ليس هنالكَ مسلم يحترم إسلامه، ويعلم ما هو الإسلام، إلا ويحب أهل البيت -عليهم السلام-.. فنحن عندما ننظر إلى أئمة أهل البيت -عليهم السلام- ننظر إليهم من زوايا ثلاث:
الزاوية الأولى: زاوية الفضائل.. البعض يفتخر بأن لهُ أئمة؛ كأئمة أهل البيت -عليهم السلام- ففضائلهم لا تنكر!.. علينا أن لا نستنكر أي فضيلة تُنقل بالنسبةِ إليهم؛ هؤلاء فوقَ مستوى الخلق، ودونَ الخالق.. نهج البلاغة عندما يصفهُ البعض من المنصفين يقول: فوقَ كلام المخلوق، ودونَ كلام الخالق.. إذن، المهم أن لا نتعدى حدود الربوبية؛ فلا نغالي، ولا نجعل لهم كياناً في مقابل كيان رب العالمين.. هؤلاء فخرهم العبودية لله عز وجل!.. أعظم شخصية على وجه الأرض، هو النبي المصطفى محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما نتشهد في صلواتنا اليومية، نُعلن للعالم أجمع أن النبي عبده ورسوله.. فهو قبل أن يكون رسولاً، كانَ عبداً.. فإذا كانَ الرسول صفوة العبودية، فكيفَ بمن يقول: "أنا عبد من عبيد محمد (ص)"؟.. هنا العبودية بمعنى الطاعة، فعلي (ع) أول شخصيةٍ أطاعت النبي حقَ الطاعة.
الزاوية الثانية: زاوية الشفاعة.. وقسم يستغرق في جانب الحوائج، لا يعرف الإمام إلا عند الحاجة، أو للشفاعة.. يدخر هذهِ المحبة، ليكون شفيعاً لهُ في عرصات القيامة.. فالإنسان بدلاً من أن يطرق باب زيد وعمرو، يطرق باب الحسين (ع)؛ لا بأسَ بذلك!.. ولكن ليسَ هذا كل شيءٍ في الأمر.
الزاوية الثالثة: زاوية الإقتداء والتأسي.. أئمة أهل البيت ليسوا عبارة عن لوحات زيتية، نعلقها في البيوت وننظر إليها.. فلا نتحد مع اللوحة، ولا نحاول في يوم من الأيام أن نرسم هذهِ اللوحة بأيدينا؛ فنكتفي بتعليقها، ونقول: نحن عندنا لوحة زيتية بآلاف الدنانير.. هذا المقدار لا ينطبقُ على سيرة أئمة أهل البيت -عليهم السلام-، إذ لابدَ من التأسي بهم.
ما هيَ الدروس والعبر المستفادة من نهضة الحسين (ع)؟..
أولاً: الخلود.. رب العالمين حريص على عباده، وهو الذي بيدهِ الأبدية والخلود، يقول عز وجل: (إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية).. من كانَ يتوقع أن هذه البقعة التي كان فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- -وادٍ غير ذي زرعٍ فيه امرأة كهاجر؛ وولد كإسماعيل (ع)، وأب كإبراهيم (ع)- أن تصبح من أغلى بقاع العالم؟!.. رب العالمين بيدهِ المباركة، جعل المؤمنين وإلى يومنا هذا يلبون دعوة إبراهيم الخليل (ع).. فهو صاحب الأبدية والخلود.
في يوم عاشوراء: هل كان يظن الذين أجروا الخيول على أجساد الضحايا والشهداء، وهي مليئة ومثخنة بالجراح.. والذين قتلوا الصغير والكبير حتى الرضيع ما أبقوه؛ هل هؤلاء كانوا يظنون أنهُ في مثلِّ هذا الأسبوع، عواصم العالم من شرق الأرض وغربها يضجون بـ: يا حسين!.. بين موالٍّ وبينَ باكٍ وبينَ متابع؟.. هذهِ الأيام ليس هناك إنسان في العالم -إلا من شذَّ وندر- لهُ صلة بالإعلام، إلا ويعرف أن هناك شخصية متميزة قتلت في يوم عاشوراء.. بعض الغربيين يتساءلون: من هذهِ الشخصية التي أسرت القلوب؟.. البعض إذا فقد عزيزا، عندما يبكي على الحسين (ع)، يخشى أن لا تكون تلك الدموع على سيد الشهداء.. يا لهُ من تأثيرٍ في القلوب!.. يخشى أن يكون البكاء نوعا من أنواع الرياء، إذ كيفَ يبكي على الحسين (ع) ويشرك معهُ عزيزه؟.. أين نرى هذا التراث في تاريخ البشرية؟!..
