قال الله عزوجل في محكم كتابه الكربم:
(كهيعص(1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ(2) إِذْ نَادَى
رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً(3) قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ
مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ
شَقِيّاً(4) وَإِنِّى خِفْتُ الْمَوَلِىَ مِن وَرَآئي وَكَانَتِ
امْرَأَتِى عَاقِراً فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً(5)يَرِثُنِى
وَيَرِتُ مِنْ آل يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً(6)
سورة مريم
{ ذكر رحمة ربك عبده زكريا } أي هذا خبر رحمة ربك زكريا عبده ويعني
بالرحمة إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد وزكريا اسم نبي من أنبياء
بني إسرائيل كان من أولاد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران. وقيل: إن
معناه ذكر ربك عبده بالرحمة.
في ذلك الوقت الذي كان زكريا(عليه السلام)مغتماً ومتألماً فيه من عدم
إِنجاب الولد، توجه إِلى رحمة ربّه:
(إِذ نادى ربّه نداء خفياً) بحيث لم يسمعه أحد
ـ ماذا تعني كلمة «نادى»؟
في قوله تعالى (إِذ نادى ربّه نداءً خفياً) طُرح هذا السؤال بين
المفسّرين، وهو أن «نادى» تعني الدعاء بصوت عال، في حين أن «خفياً»
تعني الإِخفات وخفض الصوت، وهذان المعنيان لا يناسب أحدهما الآخر.
إِلا أننا إِذا علمنا أن «خفياً» لا تعني الإِخفات، بل تعني الإِخفاء،
فسيكون من الممكن أن زكريا حين خلوته، حيث لا يوجد أحد سواه، كان ينادي
ويدعو الله بصوت عال.
والنداء والمناداة الجهر بالدعوة خلاف المناجاة
والبعض قال: إِن طلبه هذا كان في جوف الليل حيث كان الناس يغطون في
النوم.
والبعض الآخر اعتبر قوله تعالى:
(فخرج على قومه من المحراب) ، دليلا على
وقوع هذا الدعاء في الخلوة وفي الحديث ( خير الدعاء الخفي وخير الرزق
ما يكفي )
وقد قدم قوله: { رب } للاسترحام في مفتتح الدعاء، والتأكيد بأن للدلالة
على تحققه بالحاجة، والوهن هو الضعف ونقصان القوة وقد نسبه إلى العظم
لأنه الدعامة التى يعتمد عليها البدن في حركته وسكونه وعنــدما يشيخ
الانسان فان عظامه تصبح متراخية هشة و يشعر بالضعف الداخلي
[ و اشتعل الرأس شيبا ]
أي تحول الى البياض ، و التعبير بكلمة " اشتعل " تعبير بلاغي يلفت
النظر الى المشاق و الصعوبات التي لاقاها في عمره الطويل ، كما توحي
أيضا بسرعة الشيب في رأسه
إِن تشبيه آثار الكبر بالشعلة التي عمت كل الرأس تشبيه جميل، لأنّ
خاصية شعلة النّار أنّها تتسع بسرعة، وتلتهم كل ما يحيط بها.
ومن جهة ثانية فإِنّ شعلة النّار لها بريق وضياء يجلب الإِنتباه من
بعيد.
ومن ناحية ثالثة، فإِنّ النّار إِذا اشتعلت في محل له، فإِنّ الشيء
الذي يبقي منه هو الرماد فقط.
لقد شبه زكريا نزول الكبر، وبياض كل شعر رأسه باشتعال النّار، والرماد
الأبيض الذي تتركه، وهذا التشبيه جميل وبليغ جداً.
: (ولم أكن بدعائك ربَّ شقياً)
الشقاوة خلاف السعادة، وكأن المراد بها الحرمان من الخير
فهو يقول لقد عودتني دائماً ـ فيما مضى ـ على استجابة أدعيتي، ولم
تحرمني منها أبداً، والآن وقد أصبحت كبيراً وعاجزاً فأجدني أحوج من
السابق إلى أن تستجيب دعائي ولا تخيبّني.
إنّ الشقاء هنا بمعنى التعب والأذى أي إِنّي لم أتعب ولم أتاذَّ في
طلباتي منك، لأنّك كنت تقضيها بسرعة
وفي تكرار قوله: { ربّ } ووضعه متخللاً بين اسم كان وخبره في قوله: {
ولم أكن بدعائك رب شقيّاً } من البلاغة ما لا يقدّر بقدر، ونظيره قوله:
{ واجعله ربّ رضياً }.
بعد ذلك بين حاجته عندما قال:
(وإِنّي خفت الموالي من ورائي) أي إنّي أخشى من أقربائي أن يسلكوا سبيل
الانحراف والظلم (وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث
من آل يعقوب واجعله ربّ رضياً) أي مرضياً عندك.
ـ المراد من الإِرث
لقد قدم المفسّرون الإِسلاميون بحوثاً كثيرة حول الإِجابة عن هذا
السؤال، فالبعض يعتقد أنّ الإِرث هنا يعني الإِرث في الأموال، والبعض
اعتبره إِشارة إِلى مقام النبوة، وبعض آخر احتمل أن يكون المراد معنى
جامعاً شاملا لكلا الرأيين السابقين.
إِنّ الذين حصروا المراد في الإِرث في المال استندوا إِلى ظهور كلمة
الإِرث في هذا المعنى، لأن هذه الكلمة إِذا كانت مجرّدة عن القرائن
الأُخرى، فإِنّها تعني إِرث الأموال، أمّا في موارد استعمالها في بعض
آيات القرآن في الأُمور المعنوية، كالآية
(32) من سورة فاطر: (ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)
فلوجود القرائن في مثل هذه الموارد.
إِضافة إِلى أنّه يستفاد من قسم من الرّوايات أن هدايا ونذوراً كثيرة
كانت تجلب إِلى الأحبار ـ وهم علماء اليهود ـ في زمان بني إِسرائيل،
وكان زكريا رئيس الأحبار وكانت تودع
عنده 00
وإِذا تجاوزنا ذلك، فإِن زوجة زكريا كانت من أسرة سليمان بن داود،
وبملاحظة الثروة الطائلة لسليمان بن داود، فقد كان لها نصيب منها.
لقد كان زكريا خائفاً من وقوع هذه الأموال بأيدي أناس غير صالحين،
وانتهازيين، أو أن تقع بأيدي الفساق والفجرة، فتكون بنفسها سبباً لنشوء
وانتشار الفساد في المجتمع، لذلك طلب من ربّه أن يرزقه ولداً صالحاً
ليرث هذه الأموال وينظر فيها، ويصرفها في أفضل الموارد.
من مجموع المباحث أعلاه نفهم انه للإرِث هنا مفهوماً ومعنى واسعاً يشمل إرث الأموال كما يشمل إرث
المقامات المعنوية، فسوف لا يكون هناك مورد خلاف، لأنّ لكل رأي قرائنه،
وإِذ لاحظنا الآيات السابقة واللاحقة ومجموع الرّوايات، فإِنّ هذا
التّفسير يبدو أقرب للصواب).