1- دور الراية الحربي :
عرف الجاحظ الرايات، فقال ، هي : "خرق سود وحمر وصفر وبيض)(12)، ويفهم من عبارة هذا الكاتب، أن الرايات في الأصل ما هي إلا قطع من القماش أو الكتان ذات مقاسات مختلفة، وكان لكل دولة رايتها التي تتميز بها عن غيرها باللون وفي بعض الأحيان بالشكل.
ويبدو من دراسة التاريخ العسكري للمسلمين، أن الراية كانت تربك في طرف الرمح ويحملها قائد الجيش كما سبق أن ذكرت قبل قليل. ونظرا للدور الحربي الذي تلعبه الرايات في تاريخ الصراع بين الشعوب خصوصا أثناء المعارك القتالية الفاصلة، فقد علق عليها المسلمون أهمية خاصة منذ فجر الإسلام وبداية حركة الفتوح في عهد الخلفاء الراشدين، حيث استعملوها كوسيلة للنداء في بعض معاركهم الحاسمة، نذكر من بين هذه المعارك معركة "فتح نهاوند" سنة 21 هـ، والتي تروي كتب التاريخ أن فاتحاه "النعمان بن مقرن" قال لجنوده : "إني هاز لوائي ثلاث هزات، فأما أول الهزة الثانية، فلينظر الرجل بعدها إلى سيفه (أو قال شسعه)، وليتهيأ وليصلح من شأنه، وأما الثالثة، فإذا كانت إنشاء الله فاحملوا لا يلوين أحد على أحد"(13). ومن غير شك، أنهم كانوا يفعلون ذلك إذا أرادوا الهجوم سرا وبغير جلبة تنبه العدو، وقد تواصل استعمال هذه الإشارات في العصر الثاني والثالث(14). وتواصل استعمال الرايات عند المسلمين في العصور التالية، فتكررت ضروب الألوية، وتنوعت أشكالها، وتعددت ألوانها وأطوالها وسميت بأسماء مختلفة. وللوقوف على التطور الذي عرفته الرايات في تاريخ المغرب الإسلامي العسكري، لا بد من استعراض مراحل تاريخها بدءا بعهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين ومن بعدهم الأمويين والعباسيين.
2- اللواء أو الراية على عهد الرسول (ص) :
كان الرسول (ص) ومن بعده الخلفاء الراشدين، يقودون الجيوش ويصحبونها إلى ساحات الوغى لرفع معنويات المقاتلين وإثارة الحماس في نفوسهم إلى الجهاد في سبيل الله. ولكن مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، وتعقد إدارتها، أصبح وقت الرسول الكريم، لا يسمح له بالخروج في بعض الأحيان فكان يختار عند ذلك قائدا مستوفيا لمؤهلات القيادة، ويعينه لقيادة الجيش، ويعقد له لواء على رمح طويل ينشره أثناء السير إلى المعركة.
أ- أول لواء في الإسلام :
وأول ظهور اللواء في الإسلام، كان عند دخول الرسول (ص) إلى مدينة "يثرب" حيث حلف أنصاري أنه لا يدخلها إلى اللواء مرفوعا أمامه، فنزع عمامته ونشرها على رمحه وسار به أمام موكب الرسول (ص) وكان الرسول (ص) إذا عين قائدا على سرية للقيام بمهمة نصحه وأفهمه أهدافها وأوصاه بجيشه وسكان المناطق المتجهة إليها، فكان إذا ما انتهى من ذلك عقد له اللواء ولعل أول لواء حقيقي عقد في العهد النبوي سلم لحمزة
ابن عبد المطلب في السنة الأولى في غزوة "ودان" التي تعرف أيضا بالأبواء،(15) ولم يحدث فيها قتال مع قريش، وكان لواء حمزة أبيض، وقيل حمله أبو مرشد(16). وهكذا نلاحظ بأن الألوية والرايات كان يعلق عليها أهمية كبيرة قبل انطلاق الجيش والسرايا إلى الحرب وأثناءها، ففي غزوة "بدر الكبرى" حمل اللواء "مصعب بن عمير"، وراية المهاجرين "علي بن أبي طالب" وحمل أنصاري راية الأنصار(17) ، ومن المحتمل كانت الرايتان سوداوين. أما في غزوة "أحد" فقد حمل اللواء "مصعب بن عمير" كذلك، فلما قتل حمله "علي بن أبي طالب"، وبعد واقعة "أحد" استعد بنو أسد لغزو المدينة، فوجه إليهم النبي (ص) سرية بقيادة أبي سلمة الذي عقد له اللواء، وعند افتتاح أحد حصون خيبر عقد النبي الكريم راية لعلي بن أبي طالب الذي ظل يؤدي هذه المهمة إلى جانب النبي (ص) ،،، وذلك خلال فتح سائر حصون خيبر(18)، وبالإضافة إلى ذلك فقد أسندت إليه مهمة حمل الراية في غزوة قريظة(19)، وتبدو أهمية الراية في معركة مؤتة، التي واجه المسلمون فيها بجيش صغير من قوات الروم وأنصارهم من العرب، عندما عين الرسول ثلاثة قادة يتولون حمل الراية على التوالي كلما استشهد واحد، خلفه الذي يليه(20)، بدأ الهجوم باندفاع زيد بن حرثة وهو يحمل راية الرسول (ص) إلى صفوف العدو، وقاتل المسلمون معه قتال الأبطال حتى استشهد، فتسلم الراية خلفه جعفر بن أبي طالب، حتى استشهد أيضا، ثم تسلم الراية عبد الله بن رواحة(21). وفي غزوة "تبوك" حمل الراية "أبو بكر"،(22) ونستخلص من دراستنا للتنظيمات العسكرية في عهد الرسول (ص)، أن اللواء كان يركز في مسجد الرسول أو أمام دار القائد، وكانت هذه العلامة أي تركيز اللواء في المسجد النبوي أو أمام باب القائد، دلالة قاطعة على حالة التأهب والاستعداد للحرب، ففي السنة الأخيرة من حياة الرسول الكريم وفي زمن مرضه، عقد لواء لأسامة باتجاه البلقاء وقد اجتمعت جيوش أسامة في مكان يعرف باسم الجرف قرب المدينة(23)، وبدأ الاستعداد للرحيل، إلا أن موت الرسول (ص) جعل الخطة تتأثر بهذا النبأ ذلك أن أسامة لما سمع بموت الرسول الكريم، عاد باللواء وهو علامة القيادة، وركزه أمام مسجد الرسول، وظل اللواء معلقا أمام المسجد حتى خلفه أبو بكر الصديق، على رأس الدولة الإسلامية الناشئة، فأعاد اللواء إلى مكانه الأول أمام بيت أسامة(24)، وهذا يعني بطبيعة الحال التأهب من جديد للخروج إلى المعركة تحت قيادة أسامة(25). ويتبين مما تقدم استعراضه، أن الرسول والخلفاء الراشدين من بعده كانوا يعقدون اللقاء للقادة المتميزين في المسجد النبوي أو أمام دار القائد أو في أي مكان فسيح خارج
المدينة حيث يجتمع حوله الجند. أما بالنسبة لألوان الرايات والألوية في صدر الإسلام، فالثبت أنها كانت بيضاء، بدليل أن ولاء الرسول في غزواته الأولى أبيض اللون، كما هو الشأن في غزوة "ودان" وبدر الأولى وبني قنيقاع وبواط، ولكن في غزوة بدر الكبرى، فكان على رأس جيش الرسول (ص) لواء أبيضا ومعه رايتان سوداوان، كانت إحداهما من مرط لعائشة رضي الله عنها، وتسمى العقاب،(26) ونستخلص من ذلك أن الرسول (ص) اتخذ لونين رئيسيين لتمييز ألويته هما : الأبيض والأسود. ويجب ملاحظة أن الألوان في تلك الفترة لم تكن تمثل شعارا لكن رموز وشارات لها أهميتها ودورها في التاريخ العسكري الإسلامي عامة.
ومهما يكن من أمر، فالذي لا جدال فيه، أن الخلفاء الراشدين قد استعملوا نفس الرايات عند خوض المعارك، سواء داخل الجزيرة العربية أو خارجها، من ذلك مثلا أن أبا بكر الصديق في حروب الردة عقد أحد عشر لواء بحسب الفرق العسكرية التي أرسلها إلى مختلف مناطق شبه الجزيرة(27)، وخلال الحروب التي خاضها المسلمون بالشام في عهد أبي بكر أيضا، كان قد عقد لواء ليزيد بن أبي سفيان وحمله معاوية قبل أن يتولى خالد بن الوليد القيادة العامة، كما أوصى القادة أن يعقدوا لكل قبيلة لواء، وهكذا عندما اقترب خالد بن الوليد من دمشق عند ثنية العقاب نشر راية سوداء كانت للرسول (ص).(28)
وصارت الرايات من مستلزمات الحروب لأهميتها كوسيلة للتفاهم بين أفراد الجيش الواحد، ولذلك انتشر استعمالها في فتوح المسلمين بالعراق والشام ومصر والمغرب، لذلك كانت تتجه الأنظار مباشرة إلى حملة الرايات، خصوصا عند بدء الصدام في المعارك، حيث يتولى حامل الراية الإعلان عن الهجوم بالتكبير وقد يكرر التكبير مرات ثلاثا(29)، يستعد الفرسان في التكبيرة الأولى على جيادهم، وفي التالية يشعرون أسلحتهم، وفي الثالثة يحملون كتلة واحدة على العدو(30). واستمر هذا الأسلوب التاكتيكي يمارس في جميع الحروب الإسلامية بلا استثناء، ونذكر في هذا الشأن، ما حدث في "صفين" حيث شاركت قبيلة بكر إلى جانب علي بن أبي طالب، فأسند قيادتها إلى حضين وكانت له راية سوداء وجعل كل ألوية بكر تحت رايته(31).
وليس هدفنا هنا التأريخ للرايات منذ ظهورها كشارة في الحروب، لأن ذلك يخرج عن نطاق بحثنا هذا، وإنما اقتضى منا التسلسل التاريخي أن نقدم لها بتمهيد موجز يساعد على دراسة الرايات والأعلام التي استعملتها الدول الإسلامية في المغرب الإسلامي، وفهم أسباب التمايز والتفاضل في اختيار الألوان، التي اختلفت وتباينت باختلاف الدول والأقطار، وكان لها شأن عظيم في نظمها العسكرية، وهذه المسألة تجرنا إلى البحث في تطور مفهوم الراية عند المسلمين.
منقول للفائدة