نعم، رب العالمين تصرف في قلوب عبادهِ المؤمنين، (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبردُ أبداً)!.. من منا لا يحب أن يكونَ مخلداً بعدَ موته؟.. الموت فناء، البعضُ منا يأتي إلى الدنيا ويذهب، وكأنهُ لم يولد؛ هذهِ كارثة!.. الإنسان المؤمن، يفكر بالأبدية والخلود.. وربُ العالمين فتحَ له الأبواب؛ في فقه الإمامية: يحق للإنسان وهو حي، أن يوصي بثلث أمواله.. ولكن هناك ملاحظة: إذا أراد الإنسان أن يوصي بالثلث، عليه فقط أن يوصي بجعل ثلث أمواله في سبيل الله عز وجل؛ دون قيد أو شرط؛ كيلا يشق على الورثة، ويرهقهم في تنفيذ الوصية.. وعليه، فإن هذهِ نعمة كبرى، بإمكان المؤمن أن يكتسب الأبدية والخلود من خلالها.
ثانياً: العمل بالتكليف.. بعدَ عاشوراء إلى الأربعين، يغلب على المنابر ذكر شخصيتين: الإمام السجاد (ع)، والسيدة زينب (ع).. بعدَ العشرة يكون الحديث عن: السبي والأسر، وعن خطبة الإمام زين العابدين في دمشق، وخطبة السيدة في الكوفة، وغير ذلك من الأحداث الكبرى.. حدث يحيى المازني قال: كنت في جوار أمير المؤمنين -عليه السلام- في المدينة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً.. وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- تخرج ليلاً: والحسن على يمينها، والحسين على شمالها، وأمير المؤمنين أمامها.. فإذا قربت من القبر الشريف، سبقها أمير المؤمنين -عليه السلام- فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن مرة عن ذلك، فقال: (أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب).. زينب (ع) هذهِ الخفرة، هذه المرأة التي كان علي (ع) يحرص عليها أشد الحرص.. وإذا بها تتكلم، ولولا صوتها الأنثوي؛ لظن الناس أن علياً (ع) بُعث من قبره.. تخطب في الكوفة، وفي الشام؛ هكذا تكليفها، رأت التكليف: أن تقوم هذا القيام، وأن تتكلم بهذا الأسلوب.
إن زينب (ع) هي تربية فاطمة (ع)؛ عن أسماء بنت عميس: أن فاطمة بنت رسول الله (ص) قالت لأسماء: إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء، أنه يُطرح على المرأة الثوب، فيصفها لمن رأى.. فقالت أسماء: يا بنت رسول الله!.. أنا أريكِ شيئا رأيته بأرض الحبشة.. فدعت بجريدة رطبة فحسنتْها ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة (ع): (ما أحسن هذا وأجمله!.. لا تُعرف به المرأة من الرجل).. فاطمة في منتهى العفة والحياء، ولكن إذا لزم الأمر تخرج هادرة بصوتها، لنصرة إمامِ زمانها؛ أمير المؤمنين (ع)!.. طوبى لعلي!.. إذ لهُ مأمومة كفاطمة الزهراء (ع)، فاطمة كانت تفتخر بأن إمام زمانها أمير المؤمنين (ع).. لما اشتدت علة فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وآله- وغلبها، اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار، فقلن لها: يا بنت رسول الله!.. كيف أصبحت عن علتك؟.. فقالت (ع): (... وما نقموا من أبي الحسن؟.. نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطئه، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله عز وجل...).. الإنسان عبد التكليف في أي ظرفٍ من الظروف، يتكلم على حسبِ ما تقتضيه وظيفته.
