، فكأنّ الذي ينطق بهذه الكلمة يقول: أنا لست لنفسي بل إنني وكلّ ما أملك إنما ملك لله، في حين أنّ الكلمة الثانية: اعتراف بالفناء والرجوع إلى الله تعالى.
لاشكّ أنه ليس المقصود من هذا الحديث الشريف أنّ مجرّد تلفّظ (إنا لله وإنا إليه راجعون) يجعل الإنسان في نور الله، بل الشعور بها وإنشاؤها من أعماق القلب، وذلك باستحضار الإنسان القائل لها أنّه ليس مالكاً لنفسه ولا لسانه وبصره وسمعه ولا لما بحوزته من أموال وعلاقات وشخصية وعلم وغيرها، بل يقول لنفسه: هذه كلّها لله، والله سبحانه جعلها تحت تصرّفي لينظر كيف أعمل. فالملك لله وحده وليس لي، بل لستُ أكثر من عبد أُتي به لتنفيذ ما أمره به مولاه.
(عن صالح بن أبي حماد رفعه، قال جاء أمير المؤمنين (ع) إلى الأشعث بن قيس يعزيه بأخ له يقال له عبد الرحمن، فقال له أمير المؤمنين: إذا جزعت فحق الرحم أتيت وإن صبرت فحق الله أديت على إنك إن صبرت جرى عليك القضاء وأنت محمود، وإن جزعت جرى عليك القضاء وأنت مذموم، فقال الأشعث: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فقال أمير المؤمنين: تدري ما تأويلها. فقال الأشعث: أنت غاية العلم ومنتهاه، فقال له: أما قولك إنا لله فإقرار منك بالملك، وأما قولك وإنا إليه راجعون فإقرار منك بالهلاك
فليس العبرة أو الميزان في هذه الدنيا كثرة العبادة من صلاة وصوم وتهجد ووو. وإنما بجنب العبادة سلوك أخلاقي متوازن مع قيمة العبادة، وهو أمر معنوي فلو أحب الإنسان هذه الدنيا وسار في ملذاتها ليستشعر في نفسه الكبر وما شابه وجاء بالعبادة تفقد قيمتها كونها لم تأت من شعور بالعبودية بالمعنى الحقيقي، لأن الله سبحانه ومن أجل الإنسان على حد تعبير بعض المفسرين يسمّي الدنيا في الآية الشريفة (مَتَاعٌ قَلِيلٌ)، وإلا في الواقع أن الدنيا ليس بمتاع وإنما الله أراد أن ينزل كلماته إلى مستوى البشر فسماها بالمتاع.
فالدنيا ظاهرها متاع لارتباطها بالماديات أما المعنويات فأعمق منها بكثير وأكثر متاعاً لأن الإنسان مهما كبر وتمتع في هذه الدنيا أحياناً يفقد كل ما سعى لأجله وخلال لحظات وبوساطة أصغر الأشياء وأحقرها كأن تدخل (إبرة) صغيرة في عينه أو تدخل حبة رز (التمن) في مجراه التنفسي فإما أن يموت أو يمرض أو يفقد عضواً من جسده رغم أنه مستعد لأن يصرف الملايين ليرجع ما فقده لكن دون فائدة قال تعالى وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ).
ولأجل التمييز ومعرفة الأمور بشكلها الصحيح من خلال العيش في هذه الدنيا يحتاج الإنسان في قول (إنا لله وإنا إليه راجعون) أن يشعر في نفسه بالعبودية لله تعالى وأنه مملوك وفي النهاية هالك. لأن النتيجة هي السير في نور الله تعالى وذلك من أصول الأخلاق أيضاً أن يشعر نفسه بأنه مملوك ولا يلتفت إلى ملذّات هذه الدنيا الزائلة أو القليلة.
فالعبد الذي يُشترى لأجل إعداد الطعام لسيّده مثلاً، عندما يؤتى به إلى المطبخ ويوضع تحت تصرّفه الماء والنار والمواد الغذائية، فهل سينفّذ ما يريده ويشتهيه مولاه، أم يتصرّف بما يحلو له؟ لا شكّ أنّه ليس للعبد أن يقدّم هواه على هوى سيده، وإلاّ كان مصيره العقوبة والطرد. فكذلك القائل: «إنا لله»؛ إذا كان صادقاً فعليه أن يستحضر أنّه عبد مملوك ومطيع لمولاه يقرّ ويعترف على نفسه بالعبودية، ولسيّده بالملك.
فإذا كان كذلك وقال هذه الكلمة يكون في نور الله تعالى، فيبصر عيوبه لأنّ النور هو الذي يكون وسيطاً وسبباً لأن يبصر الإنسان نفسه ويرى ما حوله وما فيه من عيوب ونقائص فيعرف حقائق الأشياء ويتجنّب ما يضرّه وما لا يعنيه وما لا يعود عليه بالنفع، ويتوجّه إلى ما يعود عليه بالنفع في دنياه وآخرته.