والعِشقُ داءٌ لا يُملَك دفعه, كما لا يُستطاع دفعُ عوارضَ الأدواء إلاّ بالحِمية, ولا يكاد يُنتَفع بالحميّة مع ما تولِّد الأغذية وتزيد في الطبائع بالازدياد في الطُّعم. وأنا واصفٌ لك حدَّ العشق لتعرف حدَّه: هو داءٌ يُصيبُ الرُّوح ويشتمل على الجسم بالمجاورة, كما ينال الروح الضعفُ في البطش والوهنُ في المرء ينهكه. وداء العشق وعمومه في جميع البدن بحسب منزلة القلب من أعضاء الجسم. وصعوبة دوائه تأتي من قبل اختلاف عِلله, وأنّه يتركّب من وجوهٍ شتَّى, كالحَّمى التي تَعرِض مركبَةً من البرد والبلغم. فمن قصدَ لعلاج أحد الخِلطينِ كان ناقصاً من دائه زائداً في داء الخلط الآخر, وعلى حسب قوّة أركانه يكون ثُبوتُه وإبطاؤه في الانحلال. فالعشق يتركّب من الحُبّ والهَوَى, والمشاكلة والإلف, وله ابتداءٌ في المصاعَدة, ووقوفٌ على غاية, وهبوطٌ في التوليد إلى غاية الانحلال ووقف الملال. والحبّ اسمٌ واقع على المعنى الذي رُسم به, لا تفسير له غيره; لأنه قد يقال: إن المرء يحبُّ الله, وأنّ الله جلّ وعزّ يحبّ المؤمن, وإن الرجل يحبُّ ولدَه, والولد يحبّ والدَه ويحبُّ صديقَه وبلدَه وقومَه, ويحبُّ على أي جهة يريد ولا يسمَّى ذلك عشقاً. فيُعلَم حينئذ أن اسم الحبّ لا يُكتفى به في معنى العشق حتّى تُضاف إليه العللُ الأخر إلاّ أنه ابتداء العشق, ثم يتبعه حبُّ الهوى فربّما وافق الحقّ والاختيار, وربّما عَدَل عنهما. وهذه سبيل الهوى في الأديان والبُلدان وسائر الأمور. ولا يميل صاحبه عن حجّته واختياره فيما يهوي. ولذلك قيل: (عَينُ الهوى لا تصْدُق), وقيل: (حبُّك الشيءَ يُعمي ويُصمّ). يتخذون أديانهم أرباباً لأهوائهم. وذلك أنّ العاشق كثيراً ما يعشق غير النهاية في الجمال, ولا الغاية في الكمال, ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة, ثم إن سُئل عن حُجّته في ذلك لم تقُمْ له حُجّة. ثم قد يجتمع الحبُّ والهوى ولا يسمَّيان عشقاً, فيكون ذلك في الولد والصديق والبلد, والصِّنفِ من اللِّباس والفُرش والدوابّ. فلم نر أحداً منهم يسقم بدنه ولا تتلف روحُه من حبّ بلده ولا ولده, وإن كان قد يصيبه عند الفراق لوعةٌ واحتراق. وقد رأينا وبلغَنا عن كثير ممن قد تَلِفَ وطال جُهده وضَناه بداء العشق. فعلم أنّه إذا أضيف إلى الحبّ والهوى المشاكلةُ, أعني مشاكلةَ الطبيعة, أي حبّ الرجالِ النساءَ وحبَّ النساءِ الرجالَ, المركَّبَ في جميع الفحول والإناث من الحيوان, صار ذلك عشقاً صحيحاً. وإن كان ذلك عشقاً من ذكر لذكرٍ فليس إلا مشتقًّا من هذه الشهوة, وإلا لم يسمَّ عشقاً إذا فارقَت الشهوةُ. ثم صارت قلّة العِيان تزيد فيه وتُوقِد نارَه, والانقطاعُ يسعِّره حتى يُذهَل العقلُ ويُنْهَكُ البدنُ, ويشتغل القلبُ عن كلِّ نافعة, ويكون خيال المعشوق نُصبَ عين العاشق والغالبَ على فكرته, والخاطرَ في كلِّ حالة على قلبه. وإذا طال العهدُ واستمرَّت الأيام نقص على الفرقة, واضمحلَّ على المطاولة, وإن كانت كلومه وندوُبه لا تكاد تعفو آثارُها ولا تدرس رسومُها. فكذلك الظَّفَر بالمعشوق يُسرِع في حَلِّ عِشقِه. والعلّة في ذلك أنّ بعض الناس أسرعُ إلى العشق من بعض; لاختلاف طبائع القلوب في الرِّقّة والقسوة, وسرعة الإلف وإبطائه, وقلّة الشَّهوة وضعفها. ويقول سبط المارديني في ذلك: "العلاج لاشيء كالوصال لمن يتهيأ على الوجه الشرعي، وإلا أهين وقبح بفعله، وإشغاله ببعض العلوم العقلية ومجالس أهل الفضل ثم استفراغ بعض السوداء. ويكثر من صب الماء على الرأس. ويطعم البطيخ والقثاء والبقلة، ويسقى الرايب الحامض، ويؤمر أن ينام تحت الندى. وذكروا أن النظر إلى القمر عند امتلائه يمنع هذا المرض. وينصح بكثرة الاغتسال بالماء البارد أيضا. ولا يعطى الأشياء الحارة من الأدوية والأغذية والأهوية".
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.