النية السيئة تفسد العمل الصالح وكذلك النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد
إن الذين قسموا الدين إلى قشر ولُبّ، ومظهر وجوهر، هؤلاء ركبوا مطايا الخير كي يصلوا بها إلى الشر،
فاستدلوا على هذه البدعة ببعض النصوص الشرعية التي أوّلوها وحرفوا معانيها،
منها: حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)،
وهذا مشهور عند عموم الناس، فكثير من الناس إذا خالفته في شيء
قال لك: الإيمان في القلب، وأنا قلبي سليم وقلبي أبيض وما أريد شراً بأحد، فيرفعون هذا الحديث في وجه من يخالفهم.
ومن النصوص التي استدل بها هؤلاء: ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(إن الحلال بين وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
فالحديث الأول دليل على عظم شأن النية وخطرها،
ولا يمكن الاستدلال به بحال من الأحوال على إسقاط شعائر الإسلام الظاهرة والاكتفاء بالنوايا الحسنة،
بل هذا كلام الزنادقة والملاحدة كما سنبين إن شاء الله.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)
تقديره: الأعمال الواقعة بالنيات، أو الأعمال حاصلة بالنيات،
فمعناها: أن الأعمال الاختيارية لا تقع إلا عن قصد من العامل الذي هو سبب وجودها وعملها،
وهذه إشارة إلى أنه من الصعب جداً أن يعمل الإنسان عملاً بدون نية، حتى إن من العلماء من قال:
لو فُرض أن العبد كُلَّف بأن يعمل عملاً بدون نية لكان هذا من التكليف بما لا يستطاع؛
لأنه لا يوجد عمل إلا ويكون معه نية.
وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) إخبار عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله يكون بقدر نيته،
فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد وعليه وزره.
وفي بعض الروايات: (إنما العمل بالنية) ف(ال) هنا للعهد، وإذا قلنا: إن (ال) للاستغراق،
فسيكون معناه: إنما كل الأعمال بالنية، وسيكون المقصود إنما كل عمل بالنية، حتى لو كان العمل مخالفاً للشريعة،
لكن المقصود هنا ب(ال) أنها للعهد الذهني، يعني إنما العمل الصالح بالنية.
ومثل ذلك قوله تعالى:
{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}
[المزمل:16]،
هنا للعهد، والمقصود بالرسول هنا هو موسى عليه السلام، كذلك: (إنما العمل بالنية)
الحديث يقتصر على الكلام على ما يتم به صحة العمل الصالح،
يعني: إنما ينفع العمل الصالح صاحبه إذا انضم صلاح النية إلى صلاح العمل، وهذا هو الصواب؛
لأن العمل الذي تتوقف صحته على صلاح النية هو العمل الصالح.
يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، والنية الحسنة لا تجعل الباطل حسناً؛
لأن النية وحدها لا تكفي لتصحيح الفعل، فلابد أن ينضمّ إليها التقيد بالشرع.
وقد روى البخاري في كتاب الشهادات عن عمر بن الخطاب -
وهو الذي روى حديث: (إنما الأعمال بالنيات) -
أنه قال: (إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي: كما حصل مع المنافقين أو بعض
المسلمين الذين أخطئوا- وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً صدّقناه
وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لن نأمنه ولن نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة).
أيضاً في نفس الحديث ما يدل على خطورة النية، إذ يقول عليه الصلاة والسلام:
(فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله رسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
إذاً: هذا مَثَل للأعمال التي تكون في الظاهر واحدة، فكل المسلمون هاجروا من مكة إلى المدينة،
وهذا فعل اشترك فيه المؤمنون والمنافقون، وكذلك عند الخروج إلى الجهاد،
فقد يخرج الإنسان يريد وجه الله وقد يريد شيئاً آخر، لكن العمل في الظاهر واحد،
فيختلف صلاحه وفساده بحسب صلاح النية أو فسادها.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
فهل يمكن أن يأتي أحد ويستنبط من الحديث التنفير عن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام،
ويقول: أنا أترك الهجرة ونيتي طيبة، ونيتي حسنة؟!
الجواب: لا؛ لأن تخاذله في الظاهر عن الهجرة دليل على فساد قلبه وسوء نيته؛
مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب)؟
فالنية المزعومة لا تصلح العمل الفاسد، والنية إذا كانت صالحة ولم ينبثق عنها متابعة للشرع
وامتثال للأوامر واجتناب للنواهي فلا قيمة لهذه النية.
وهناك نصوص كثيرة جداً تعلق الانتفاع بالعمل على صلاح النية وصلاح العمل،