التواضع
ترامى الى سمع أبي عبيدة بن الجراح أحاديث الناس في الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء، فجمعهم وخطب فيهم قائلا: (يا أيها الناس، اني مسلم من قريش، وما منكم من أحد أحمر ولا أسود، يفضلني بتقوى الا وددت أني في أهابه !!) وعندما زار أمير المؤمنين عمر الشام سأل عن أخيه، فقالوا له: (من؟) قال: (أبوعبيدة بن الجراح) وأتى أبوعبيدة وعانقه أمير المؤمنين ثم صحبه الى داره، فلم يجد فيها من الأثاث شيئا، الا سيفه وترسه ورحله، فسأله عمر وهو يبتسم: (ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس؟) فأجاب أبوعبيدة: (يا أمير المؤمنين، هذا يبلغني المقيل).
الزهد
* عن جُندب بن عبدالله البجلي قال: أتيت المدينة ابتغاء العلم، فدخلت مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاذا الناس فيه حَلَقٌ يتحدّثون، فجعلت أمضي الحَلَقَ حتى أتيتُ حلقةً فيها رجل شاحبٌ عليه ثوبان كأنّما قـدم من سفر فسمعته يقول: (هلك أصحاب العُقدة ورب الكعبة، ولا آسى عليهم) أحسبه قال مراراً فجلست اليه فتحدّث بما قُضيَ له ثم قام، فسألت عنه بعدما قام قلت: (من هذا؟) قالوا: (هذا سيد المسلمين أبي بن كعب) فتبعته حتى أتى منزله، فاذا هو رثُّ المنزل رثُّ الهيئة، فاذا هو رجل زاهد منقطعٌ يشبه أمره بعضه بعضاً.
لقد كان سعيد بن عامر صاحب عطاء وراتب كبير بحكم عمله و وظيفته، ولكنه كان يأخذ ما يكفيه وزوجه ويوزع الباقي على البيوت الفقيرة، وقد قيل له: (توسع بهذا الفائض على أهلك وأصهارك) فأجاب: (ولماذا أهلي وأصهاري؟ لا والله ما أنا ببائع رضا الله بقرابة) كما كان يجيب سائله: (ما أنا بالمتخلف عن الرعيل الأول، بعد أن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يجمع الله عز وجل الناس للحساب فيجيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف الحمام فيقال لهم: قفوا للحساب فيقولون: ما كان لنا شيء نحاسب عليه فيقول الله: صدق عبادي فيدخلون الجنة قبل الناس)
هم سلمان الفارسي -رضي الله عنه- ببناء بيتٍ فسأل البناء (كيف ستبنيه؟) وكان البناء ذكيا يعرف زهد سلمان وورعه فأجاب قائلا: (لا تخف، انها بناية تستظل بها من الحر، وتسكن فيها من البرد، اذا وقفت فيها أصابت رأسك، واذا اضطجعت فيها أصابت رجلك) فقال سلمان: (نعم، هكذا فاصنع)
جاءت هدية لعبدالله بن عمر من أحد اخوانه القادمين من خُراسان حُلة ناعمة أنيقة وقال له: (لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان، وانه لتقر عيناي اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثـوب الجميل) قال له ابـن عمر: (أرِنيه اذن) ثم لمسه وقال: (أحرير هذا؟) قال صاحبه: (لا، انه قطن) وتملاه عبدالله قليلا، ثم دفعه بيمينه وهو يقول: (لا اني أخاف على نفسي، أخاف أن يجعلني مختالا فخورا، والله لا يحب كل مختال فخور)
وأهداه يوما صديق وعاء مملوءاً، وسأله ابن عمر: (ما هذا؟) قال: (هذا دواء عظيم جئتك به من العراق) قال ابن عمر: (وماذا يُطَبِّب هذا الدواء؟) قال: (يهضم الطعام) فابتسم ابن عمر وقال لصاحبه: (يهضم الطعام؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما) لقد كان عبدالله بن عمر-رضي الله عنهما- خائفا من أن يقال له يوم القيامة: (أَذْهَبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) كما كان يقول عن نفسه: (ما وضعت لَبِنَة على لَبِنَة ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)
ويقول ميمون بن مهران: (دخلت على ابن عمر، فقوّمت كل شيء في بيتـه من فراش ولحاف وبساط، ومن كل شـيء فيه، فما وجدتـه يساوي مائة درهم).