ثالثاً: ذكر الله على كل حال.. الذي يستنكر بعض الأمور في سيرة أهل البيت (ع)، نقول لهم: هؤلاء مثلوا العبودية والتوحيد بأجلى صورها، ذكر الله -عز وجل- خامرَ لحمهم ودمهم، في كل خطوة من خطوات حياتهم.. الحسين (ع) في اللحظات الأخيرة من عمره، كان يناجي ربه قائلا: (رضا بقضائك، وتسليما لأمرك، لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين)!.. هكذا موحد، هكذا عابد، ألا يخلد ذكرهُ في العالمين!.. لو أقمنا ذكرَ الحسين عندَ الكعبة، وفي المسجد الحرام؛ لكانَ الأمرُ في محلهِ.. لأنَ هذا بطل التوحيد، عليٌ محطم الأصنام، والحسين (ع) محطم الأصنام في زمانه.
إن صلاة زينب ليلة الحادي عشر من شهرِ محرم؛ صلاة متميزة في تأريخ البشرية.. امرأة مرهقة بما جرى عليها، ليس فقط في صبيحة يوم عاشوراء، بل من اليوم التاسع حُوصرَ الحسين، والعطش أخذَ منها كل مأخذ.. مصائب زينب (ع) أشد من مصائب الحسين (ع)؛ زينب رأت ما رأى الحسين وزيادة؛ لأنَ الحسين (ع) عندما قُتل وقعَ في أحضان أمهِ فاطمة، ولكن زينب رأت الأسر، ورأت ما عملهُ شمر في ذلك اليوم: (يا عمر بن سعد!.. أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه)؟.. رغم كل ما مر عليها، وإذا بهذهِ السيدة تصلي صلاة الليل!.. ولكن أينَ صلت: هل في الخيامِ المحترقة؟.. هل بجوار ابن أخيها زين العابدين، وهو يأن؟.. هل صلّت بجوارِ جسدِ أخيها وشقيقها وفلذة فؤادها الحسين (ع)؟.. وريح الصبا تمر على دماء القتلى، فتشم رائحة الدم، وإذا بها تقول: الله أكبر!.. في ليلة الحادي عشر، بعدما اطمأنت على سلامة الأطفال جميعهم، توجهت إلى العبادة وصلت صلاة الليل!.. لكن يا ترى كيف صلت تلك الصلاة؟.. روي عن الإمام زين العابدين (ع) قوله: (ما رأيت عمّتي تصلّي الليل عن جلوس، إلاّ ليلة الحادي عشر)،.. هذهِ زينب التي لا يفارقها ذكر الله عز وجل!..
الإمام زين العابدين (ع) لعله قرأ بعض المناجيات الخمس عشرة، والأغلال الجامعة على عنقه!.. ماذا جرى على ملائكة السماء، وهي تنظر إلى الإمام زين العابدين، وهو يقول: (يا نعيمي وجنتي!.. يا دنياي وآخرتي)!.. والدماء تسيلُ من جسمهِ الشريف؟!.. والمصيبة عظمت عندما كان ينظر إلى عماته، وقد ربطوا بالحبال كالعبيد، وكلما قَصروا عن المشي ضربوا رؤوسهم بالحديد!..
أقاد ذلـيلا في دمـشق كـأنني *** من الزنج عبد غاب عنه نصير
الخلاصة:
1- أننا ننظر لأئمة أهل البيت عليهم السلام من زوايا ثلاث: فضائلهم التي لا تنكر، وزاوية الشفاعة والوسيلة، وزاوية الاقتداء والتأسي، فنحن مأمورون بالتأسي بهم.
2- أن الخلود درسٌ من دروس النهضة الحسينية، فلماذا لا نحرص على الخلود بعد الموت؟ فرب العالمين فتح لعبده الأبواب،فمنها أن يوصي بثلث ماله في سبيل الله جل وعلا.
3- أن على الإنسان أن يحرص على العمل بتكليفه في أي ظرف من الظروف، فيتكلم ويعمل وفق مقتضى وظيفته .
