بالإضافة الى أنها تساعدنا في التفريغ عن جام غضبنا وتهدئة أعصابنا المشدودة، اكتشف الأطباء أخيراً أن الدموع تساعد في شفاء جسدنا أيضاً. حوالى تسعة من أصل عشرة أشخاص يشعرون بأنهم أفضل حالاً عند البكاء فهو يخفف من توترهم، ويساعدهم في الحفاظ على صحة أجسامهم. فضلاً عن ذلك، بوسعنا جميعاً البكاء من دون حدوث أية تأثيرات جانبية سوى المحارم المبللة بالدموع، العينين الحمراوين والتبرّج الفاسد.
طريقة لإعادة التوازن إلى الجسم
ليس البكاء عقاراً ينتج فوائد خيالية، لكن الدراسات التي أجريت أخيراً تشير إلى قدرته الكبيرة على الشفاء، وهو يحسّن مزاج 88.8 في المئة ممن ينتحبون، فيما يشعر 8.4 في المئة فحسب منهم بأنهم أسوأ حالاً. البكاء مفيد جداً، حتى أن الباحثين يقترحون دفع الأشخاص اليائسين إلى البكاء.
ما هو البكاء تحديداً؟ تُفرز الدموع العاطفية من خلال غدد الدمع نفسها التي تنتج السائل الذي يشكل غلافاً واقياً لمقلتي العين، وذلك لعدم السماح لأي مواد مثيرة بالدخول إليهما. تفرز هذه الغدد أيضاً كمية إضافية من السوائل عندما تصبح العين مستثارة أو يدخل إليها جسم خارجي.
لعل أبرز النقاط بشأن البكاء تكمن في اكتشاف أن الدموع العاطفية تحتوي على مركبات تختلف عن تلك الموجودة في الدموع التي تسيل من العين عادة عند فرم البصل مثلاً. تشمل هذه الظاهرة ما يُسمى نظرية الشفاء أو الانتعاش.
تفيد هذه النظرية بأن الدموع العاطفية والمركبات فيها قد تمثل طريقة لإعادة التوازن إلى الجسم بعد أوقات عصيبة. في هذا الشأن يوضح الأستاذ في الصيدلة في جامعة مينيسوتا ويليام فراي: "نشعر بتحسن بعد البكاء لأننا نفرّج عما يعتمل في داخلنا، وبذلك قد تخلصنا الدموع التي نذرفها عندما نبكي من المواد الكيماوية التي تشكلت خلال فترة الضغط النفسي والعاطفي التي مررنا بها. فالتوتر يزيد خطر إصابتنا بنوبة قلبية ويضر بمناطق معينة من دماغنا، من هنا قدرتنا على البكاء مهمة لبقائنا على قيد الحياة".
تدعم أدلة أخرى هذه النظرية. فقد تبين أن الدموع الممزوجة بالعواطف تحتوي على كمية أكبر من البروتينات والمنغنير والبوتاسيوم والهرمونات، من بينها البرولاكتين، من الدموع العادية التي تغسل العينين.
المنغنير مادة مغذية أساسية قد يبطئ انخفاضها عملية تخثر الدم، ويسبب مشاكل للبشرة ومستويات منخفضة من الكولستيرول في الدم. في المقابل قد تسبب كمية كبيرة منها مشاكل صحية. أمّا البوتاسيوم فمسؤول عن صحة الأعصاب وتماسك العضلات وضغط الدم.
يرتبط هرمون البرولاكتين بالضغط النفسي لأنه يؤدي دوراً بارزاً على مستوى جهاز المناعة ووظائف الجسم الأخرى. يبرر وجود هذا المركب في الدموع سبب بكاء النساء أكثر من الرجال. مستويات البرولاكتين لدى النساء أكبر من تلك الملحوظة لدى الرجال، وترتفع مستويات هذا المركب في فترة الحمل التي تترافق معها زيادة في وتيرة البكاء.
إحباط
يفيد بعض الخبراء بأن البكاء يخفف
الألم!!
يفيد بعض الخبراء بأن البكاء يخفف الألم، لكن الدراسات لم تتطرق الى هذه النقطة بشكلٍ معمّق. في المقابل، تفيد نظرية معاكسة بأن البكاء لا يساعد الجسم كثيراً في الشفاء، بل يشجع على ظهور نمط سلوكي معين هدفه درء الخطر. إثباتاً لهذه النظرية، أظهر بعض الدراسات أن حساسية البشرة تزيد أثناء البكاء وبعده، وأن النفس يصبح أكثر عمقاً. كذلك يشير الباحثون في جامعة فلوريدا الجنوبية إلى أن البكاء يسبّب ظهور إشارات تدل على الإحباط ويعيد التوازن النفسي والجسدي في آن. يقترح آخرون أن الدموع العاطفية تدل على الإحباط وتشجّع على الاندماج في مجموعة وتحسّن الدعم الاجتماعي وتعيق حدوث أي ضرر.
في هذا السياق، تُظهر دراسة أجرتها جامعة تيلبورغ في هولندا أن الرجال والنساء على حدٍّ سواء يمنحون دعماً عاطفياً أكبر لشخص يبكي على الرغم من أنهم لا ينظرون إليه نظرة إيجابية. أظهرت دراسة أخرى أن الرجال كانوا أكثر جاذبية في نظر النساء عندما بكوا، وجاءت النتيجة عكسية في ما يتعلق بالنساء. علّق الباحثون الهولنديون بالقول إن "الدراسات تدعم نظرية أن البكاء يجسد تصرفاً يدل على التعلّق هدفه جذب مساعدة الآخرين".
في دراسة أجريت أخيراً في جامعة فلوريدا الجنوبية، وجد الباحثون أن معظم الناس يشعر بتحسّن بعد البكاء وأن لشخصية المرء تأثيراً كبيراً على وتيرة البكاء لديه. وتبين أن العصبيين أكثر ميلاً إلى البكاء. تفيد دراسات أميركية أن تأثيرات البكاء الإيجابية قد تجعل منه علاجاً مفيداً لبعض الأشخاص، خصوصاً الذين يواجهون صعوبة في التعبير عن مشاعرهم. يُشار إلى أن الأكثرية الساحقة من المشاركين في الدراسات أشارت إلى تحسّن في المزاج بعد البكاء.
حتى الآن ما من أدلة علمية تفيد بأن تعلّم كيفية البكاء والاستفادة من تأثيراته الإيجابية يساعدان من يواجهون صعوبة في التعبير عن حزنهم. كذلك أظهرت النتائج أن من يعانون من عجز في التعبير عن العواطف قد يستفيدون من علاجات معينة تشجع على البكاء.
يقترح علماء النفس في جامعة فلوريدا مزيداً من العمل لفهم طبيعة البكاء ووظيفته. يجري مخططو الدماغ أبحاثاً جديدة معتمدين على المسح لتحديد مناطق الدماغ التي تتأثر بالبكاء. يدعم بعض هذه الأبحاث نظرية اعتماد البكاء كتقنية للشفاء، فيما تدعم أبحاث أخرى نظرية أنه يمنح الشجاعة.
الأبحاث المتزايدة بشأن البكاء ومنافعه الصحية الكبيرة ستحوّل ذرف الدموع الى تصرّف غير معيب. وكما يشير الأستاذ فراي، مؤلف كتاب Crying: the Mystery of tears، "ليس محض صدفة أن البكاء تخطى الضغوط التي يفرضها التطوّر وتمكّن من البقاء. الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي ينمّي هذه القدرة على ذرف الدموع رداً على الضغوط العاطفية. إنّها من العناصر التي تميّزنا كبشر".