الدعوة المجابة
عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال عمر بن الخطاب: (اخرجوا بنا الى أرض قومنا) قال: فخرجنا فكنت أنا وأبي بن كعب في مؤخَّر الناس، فهاجت سحابة، فقال أبيُّ: (اللهم اصرف عنّا أذاها) فلحقناهم وقد ابتلّت رحالهم، فقال عمر: (أمَا أصابكم الذي أصابنا؟) قلت: (ان أبا المنذر دعا الله عزّ وجلّ أن يصرف عنّا أذاها) فقال عمر: (ألا دعوتُمْ لنا معكم؟!)
كان سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-اذا رمى عدوا أصابه واذا دعا الله دعاء أجابه، وكان الصحابة يردون ذلك لدعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- له: (اللهم سدد رميته، وأجب دعوته) ويروى أنه رأى رجلا يسب طلحة وعليا والزبير فنهاه فلم ينته فقال له: (اذن أدعو عليك) فقال الرجل: (أراك تتهددني كأنك نبي !) فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين ثم رفع يديه قائلا: (اللهم ان كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما سبقت لهم منك الحسنى، وأنه قد أسخطك سبه اياهم، فاجعله آية وعبرة) فلم يمض غير وقت قصير حتى خرجت من احدى الدور ناقة نادّة لا يردها شيء، حتى دخلت في زحام الناس ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمها، ومازالت تتخبطه حتى مات.
كان سعيد بن زيد-رضي الله عنه- مُجاب الدعوة، وقصته مشهورة مع أروى بنت أوس، فقد شكته الى مروان بن الحكم، وادَّعت عليه أنّه غصب شيئاً من دارها، فقال: (اللهم ان كانت كاذبة فاعْمِ بصرها، واقتلها في دارها) فعميت ثم تردّت في بئر دارها، فكانت منيّتُها.
كان عُقبة بن نافع مُجاب الدعوة فلمّا وجّه الى افريقية عام (50 هـ)، غازياً في عشرة آلاف من المسلمين، فافتتحها واختطّ قيروانها، وقد كان موضعه بستاناً واسعاً، لا ترام من السباع والحيات وغير ذلك من الدّواب، فدعا الله عليها، فلم يبقَ فيها شيء مما كان فيها الا خرج هارباً باذن الله، فقد وقف و قال: (يا أهل الوادي، انّا حالون -ان شاء الله- فاظعنوا) ثلاث مرات، قيل: (فما رأينا حجراً ولا شجراً، الا يخرج من تحته دابّة حتى هبطنا بطنَ الوادي) ثم قال للناس: (انزلوا باسم الله) فأسلم خلق كبير من البربر
السخاء والجود
لقد سميت أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- بأم المساكين ومفزع اليتامى وملجأ الأرامل، وقد اكتسبت تلك المكانة بكثرة سخائها وعظيم جودها، وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لنسائه: (أسْرعكُنّ لحاقاً بي أطوَلَكُنّ يداً) تقول السيدة عائشة: (كنا اذا اجتمعنا في بيت احدانا بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نمدُّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نَزَل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- انما أراد طولَ اليدِ بالصدقة، وكانت زينب امرأةً صناعَ اليد، فكانت تَدْبَغُ وتخرزُ وتتصدق به في سبيل الله تعالى) وبعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان عطاؤها اثنى عشر ألفاً، لم تأخذه الا عاماً واحداً، فجعلت تقول: (اللهم لا يدركني هذا المالُ من قابل، فانه فتنة) ثم قسّمته في أهل رَحِمِها وفي أهل الحاجة، فبلغ عمر فقال: (هذه امرأة يُرادُ بها خيراً) فوقف عليها وأرسل بالسلام، وقال: (بلغني ما فرّقت، فأرسل بألف درهم تستبقيها) فسلكت به ذلك المسلك.