4- أن ذكر الله تعالى على كل حال، من أعظم دروس كربلاء، فأهل البيت رغم شدة ما وقع عليهم لم يغفلوا عن ذكر الله جل وعلا طرفة عين.
الزاوية الأولى: زاوية الفضائل.. البعض يفتخر بأن لهُ أئمة؛ كأئمة أهل البيت -عليهم السلام- ففضائلهم لا تنكر!.. علينا أن لا نستنكر أي فضيلة تُنقل بالنسبةِ إليهم؛ هؤلاء فوقَ مستوى الخلق، ودونَ الخالق.. نهج البلاغة عندما يصفهُ البعض من المنصفين يقول: فوقَ كلام المخلوق، ودونَ كلام الخالق.. إذن، المهم أن لا نتعدى حدود الربوبية؛ فلا نغالي، ولا نجعل لهم كياناً في مقابل كيان رب العالمين.. هؤلاء فخرهم العبودية لله عز وجل!.. أعظم شخصية على وجه الأرض، هو النبي المصطفى محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- عندما نتشهد في صلواتنا اليومية، نُعلن للعالم أجمع أن النبي عبده ورسوله.. فهو قبل أن يكون رسولاً، كانَ عبداً.. فإذا كانَ الرسول صفوة العبودية، فكيفَ بمن يقول: "أنا عبد من عبيد محمد (ص)"؟.. هنا العبودية بمعنى الطاعة، فعلي (ع) أول شخصيةٍ أطاعت النبي حقَ الطاعة.
الزاوية الثانية: زاوية الشفاعة.. وقسم يستغرق في جانب الحوائج، لا يعرف الإمام إلا عند الحاجة، أو للشفاعة.. يدخر هذهِ المحبة، ليكون شفيعاً لهُ في عرصات القيامة.. فالإنسان بدلاً من أن يطرق باب زيد وعمرو، يطرق باب الحسين (ع)؛ لا بأسَ بذلك!.. ولكن ليسَ هذا كل شيءٍ في الأمر.
الزاوية الثالثة: زاوية الإقتداء والتأسي.. أئمة أهل البيت ليسوا عبارة عن لوحات زيتية، نعلقها في البيوت وننظر إليها.. فلا نتحد مع اللوحة، ولا نحاول في يوم من الأيام أن نرسم هذهِ اللوحة بأيدينا؛ فنكتفي بتعليقها، ونقول: نحن عندنا لوحة زيتية بآلاف الدنانير.. هذا المقدار لا ينطبقُ على سيرة أئمة أهل البيت -عليهم السلام-، إذ لابدَ من التأسي بهم.
ما هيَ الدروس والعبر المستفادة من نهضة الحسين (ع)؟..
أولاً: الخلود.. رب العالمين حريص على عباده، وهو الذي بيدهِ الأبدية والخلود، يقول عز وجل: (إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية).. من كانَ يتوقع أن هذه البقعة التي كان فيها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- -وادٍ غير ذي زرعٍ فيه امرأة كهاجر؛ وولد كإسماعيل (ع)، وأب كإبراهيم (ع)- أن تصبح من أغلى بقاع العالم؟!.. رب العالمين بيدهِ المباركة، جعل المؤمنين وإلى يومنا هذا يلبون دعوة إبراهيم الخليل (ع).. فهو صاحب الأبدية والخلود.
في يوم عاشوراء: هل كان يظن الذين أجروا الخيول على أجساد الضحايا والشهداء، وهي مليئة ومثخنة بالجراح.. والذين قتلوا الصغير والكبير حتى الرضيع ما أبقوه؛ هل هؤلاء كانوا يظنون أنهُ في مثلِّ هذا الأسبوع، عواصم العالم من شرق الأرض وغربها يضجون بـ: يا حسين!.. بين موالٍّ وبينَ باكٍ وبينَ متابع؟.. هذهِ الأيام ليس هناك إنسان في العالم -إلا من شذَّ وندر- لهُ صلة بالإعلام، إلا ويعرف أن هناك شخصية متميزة قتلت في يوم عاشوراء.. بعض الغربيين يتساءلون: من هذهِ الشخصية التي أسرت القلوب؟.. البعض إذا فقد عزيزا، عندما يبكي على الحسين (ع)، يخشى أن لا تكون تلك الدموع على سيد الشهداء.. يا لهُ من تأثيرٍ في القلوب!.. يخشى أن يكون البكاء نوعا من أنواع الرياء، إذ كيفَ يبكي على الحسين (ع) ويشرك معهُ عزيزه؟.. أين نرى هذا التراث في تاريخ البشرية؟!..
نعم، رب العالمين تصرف في قلوب عبادهِ المؤمنين، (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبردُ أبداً)!.. من منا لا يحب أن يكونَ مخلداً بعدَ موته؟.. الموت فناء، البعضُ منا يأتي إلى الدنيا ويذهب، وكأنهُ لم يولد؛ هذهِ كارثة!.. الإنسان المؤمن، يفكر بالأبدية والخلود.. وربُ العالمين فتحَ له الأبواب؛ في فقه الإمامية: يحق للإنسان وهو حي، أن يوصي بثلث أمواله.. ولكن هناك ملاحظة: إذا أراد الإنسان أن يوصي بالثلث، عليه فقط أن يوصي بجعل ثلث أمواله في سبيل الله عز وجل؛ دون قيد أو شرط؛ كيلا يشق على الورثة، ويرهقهم في تنفيذ الوصية.. وعليه، فإن هذهِ نعمة كبرى، بإمكان المؤمن أن يكتسب الأبدية والخلود من خلالها.
ثانياً: العمل بالتكليف.. بعدَ عاشوراء إلى الأربعين، يغلب على المنابر ذكر شخصيتين: الإمام السجاد (ع)، والسيدة زينب (ع).. بعدَ العشرة يكون الحديث عن: السبي والأسر، وعن خطبة الإمام زين العابدين في دمشق، وخطبة السيدة في الكوفة، وغير ذلك من الأحداث الكبرى.. حدث يحيى المازني قال: كنت في جوار أمير المؤمنين -عليه السلام- في المدينة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً.. وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- تخرج ليلاً: والحسن على يمينها، والحسين على شمالها، وأمير المؤمنين أمامها.. فإذا قربت من القبر الشريف، سبقها أمير المؤمنين -عليه السلام- فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن مرة عن ذلك، فقال: (أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب).. زينب (ع) هذهِ الخفرة، هذه المرأة التي كان علي (ع) يحرص عليها أشد الحرص.. وإذا بها تتكلم، ولولا صوتها الأنثوي؛ لظن الناس أن علياً (ع) بُعث من قبره.. تخطب في الكوفة، وفي الشام؛ هكذا تكليفها، رأت التكليف: أن تقوم هذا القيام، وأن تتكلم بهذا الأسلوب.
إن زينب (ع) هي تربية فاطمة (ع)؛ عن أسماء بنت عميس: أن فاطمة بنت رسول الله (ص) قالت لأسماء: إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء، أنه يُطرح على المرأة الثوب، فيصفها لمن رأى.. فقالت أسماء: يا بنت رسول الله!.. أنا أريكِ شيئا رأيته بأرض الحبشة.. فدعت بجريدة رطبة فحسنتْها ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة (ع): (ما أحسن هذا وأجمله!.. لا تُعرف به المرأة من الرجل).. فاطمة في منتهى العفة والحياء، ولكن إذا لزم الأمر تخرج هادرة بصوتها، لنصرة إمامِ زمانها؛ أمير المؤمنين (ع)!.. طوبى لعلي!.. إذ لهُ مأمومة كفاطمة الزهراء (ع)، فاطمة كانت تفتخر بأن إمام زمانها أمير المؤمنين (ع).. لما اشتدت علة فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وآله- وغلبها، اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار، فقلن لها: يا بنت رسول الله!.. كيف أصبحت عن علتك؟.. فقالت (ع): (... وما نقموا من أبي الحسن؟.. نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطئه، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله عز وجل...).. الإنسان عبد التكليف في أي ظرفٍ من الظروف، يتكلم على حسبِ ما تقتضيه وظيفته.
ثالثاً: ذكر الله على كل حال.. الذي يستنكر بعض الأمور في سيرة أهل البيت (ع)، نقول لهم: هؤلاء مثلوا العبودية والتوحيد بأجلى صورها، ذكر الله -عز وجل- خامرَ لحمهم ودمهم، في كل خطوة من خطوات حياتهم.. الحسين (ع) في اللحظات الأخيرة من عمره، كان يناجي ربه قائلا: (رضا بقضائك، وتسليما لأمرك، لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين)!.. هكذا موحد، هكذا عابد، ألا يخلد ذكرهُ في العالمين!.. لو أقمنا ذكرَ الحسين عندَ الكعبة، وفي المسجد الحرام؛ لكانَ الأمرُ في محلهِ.. لأنَ هذا بطل التوحيد، عليٌ محطم الأصنام، والحسين (ع) محطم الأصنام في زمانه.
إن صلاة زينب ليلة الحادي عشر من شهرِ محرم؛ صلاة متميزة في تأريخ البشرية.. امرأة مرهقة بما جرى عليها، ليس فقط في صبيحة يوم عاشوراء، بل من اليوم التاسع حُوصرَ الحسين، والعطش أخذَ منها كل مأخذ.. مصائب زينب (ع) أشد من مصائب الحسين (ع)؛ زينب رأت ما رأى الحسين وزيادة؛ لأنَ الحسين (ع) عندما قُتل وقعَ في أحضان أمهِ فاطمة، ولكن زينب رأت الأسر، ورأت ما عملهُ شمر في ذلك اليوم: (يا عمر بن سعد!.. أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه)؟.. رغم كل ما مر عليها، وإذا بهذهِ السيدة تصلي صلاة الليل!.. ولكن أينَ صلت: هل في الخيامِ المحترقة؟.. هل بجوار ابن أخيها زين العابدين، وهو يأن؟.. هل صلّت بجوارِ جسدِ أخيها وشقيقها وفلذة فؤادها الحسين (ع)؟.. وريح الصبا تمر على دماء القتلى، فتشم رائحة الدم، وإذا بها تقول: الله أكبر!.. في ليلة الحادي عشر، بعدما اطمأنت على سلامة الأطفال جميعهم، توجهت إلى العبادة وصلت صلاة الليل!.. لكن يا ترى كيف صلت تلك الصلاة؟.. روي عن الإمام زين العابدين (ع) قوله: (ما رأيت عمّتي تصلّي الليل عن جلوس، إلاّ ليلة الحادي عشر)،.. هذهِ زينب التي لا يفارقها ذكر الله عز وجل!..
الإمام زين العابدين (ع) لعله قرأ بعض المناجيات الخمس عشرة، والأغلال الجامعة على عنقه!.. ماذا جرى على ملائكة السماء، وهي تنظر إلى الإمام زين العابدين، وهو يقول: (يا نعيمي وجنتي!.. يا دنياي وآخرتي)!.. والدماء تسيلُ من جسمهِ الشريف؟!.. والمصيبة عظمت عندما كان ينظر إلى عماته، وقد ربطوا بالحبال كالعبيد، وكلما قَصروا عن المشي ضربوا رؤوسهم بالحديد!..
أقاد ذلـيلا في دمـشق كـأنني *** من الزنج عبد غاب عنه نصير
الخلاصة:
1- أننا ننظر لأئمة أهل البيت عليهم السلام من زوايا ثلاث: فضائلهم التي لا تنكر، وزاوية الشفاعة والوسيلة، وزاوية الاقتداء والتأسي، فنحن مأمورون بالتأسي بهم.
2- أن الخلود درسٌ من دروس النهضة الحسينية، فلماذا لا نحرص على الخلود بعد الموت؟ فرب العالمين فتح لعبده الأبواب،فمنها أن يوصي بثلث ماله في سبيل الله جل وعلا.
3- أن على الإنسان أن يحرص على العمل بتكليفه في أي ظرف من الظروف، فيتكلم ويعمل وفق مقتضى وظيفته .
4- أن ذكر الله تعالى على كل حال، من أعظم دروس كربلاء، فأهل البيت رغم شدة ما وقع عليهم لم يغفلوا عن ذكر الله جل وعلا طرفة عين.