كان سعد بن عبادة مشهوراً بالجود والكرم هو وأبوه وجدّه وولدُهُ، وكان لهم أطُمٌ -بيت مربع مسطح- يُنادَى عليه كل يوم: (من أحبَّ الشّحْمَ واللحْمَ فليأتِ أطمَ دُليم بن حارثة).
كان سلمة بن الأكوع -رضي اللـه عنه-على جـوده المفيض أكثر ما يكون جـوداً اذا سئل بوجه الله، ولقد عرف الناس منه ذلك، فاذا أرادوا أن يظفـروا منه بشيء قالوا: (نسألك بوجه الله) وكان يقول: (من لم يعط بوجه الله فبم يعط؟).
لقد كان سلمان الفارسي-رضي الله عنه- في كبره شيخا مهيبا، يضفر الخوص ويجدله، ويصنع منه أوعية ومكاتل، ولقد كان عطاؤه وفيرا بين أربعة آلاف و ستة آلاف في العام، بيد أنه كان يوزعه كله ويرفض أن ينال منه درهما، ويقول: (أشتري خوصا بدرهم، فأعمله ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهما فيه، و أنفق درهما على عيالي، وأتصدق بالثالث، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت).
كان صفوان بن أمية-رضي الله عنه- أحد المطعمين، وكان يُقال له: (سِداد البطحاء)
وكان طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- من أثرى المسلمين، وثروته كانت في خدمة الدين، فكلما أخرج منها الكثير، أعاده الله اليه مضاعفا، تقول زوجته سعدى بنت عوف: (دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما، فسألته: ما شأنك؟ فقال: المال الذي عندي، قد كثر حتى أهمني وأكربني و قلت له: ما شأنك؟ فقال: المال الذي عندي، قد كثر حتى أهمني وأكربني وقلت له: ما عليك، يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهما) وفي احدى الأيام باع أرضا له بثمن عال، فلما رأى المال أمامه فاضت عيناه من الدمع وقال: (ان رجلا تبيـت هذه الأموال في بيته لا يـدري مايطرق من أمر، لمغـرور بالله) فدعا بعض أصحابه وحملوا المال معه ومضى في الشوارع يوزعها حتى أسحر وما عنده منها درهما وكان -رضي الله عنه- من أكثر الناس برا بأهله وأقاربه، وكان يعولهم جميعا، لقد قيل: (كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا الا كفاه مؤونته، ومؤونة عياله) (وكان يزوج أياماهم، ويخدم عائلهم، ويقضي دين غارمهم) ويقول السائب بن زيد: (صحبت طلحة بن عبيد الله في السفر و الحضر فما وجدت أحدا، أعم سخاء على الدرهم، والثوب، والطعام من طلحة).
كان عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة، اذ كان تاجراً أميناً ناجحاً، وكان راتبه من بيت مال المسلمين وفيرا، ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، انما كان يرسله على الفقراء والمساكين والسائلين، فقد رآه (أيوب بن وائل الراسبي) وقد جاءه أربعة آلاف درهم وقطيفة، وفي اليوم التالي رآه في السوق يشتري لراحلته علفاً ديناً، فذهب أيوب بن وائل الى أهل بيت عبدالله وسألهم، فأخبروه: (انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعا، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره و خرج، ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها فقال انه وهبها لفقير) فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف، حتى أتـى السوق وصاح بالناس: (يا معشر التجار، ما تصنعون بالدنيا، وهذا ابن عمر تأتيه آلاف الدراهم فيوزعها، ثم يصبح فيستـدين علفاً لراحلته !!)
كما كان عبـد الله بن عمـر يلوم أبناءه حين يولمـون للأغنياء ولا يأتون معهم بالفقـراء ويقول لهم: (تَدْعون الشِّباع وتَدَعون الجياع).
جعلنا الله من الزاهدين ومن المقتدين بخلق حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وعلى اله وسلم واصحابه الابرار والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته